في سبيل مواكبة العصر والتأقلم مع معطياته الرقمية، تفاعل الروائيون مع الفضاء الرقمي الافتراضي، خاصة عندما وجدوا فيه حرية تعبيرية قلمّا تتوافر في الفضاء الاجتماعي الفعلي. نتيجةً لهذا التفاعل ظهر نمط روائي (لا يزال يبحث عن شرعية وجوده عربيًا) أُطلق عليه الرواية الرقمية (التفاعلية) التي لا يمكن قراءتها، إلا من خلال التفاعل مباشرة مع الوسيط الرقمي (الحاسوب المتصل بالإنترنت)، الذي لم يَعُدْ أداةً فقط لنقل التجربة الروائية، إنما أصبح عنصرًا فاعلًا في تشكيلها من خلال توظيف تقنياته المختلفة (الصوت، والحركة، والفيديو، واللون..إلخ) إلى جوار البنية السردية ( الراوي، والشخصيات والمكان، والزمان، واللغة).
والمتتبع لحركة هذه الرواية يُدرِكُ أنّ هناك مجموعة من التحديات التي قد تقفُ عقبة أمام تطوّرها خاصة في البيئة العربية، وأنّها لكي تُصبح تيارًا فنيًّا له حضورُهُ في وعينا العربي؛ عليها تجاوز هذه التحديات التي استُنْبِطتْ من واقع الروايات المنتجة حتى الآن من ناحية، ومن موقف المتلقين منها من ناحية أخرى، من هذه التحديّات (من وجهة نظري):
1ـــــ تحدي(البقاء لمن؟):
"هناك تصوّر يرى أنّ الرواية الرقميّة تُشكِّل قطيعةً مع الرواية الورقيّة، إلى درجة القول باختفاء النصّ الورقي":
إنّ فكرة اختفاء الكتاب الورقي مسألةٌ متداولة في أوساط المهتمين بالدراسات الرقميّة، خاصة الذين يرون في مبالغة منهم أنّ المستقبل سيكون للوسيط الرقمي، وهم يتناسون أنّ القول بوجود قطيعة بين الأدب في تجليه الرقميّ، والأدب في طابعه الورقي بتعبير" زهور كرام" طرحٌ يلغي من منطقة التفكير النقدي تاريخَ نظرية الأدب التي تُقرّ بمبدأ الاستمرار والتعايش على مستوى الوسائط والأشكال التعبيرية، فتجربة الأجناس الأدبية لا تقول بموت جنس أدبي، أو بتلاشي شكل تعبيري بشكل نهائي، وإنما تقول بمعنى التشرّب في الجنس اللاحق؛ لأن الأدب هو حياة تنتعشُ من تاريخها(). بل هناك من رأى أنّ القول باختفاء الكتاب - بوصفه تجسيدًا للوسيط الورقي- والاقتراب منه يعني الاقتراب من إحدى دعامات حضارتنا، وأنّ هناك أسبابًا تمنع من الاعتقاد بمثل هذا القول، خاصة وأنّ الكتاب يملك أوراقًا رابحةً يدافع بها عن نفسه، لا تستطيع الشاشة منافسته فيها، منها: راحة القراءة التي يقدّمها، وسهولة الاستخدام التي تخصه، ومتعة اللمس والنظر الخالصة التي يقدمها، ولذلك يمكن الاعتقاد بعقلانية أن ساعة إعلان وفاة الكتاب ليست على جدول الأعمال(). إذا كان الأمر بهذه الصورة فلِمَ القول بمفردات مثل القطيعة والاختفاء؟ لِم لا نفكِر في أنّ الوسيط الرقمي قد يسهم مستقبلًا في الحفاظ على السرديّة الورقيّة الموجودة بين أيدينا اليوم، وأنّه قد يعمل على تقديمها في شكل مغاير يتناسبُ مع متطلبات العصر؟
إنّ القضية الأساسية التي ينبغي مقاربتها ليست في عملية تلاشي الورقي في ظل وجود الرقمي، إنما تتمثّل في الإيمان بأنّ ثقافتنا العربية تحتاجُ إلى روح التجديد وتوسيع الأفق في كافة المستويات، وأنَّ هذا الهدف المنشود لن يتحقَّقُ إلا من خلال التحاور والتفاعل مع كلّ ما تنتجه العقليّة المعاصرة، وذلك للّحاق بركب التكنولوجيا الذي لا يتوقف، من أجل ترْك بصمة ثقافية يمكن لها أن تُحدث طفرةً تقدميةً في تاريخنا الأيديولوجي، وهذا هو التحدي الذي يقعُ خاصة على عاتق المبدعين والمثقفين العرب الذين تُعَدُّ عمليةُ انخراطهم في رهان الممارسة الرقميّة إنتاجًا وتنظيرًا (بتعبير زهور كرام) خطوةً حضاريةً بامتياز.
بناءً على هذا الطّرح، فإنّه من الأوْلى للرقميّ مناقشة كيف يتآزرُ مع الورقي في سبيل إيجاد خصوصية إبداعية تميّزُ الثقافة العصريّة ـــ خصوصًا على المستوى العربي ــــ عن بقيةِ الثقافات الأخرى؟ أجدر به أن يفكِّر: كيف يطوِّر إمكانات الورقيّ بحيث تنسجم مع متطلبات العصر، ويكون قادرًا على البقاء لأزمنة طويلة، بدلًا من التفكير في نفيه وإلغائه؛ فقد يحتاجُ الرقمي إلى الورقي في مرحلة متقدّمة عندما تخونه أدواته الوسائطيّة.
2ــ تحدي (البحث عن تكنيك فني مُتجدد):
إذا كان التحدي الأول متعلقًا بالوسائط وما بينها من علاقات متكاملة ومتنافرة، فإنّنا هنا أمام تحدٍّ ينطلقُ في ماهيته من البنية الداخليّة لما أُنتج سرديًّا في البيئة العربية بدايةً من روايات محمد سناجلة: (ظلال الواحد، وشات، وصقيع، وظلال العاشق)، مرورًا بروايات عبد الواحد أستيتو: (على بُعد مليمتر واحد فقط، والمتشرّد)، ورواية (على قد لحافك ) للمدونين المصريين: بيانست، وسولو، وجيفارا، ثم ختامًا برواية (الزنزانة 06) لحمزة قريرة.
فاللافت للنظر هو أنّه على الرغم من حداثة هذه الروايات، إلا أنّها لم تتخلّص كليّةً من الطابع التقليدي للحبكة السرديّة، بمعنى أنّنا إذا قمنا بتجريد الرواية من المؤثراث الصوتيّة، والحركيّة، والبصريّة، لاكتشفنا أنّنا أمام نصّ تقليدي البناء لا يختلفُ عن الرواية التقليديّة في مرحلة ما قبل ظهور الحاسوب والإنترنت، لذلك يمكن القول بأنّ المنشغلين بفكرة إبداع الرواية الرقميّة، ليس لديهم ـــ حتى اللحظة الراهنةــــ تقنيات وتصوّرات فنيّة متعددة من شأنها جذب القارئ وإدهاشه مع كل تجربة، فكثيرون قد اندهشوا عند قراءة رواية "شات" لمحمد سناجلة، بصورة تفوقُ اندهاشهم برواية "ظلال الواحد" التي سبقتها بسنوات، والسبب في ذلك أنّ "شات" انطوتْ على تقنياتٍ جديدة لم يوظّفها نصُّ الظلال، لكن مع رواية" ظلال العاشق" التالية لشات، انخفض مستوى هذا الاندهاش، لسبب بسيط وهو أنّ قارئ" ظلال العاشق" لم يجد فيها شيئًا ملموسًا وجوهريّا على المستوى التقني يختلفُ عن "شات"، وهذا شأن كثير من النصّوص الأخرى، التي تعتمد في تقديم مادتها على الروابط والمؤثرات البصريّة، والسمعيّة، والحركيّة، فما وجدناه في متشرد "عبد الواحد أستيتو" هو نفس ما وجدناه في رواية "على بُعد مليمتر واحد فقط"، الأمر الذي يجعلنا نُقرّ بأنّ التحدي الذي تواجِهُهُ السرديّة الرقميّة العربيّة فيما يتعلّق ببنائها الفني؛ يتمثّل في البحث عن شكل مُتجدّد لا يجعل من التجارب أعمالًا متشابهة فيما بينها، وأنّه على المبدع الرقمي ألا ينشغل فقط بفكرة الرابط الإلكتروني، وتضمين المؤثرات التي متى ما جُرِّدت من النصّ،أصبح نصًّا كلاسيكي البناء، لا يختلِفُ عن النصّوص التي تُقدَّم عبر الوسيط الورقي، لِيُصبح الوسيط الرقميّ في هذه الحالة مجرد وعاء أو قالب حامل فقط للتجربة، ليس له أيّ تأثير في استراتيجياتها الفنيّة.
إنّنا بحاجة إلى تجديد في طرائق السرديّة الرقميّة، تجديد يؤهلنا مستقبلًا للحديث عن اتجاهات وتيارات تختصُّ بهذه السرديّة، كما هو شأن اتجاهات الرواية الورقّية، فــ"نجيب محفوظ" على سبيل المثال له خصوصيتُهُ الفنيّة التي تميّزُهُ عن " يوسف إدريس"، و"يوسف إدريس" له تصوّراتُهُ التي ينفرِدُ بها عن "حنا مينا"...إلخ، فهل ينجحُ المبدع الرقمي في مواجهة هذا التحدي، والتغلّب عليه من خلال التفكير في أدوات وطرائق فنية جديدة تُدهش المتلقي مع كل تجربة؟ وهل الجماليّة الوحيدة للسرديّة الرقميّة تقتصِرُ فقط على توظيف الروابط المتشعبة؟
على الروائيين الذين اتّخذوا من العوالم الرقميّة ساحةً يبثّونها همومَهم الإبداعيّة؛ أن يبتكروا نصوصًا تجعل لكل واحد منهم تيارًا أو اتجاها خاصًا يُعرف به، وربما كان هذا التحدي هو السبب الذي جعل كتابات النقاد حول الروايات الرقميّة متشابهةً مع بعضها من حيث الحديث عن الروابط الإلكترونيّة، ووظائفها السرديّة والبلاغيّة، وعلاقة الكلمة بالمؤثرات الصوتيّة، والحركيّة، والبصريّة، وأشكال التفاعل (الداخليّ والخارجيّ)، وهو ما يمكن إدراكه من خلال تتبّع المقاربات النقديّة التي حاورتْ رواية (شات) لمحمد سناجلة على سبيل المثال.
3ـــ تحدي (القراءة):
من التحديات التي تُواجِهُ الرواية الرقميّة ما يتعلّقُ بمسألة القراءة: بأي طريقة تُقْرَأ الرواية الرقميّة؟ هل الآليّة النقديّة التي نقاربُ بها هذه الرواية هي نفسها التي كانت موجودة سلفًا، أم أنّ هناك آليات أخرى يفرضُها هذا النمطُ من السرد؟ هل نحن أمام نقد رقمي مغاير للأدوات االنقدية المتعارف عليها، بحيث يُمكِن أن يُشَكِّلَ تيارًا مستقلًا بنفسه، أم أنّنا أمام نقد تقليديّ حاول تطويع آلياته وتطويرها بحيث يتمكّنُ من فَهْم الإبداع الجديد؟
نظريًّا:
إنّ النصّ الجديد يفترِضُ قراءةً جديدةً بمعايير تنسجمُ مع المادة المُقدّمة، معايير تختلفُ عن السائد والمتعارف عليه في أدبيات النقد، وهذا لا يعني القطيعة مع الأدوات القرائيّة القديمة، إنما ما نعنيه تحديدًا هو البحث عن أدوات جديدة تتناسبُ مع ماهية النصّ الجديد، وهذا يعني أن يطوّر الناقد من أدواته، وأن يكون على إلمام تامٍ بمكونات الوسيط الرقمي ولغته، وهو ما أكّد عليه كثير من المهتمين بالثقافة الرقميّة، أمثال: " السيد نجم"، و"محمد سناجلة"، و"عمر زرفاوي"، و"منذر المطيبع".
عمليّا:
ما أُنْتِج في الرواية الرقميّة حتى الآن، على الرغم من توظيفه لمجموعة من التقنيات الجديدة، إلا أنّه لم يتخلّص من السمات التقليدية للحبكة السردية خاصة في بُعْدها التتابعي، وأنه اتّخذ في معظمه من الوسيط الرقمي قالبّا فقط للأحداث الروائيّة، ولذا فإن معظم الدراسات التطبيقيّة التي قاربت الروايات الرقميّة، قد انطلقت في قراءتها من بوابة النقد التقليدي، فأصبحنا أمام دراسات وصفيّة تهتمُّ بوصف الإطار العام للنص التفاعليّ، وما ينطوي عليه من روابط وتقنيات إلكترونيّة، ودراسات سيميائيّة حاولت قراءة الصور والمؤثرات الصوتيّة والحركيّة من منظور علاماتي، ودراسات شعرية بنيوية..إلخ، وهو ما يمكن ملاحظته في دراسات نقديّة، مثل: شعرية النصّ التفاعليّ للبيبة خمار، وسيميائيات المحكي المترابط، لعبدالقادر فهيم شيباني، وأدب. Com، لفاطمة كدو، والرقميّة وتحوّلات الكتابة (النظريّة والتطبيق) لإبراهيم أحمد ملحم.
وربما الذي فَرَض هذه القراءة هو طبيعة النصّ الحالي الذي لم يتخلَّ عن الكلمة ولم يكتفِ بذلك، بل أعطى لها مساحة تفوقُ بكثير التقنيات الرقميّة الموظفة فنيًّا، وبهذا يكون الحديث عن وجود نقد رقمي خالص أمرًا صعب التحقّق حتي اللحظة الراهنة؛لكوْنه يفترضُ طابعًا خاصًا يتمثّل في ضرورة أن يكون هناك ناقدًا رقميّا يُوازِي في أداوته المبدع الرقمي، ناقدًا لا تقتصر قراءته على تسجيل الانطباعات في صورة كتابة ورقيّة لاحقة للنص، إنما تكون آنيةً تُحاور المبدع مباشرة في الفضاء الذي اختاره، وبنفس التقنيات التي استعملها.
من هنا علينا إعادة السؤال مرة أخرى: هل وصْف الكتابات النقديّة التي حاورت المُنْجزَ السرديّ الرقميّ؛ بأنها نقد رقمي هو وصف دقيق؟ وهل يعني القول بوجود نقد رقمي أنّ هناك نقدًا تقليديًّا ورقيًّا لنعيد بذلك إشكاليّة الحديث عن الوسيط وعلاقته بالنقد كما هو الحال مع الرواية، ولربما يظهر علينا مَنْ يقولُ بحتمية اختفاء النقد التقليدي؟
في تصوّري، إنّنا لم نخرج بعد من رِبْقة النظرية النقديّة المتعارف عليها، لكننا أدخلنا عليها مفاهيم جديدة فَرَضَها النصّ الرقمي، مثل: بلاغة الرابط ومؤثرات المالتيميديا، وهذا لا يعني أننا حققنا بذلك مفهوم النقد الرقمي، الذي يُفترض أنه يُنتج كتابةً وتلقيّا داخل الإطار النصّي للتجربة، بحيث لا يمكن التمييز بين الشيء المُبْدَع والشيء المقروء، وذلك ربما لسببيْنِ: أولهما: أنّ النصّوص المُقَدّمة هي نصوص تقليديّة البناء، قد تَرَكت مساحةً كبيرةً للكلمة، وجاءت المؤثرات التقنية في الغالب خادمةً لهذه الكلمة. ثانيهما: أنَّ قارئ اليوم ليس مؤهلًا لمحاورة التقنيات الرقميّة المُبدَعة بأدوات نقديّة رقميّة موازية، إضافةً إلى أنّ المبدع لا يزالُ هو المتحكّم في نصّه إلى درجة أنّ بعض القراء يشتكون من أنّ هناك صعوبة في التوصّل إلى مكان الروايات الرقميّة، وإذا توصلوا إليها، فإنّها لا تنفتحُ لهم تلقائيًّا إلا من خلال تطبيقات معينة.