فى اللحظة التى ورد فيها مصطلح (حروب الجيل الرابع)، على لسان البروفيسور ماكس مايوراينك فى معهد الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلى، عام 2004م، تغيَّر مسار الحروب، فى كل أنحاء العالم، وانقلب رأساً على عقب ... فمنذ ظهرت القبائل والمجتمعات الصغيرة، فى زمن الإنسان البدائى الأوَّل، كانت الحروب تدور كلها فى صورة تصادمية .. فرسان ضد فرسان، أو جيوش ضد جيوش، وأسلحة تواجه أسلحة، سواء أكانت تلك الأسلحة هراوات، أو سيوفاً، أو بنادق ومدافع، أو حتى دبَّابات وطائرات .. ثم كشف مايوراينك عبث هذا، والخسارة الكبيرة، فى حال الحروب التصادمية، وربط هذا بالحرب العالمية الثانية، التى راح ضحيتها خمسون مليوناً، من العسكريين والمدنيين، وتدمَّرت بسببها نصف أوروبا، وزالت فى نهايتها مدينتان من الوجود .. هيروشيما وناجازاكى.
وتحدَّث مايوراينك عن حروب من نوع جديد، لا تتصادم فيها الجيوش أو تتواجه، وإنما يبث خلالها طرف ما سمومه، فى كيان الطرف الآخر، ليشيع فى كيانه الفوضى، ويملأ نفسه بالإحباط والغضب، ويثير انفعالاته ومشاعره، بحيث يقوم وحده على هدم كيانه بيديه، متصوِّراً أنه يحميه .. تماماً كالدب الذى قتل صاحبه؛ ليبعد عن رأسه ذبابة، أو كالأمراض المناعية، التى تفقد خلالها الخلايا وعيها وإرادتها، فتبدأ فى مهاجمة بعضها البعض، داخل الجسد الواحد، حتى يفنى الجسد وتفنى معه، وهى تتصوَّر طوال الوقت، أنها إنما تحمى وجوده.
البروفيسور مايوراينك وضع عدة نقاط لشن حروب الجيل الرابع، كالإرهاب، والضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبث الفوضى وروح التمرُّد ... ولأن هذا العصر يختلف عن كل ما سبقه، من حيث ثورة الاتصالات والثورة الرقمية، فقد كانت أهم أسلحة حروب الجيل الرابع، هى السلاح الرقمى، عن طريق أجهزة الكمبيوتر، ووسائل التواصل الاجتماعى ... والواقع أن حروب التكنولوجيا قد بدأت فعلياً، قبل هذا بعدة سنوات، ومنذ ظهر مصطلح الحرب الإلكترونية، التى يقول تعريفها العلمى: إنها مجموعة من الإجراءات الإلكترونية، التى تتضمن استخدام بعض النظم والوسائل التكنولوجية، لرصد اتصالات العدو، أو منعه من رصد اتصالاتنا.
وجذور الحرب الإلكترونية تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914 – 11 نوفمبر 1918م)، وبالتحديد منذ بدأ استخدام الوسائل السلكية فى الاتصال، عن طريق التلغراف، بإشارات مورس عام 1837م، ولذلك كانت خطوط التلغراف هدفاً مهماً للجيوش؛ لقطع اتصالات العدو بخطوطه الأمامية، أو حتى لمنع جواسيس العدو، من رصد اتصالاتنا بقواتنا، وفى حالات الحروب، كان كل طرف يعمد إلى قطع خطوط التلغراف، واستبداله بالرسائل المكتوبة ... ثم كانت بداية استخدام الاتصالات اللاسلكية، عن طريق الألمانى هرتز (Hertz) عام 1888م، ثم أتى ماركونى (Guglielmo Marconi) المهندس والمخترع الإيطالى، فى منتصف عام 1870م، ليطوّر الاتصال اللاسلكى، بحيث يمكن بوساطته الاتصال بالقطع البحرية، وهذا ما تم عام 1901م ... ومع انتشار اللاسلكى، بدأت عمليات الشوشرة غير المتعمدة أو المقصودة، مع تزايد استخداماته، وتداخل موجاته الكهرومغناطيسية، ولكن فى عام 1904م قصفت السفينتان اليابانيتان الحربيتان (كاسوجا) و(ينشين) القاعدة البحرية الروسية، فى ميناء أرثر، وكانت معهما سفينة صغيرة تصحح لهما مسار النيران، وبالمصادفة، التقط أحد عمال الإشارة الروس اتصال السفينة الصغيرة، وأدرك الدور الذى تلعبه، فما كان منه إلا أن ضبط جهازه اللاسلكى على الموجة نفسها، وتداخل معها، مما أعاق اتصالاتها بالسفينتين الحربيتين ... ومنذ ذلك الحين بدأ استخدام الشوشرة اللاسلكية كسلاح فى الحروب ... بعدها تطوَّرت الأمور إلى عصر الترانزستور، وأجهزة الرادار، وأجهزة التصويب ... حتى جاء العصر الرقمى ... والعصر الرقمى هو ذلك الزمن، الذى تحوَّلت فيه البيانات والمعلومات، إلى منظومة مرتبة، من الرقمين صفر وواحد، بحيث أصبح كل شئ وكل معنى، وحتى كل لون أو نغمة مجرَّد رمز، بالنسبة لأجهزة الكمبيوتر، التى كانت فى بدايتها أجهزة كبيرة عملاقة، تحتاج إلى صالات واسعة، وتستخدم شرائط تسجيل عادية، لتسجيل أية معلومة واسترجاعها، ثم سرعان ما قفزت قفزة عملاقة، مع مزجها بتكنولوجيا الليزر، فصارت تلك الصالة الواسعة مجرَّد أسطوانة مدمجة، وجهاز الكمبيوتر المعقــَّد العملاق مجرد آلة صغيرة، فى حجم تلفاز عادى، يمكن أن يتعامل معها أى طفل.
وبسرعة مدهشة، وخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، قفزت التكنولوجيا الرقمية قفزات واسعة، بحيث صارت متوافرة لكل من يحمل هاتفاً جوالاً، أياً كانت سنوات عمره، أو كانت خبراته أو عقليته ... وكان من الطبيعى، والحال هكذا، أن تندمج الشبكة العنكبوتية، التى نشأت فى الأساس كوسيلة اتصال عسكرية، مع أجهزة الكمبيوتر والهواتف، لتظهر إلى الوجود برمجيات تواصل عالمية، وهى التى نطلق عليها اليوم وسائل التواصل الاجتماعى ... وهنا اتسعت ابتسامة زبانية حروب الجيل الرابع، وأدركوا أنهم قد وضعوا أيديهم على أهم وأخطر أسلحة حروبهم الجديدة ... فعبر وسائل التواصل الاجتماعى، يمكن ربط الملايين معاً، وتوجيه أى شيء تشاء إليه، بحيث يتحولون، دون إدراك منهم، إلى قطيع شارد، يقوده كل من ينجح فى جذبه إليه، أياً كانت الوسيلة ... ولأنها حرب جديدة، وغير تقليدية، ولا يرصد الناس فيها دبَّابات تتصادم، أو طائرات تتقاتل، أو حتى جنودًا مشاه، يتبادلون إطلاق النيران، فمعظم الناس لا يمكنهم تصوّر أنها حرب، وأن القتال الذى يدور فيها أخطر وأشرس وأعنف من كل حرب عرفها التاريخ ... فهى حرب تلعب وتقاتل أصعب ما فى الإنسان ... عقله ... ولأن معظم الناس يثقون فى حواسهم، بأكثر مما يثقون فى عقولهم، ولأن التكنولوجيا الرقمية أيضاً يمكنها اصطناع وتزييف وتغيير كل الحقائق، حتى الصوت والصورة، فإنهم يجعلونك تسمع وترى، فينخدع عقلك، وتتصوَّر أن ما أمامك حقيقة، ما دمت تسمعه وتراه، دون أن تتصوَّر أنه مجرَّد تركيبة رقمية، فما تسمعه ليس ما كان يقال، وما تراه ليس فعلياً كما تراه، وقد جاء هذا فى أحد الأفلام الأمريكية، التى ظهرت فى بداية الألفية الثالثة، حول حرب وهمية، زيفتها المخابرات الأمريكية، بالصوت والصورة، لتشغل الشعب بحقيقة مريعة تحدث.
والواقع أن وسائل التواصل الاجتماعى سلاح بالغ الحساسية والخطورة، فالناس ارتبطت بها، على نحو أشبه بالإدمان، وأصبحت تستقى كل معلوماتها تقريباً عبرها، دون أن تسأل نفسها، عن الجهة التى تصدر المعلومة، ولأى غرض !!... وسر جاذبية وسائل التواصل الاجتماعى أنها تفاعلية، فمعها أنت لا تتقبل فحسب، ولكنك تستطيع أن تشارك، وأن ترسل أيضاً ... وعيب معظم الناس، أنهم يسعون للتميز، دون تحديد مجال هذا التميز بالضبط، ولهذا فما أن تصلهم معلومة، يتصوَّرون أنها صحيحة، حتى يسارعون بنقلها إلى الآخرين، دون محاولة التيقن من صحتها أو عبثها، أو الغرض الحقيقى منها، ووفقاً للمعادلة الهندسية المتوالية، فيكفى أن ترسل خبراً ما إلى خمسة أشخاص، حتى يصل إلى ما يقرب من المليون شخص، فى أقل من أربعة وعشرين ساعة فحسب، وبالتالى صار انتشار ونشر الشائعات أمراً يسيراً، وصار الإحساس بالمسئولية الرقمية منالاً بعيداً، وخاصة فى غيبة القوانين المنظمة للعالم الرقمى، الذى صار يعانى من فوضى عارمة، نظراً لأن الكل يدلى فيه بدلوه، سواء أكان دلوه هذا يحوى ماءا مقطراً، أم أوساخاً نتنة.
والسؤال دوماً هو: كيف يمكن مواجهة تلك الحرب الرقمية الشرسة، فى فضاء سيبرانى بلا حدود ؟!... الجواب هو أن هذا أمر عسير لأقصى حد، ويحتاج على متابعة شبه مستحيلة، ورقابة أكثر استحالة ... هذا لو نظرنا إلى الأمر من منظور أمنى بحت، أما على الجانب الآخر، فالحرب الرقمية تزدهر، فى غياب الحقائق المعلنة، وتذوى فى حضورها، وهى ليست قاعدة يمكن الاعتماد عليها، فكل الوثائق، غير البالغة السرية، متاحة فى بلدان مثل أمريكا وأوروبا، وعلى الرغم من هذا، فالحرب الرقمية تدق طبولها طوال الوقت، عبر الشبكة العنكبوتية، وتزداد شراسة، مع نمو وتطوّر التكنولوجيا، وأكثر من نصف الشعب الأمريكى يؤمن تماماً، بأنه محاط بمؤامرات وتآمرات حكومية؛ لحجب أخطر المعلومات والحقائق عنه، مثل حقيقة الأطباق الطائرة، وكائنات روزويل، والمنطقة 51 وغيرها ... ولقد شهدت العقود الأخيرة عدداً من الهجمات الرقمية الكبرى، حتى أن البعض يعتقد أننا على مشارف الحرب العالمية الرقمية الأولى، ومعظم الدول الكبرى تستعد لهذا بالفعل، فالصين تحصن نفسها بجدار نارى؛ لمنع اختراق أجهزة الكمبيوتر لديها، وروسيا تسعى لامتلاك شبكة إنترنت مستقلة، حتى لا ترتبط بالشبكة العالمية، وأمريكا تختبر قدراتها على التصدّى للهجمات الرقمية طوال الوقت ... والكل بلا استثناء يؤمن بان الحرب الرقمية هى الإرهاب الجديد، خاصة وأن الرقميات لا تقتصر على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى وحدها.
فالأسلحة الحديثة كلها تعتمد على الرقميات، وميادين القتال صارت ميادين رقمية، ومعظم أو كل الأسلحة الحديثة تدار بوساطة الرقميات، من الطائرات والدبابات والمدرعات، إلى أسلحة الأفراد الحديثة، ولهذا تسعى أمريكا منذ زمن، لابتكار قنبلة كهرومغناطيسية، ذات قدرات عالية، بحيث يتم تفجيرها فى سماء العدو قبيل المعركة، لتطلق موجة كهرومغناطيسية جبارة، قادرة على شل كل رقميات العدو، من أسلحة، إلى رادارات، إلى أجهزة كمبيوتر واتصالات، وحتى الهواتف المحمولة، وبهذا تشل قدرة العدو تماماً على القتال والدفاع ... ومن حسن الحظ أن هذا لم يكتمل بعد، على النحو الذى يستثنى أسلحة الهجوم من الشلل ... والواقع أننى أتفق مع كل ما يراه المحللون العسكريون، بالنسبة لأية حرب محتملة قادمة، فهى لن تكون حرباً نووية، وخاصة بعد أن أدرك العالم التأثيرات المميتة والممتدة للإشعاعات النووية، بل ستكون، ودون أدنى شك، حرباً رقمية، تنهار فيها دول كثيرة، دون إطلاق رصاصة خارجية واحدة ... فقط عبر الصفر والواحد، ووسائل التواصل الاجتماعى ... المدمرة.