أحدث الإحصائيات المتخصصة في صناعة النشر، كشفت أن القُرّاء الذين اشتروا كتابًا واحدًا على الأقل خلال العام الماضي ، يمتلكون جهازًا إلكترونيًّا قارئـًا، أو يخططون لامتلاك أحدها العام المقبل، في إطار تفضيلهم للقراءة الإلكترونية على الورقية. بينما يتبنّى فريق آخر نظرية عدم الاستغناء عن الكتاب الورقي، وأن مكانته ستبقى لدى جماهير غفيرة من القرّاء، وأنّ كثيرًا من الناس يرون في الشكل الورقي التجسيد الأمثل لقيمة الكتاب والاستفادة من مضمونه. وفي هذا الصدد علّقَ الروائي الإيطالي الراحل "أمبرتو إيكو"على انتشار الكتاب الإلكتروني بالقول: إنه لن ينسخ أو يُلغي الكتاب الورقي. وضرب مثلًا بأن السيارة - كاختراع أحدث وأسرع - لم تُلغِ الدراجة.
ذلك الجدل كان الموجة الأولى من الثورة الإلكترونية في عالم الكتاب. ويبدو أن تصورات "إيكو" - مثل أغلب أبناء جيله - قد توقفت عند الصراع التقني فيما بين الإلكتروني والورقي، أي الشكل الذي يصدر عليه الكتاب. ولم يتصوّر "إيكو" مُطلقًا أن يقتحم المَدُّ الإلكتروني العنكبوتي حرم الإبداع المقدس في ثورة شاملة، ويصوغ بنفسه ملامحه، ويغيِّر وجهه التقليدي. لقد تجاسرت الرَّقْمَنَة المتسرطنة في كافة المجالات الحيايتة والإنسانية، واختارت لنفسها مضمارًا شائكًا عريقًا، واقتحمته بكل جُرأة، ألا وهو مضمار الرواية.
مع ذلك الغزو، بدأ الحديث عن ظهور الرواية الرقمية!. المصطلح - في حد ذاته - ربما يكون غير دارج، وربما أيضًا يحدث فيه خلط بينه وبين الرواية الإلكترونية (غير الورقية). ولكن الواقع المعاصر يفترض في الرواية الرقمية أنها إبداع جديد مختلف، يتجاوز أسلوب كتابة الرواية التقليدية، في كونها نصًّا مرنًا لا يعتمد بشكل كامل على اللغة الوصفية أو الحوارية في البناء السردي، أو التصوير المشهدي المتعارف عليه في نظريات السرد الروائي، إذْ يتجاوز الكتابة الحَرفيّة إلى مداخلات أخرى يتكون منها النص إجمالًا، مثل إيجاد وتضمين مؤثرات بصرية وسمعية وموسيقية، وربما خرائط وصور رُبَاعيّة الأبعاد، وسائر المستجدات الرقمية التي يمكن تضفيرها فيما بين طيات العمل الروائي حسب الحاجة إليها، كأن يتحدث الروائي في المتن مثلًا عن مقطوعة موسيقية أو مكانٍ ما أو انطباعٍ ما، فتقوم الوسائط المدمجة في المتن - على شكل أيقونات إلكترونية - بتقديمها بشكل فوري ومرئي ومسموع، عوضًا عن توظيف قدر معين من الكلمات، أو الاعتماد عليها بشكل كُليٍّ كوسيلة وحيدة للسرد.
وفي ذلك السياق بإمكاننا أن نُعرِّف الرواية الرقمية - أو التفاعلية - باعتبارها نوعًا متقدمًا ومتوسعًا من المزج بين فن الرواية وبين عدد من الفنون الأخرى المجاورة، بحيث يصبح نص الرواية الرقمية - في حد ذاته - بمثابة نص ملحمي، متعدد الفنون ومتنوع الأدوات والوسائط، من صوت وصورة وكلمة، يتسم بلغة فنية جديدة، لا تكون الكلمة فيه كل شيء، بل مجرد جزء من كُلٍّ، هذا الكل الذي يتشكل قوامه من الصورة والصوت والمشهد السينمائي والحركة. وفي هذا الإطار يكون من المنطقي أن يتقلص عدد كلمات النص بشكل كبير. أمّا عن الجملة - في حد ذاتها - فمن المفترض أن تكون مختصرة وقصيرة، لا تركن كثيرًا إلى التراكيب اللغوية والمفردات البلاغية. فالدور المعتاد الذي تقوم به الكلمة هو رسم مشاهد ذهنية ومادية متحركة، ولكنها الآن ستعمل على "مشهدة الأحداث المتخيلة" بشكل يتسق في الأساس مع المُدخلات السمعية والبصرية في النص، وتدلل عليه، وتشير إلى فنيّاته وتبرز جمالياتها.
من هنا يتأكد لنّا أن الرواية الرقمية لا تفترض في الروائي أن يكون ساردًا للنص فحسب، بل تتطلب منه بالضرورة أن يكون على دراية بكافة الفنون الإبداعية الأخرى، التي كانت تتماسّ مع الرواية التقليدية فيما سبق، ولم تكن تدخل في نطاق عمل الروائي. كما تفترض أن يكون الروائي ذا ثقافة موسوعية وشاملة، ومن ثَمَّ أضحى الروائي - الرقمي الجديد - يحتاج إلى تدريب فني في مجال البرمجة والإخراج السينمائي، وإلى دراية بكتابة السيناريو وأدبيات وآليات المسرح، وفهم فنون المحاكاة بشتي أنواعها.
من الزاوية الأخرى، هناك مسئولية ستقع على القارئ؛ لأن الجانب التقبلي للعمل الروائي سيتغير، إذْ سيكون على القارئ - بحسب نظريات القراءة ومُنَظّري جماليات التلقي - أن يغير أفق تلقيه، ويندمج بالأفق الجديد المقترح للعمل الأدبي. وهنا سيواجه القارئ نصًّا متسلحًا بما يسميه علماء التلقي "ذخيرة القراءة"، وهي جزء من مكوّنات أفق انتظار القارئ أو توقعه، الذي ظن - في البداية - أنه سيلفظه، مُفضّلًا النمط التقليدي السهل للرواية العادية، الذي يمنحه خيالًا ذاتيًّا ماتعًا، حتى يستسيغه رُوَيْدًا، ويتعود عليه، لا سيّما مع ثراء المادة المقدمة في الرواية.
حسبما تشير الظواهر والمعطيات المطروحة، فإن الرواية الرقمية ستتطور سريعًا، مقارنةً بما حدث مع نظيرتها الورقية؛ كونها استفادت من مختلف المنجزات التي تمت على مستوى الإبداع أو النقد. وفي أعقاب الثورة الفنية الوشيكة، والتي قد تتجاوز فكرة الروائي السارد التقليدي لصالح فكرة الروائي الفنان الشامل، ستتقزم دون شك هيئة الرواية وهويتها السردية أمام الرواية الرقمية متعددة الفنون. وتلك العناصر - كما نعلم جميعًا - ذات مهيمنات قوية الأثر في القارئ، تشتت تفاعله مع النص الأصلي كما يُراد له، بل وتنقله إلى مزيج مختلط المصادر ومكثف الحضور، بما يزيح الجانب السردي المتصل بالحكي واستراتيجياته، ويُطيح بالتكنيك الروائي والفن المعتمد على المخيلة الأدبية في المقام الأول.
صحيحٌ أن الرواية الرقمية لم تشهد - حتى الآن - حضورًا ملموسًا على الساحة الفنية أو التجارية، فلم نشهد سوى أعمال روائية محدودة من النوع الرقمي، وكانت في الأساس روايات عادية وتقليدية مطبوعة ثُمَّ تم تحويلها إلى رقمية، غير أن الدراسات التنظيرية والنقدية عن مستقبل الرواية الرقمية، وتعريفها، وإثبات حضورها القادم الفاعل في المشهد السردي، بدأ يكتسب زخمًا كبيرًا. ففي الملتقى الدولي السابع للرواية بالقاهرة، الذي شارك فيه أكثر من 250 ناقدًا وروائيًّا من أنحاء العالم، تم اختيار موضوع "الرواية العربية في عصر المعلومات" ليكون عنوان هذه الدورة، وقد نال الحوار عن الرواية الرقمية نصيبًا كبيرًا من النقاش بين المتحاورين، بخصوص تصنيفها كلون أدبي من عدمه، ودلالاتها، ومستقبلها، ومدى تقبل الجمهور والنقاد لها، وآليات تقديمها الفني، والعرض النقدي لمحتواها الرقمي المجاوز بالضرورة للسرد التقليديّ. وإزاء ذلك، قفزت إلى الأذهان أسئلةٌ مهمةٌ: هل يهدد ذلك بضياع الهوية السردية للرواية التقليدية؟ حيث ستكون الموسيقى والصورة والثيمات المسرحية والأنماط السينمائية - بأصولها وأعرافها - جزءًا من النص الروائي يزيح المكتوب. شيء آخر، من سُنن الحياة الأدبية أن بعض الأنواع والأجناس الأدبية تندثر شعبيتها، أو يتقلص فيها التجديد لصالح غيرها من الألوان الأدبية. وهنا جرت العادة بإعلان ما اندثرت شعبيته، كالادعاء بموت الشعر أو النقد الأدبي والقصة القصيرة، فهل سنشهد موت الرواية التقليدية أمام الرواية الرقمية؟ أم سنشهد بعثًا جديدًا للرواية ؟!.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020