الإثنين 1 يوليو 2024

أحمد صوان يكتب: «الباشا والوباء».. كيف واجهت مصر الأوبئة في القرن الـ18؟

فن15-10-2020 | 20:45

خلال القرن التاسع عشر والأعوام الأولى من القرن العشرين، شهدت مصر ظهور وانتشار عدد من الأمراض التي اجتاحت الأرض، من بينها الرمد، والجُدري، والدوسنتاريا، والكوليرا، والطاعون. وقد جاءت في وقت كان حاكم مصر، محمد علي باشا، يعمل لبناء دولة حديثة تنافس بقايا الخلافة العثمانية - التي صارت فيما بعد رجل أوربا المريض - فحمل على عاتقه زمام المبادرة لمواجهة هذه الأوبئة. وكانت الوسائل التي لجأ إليها إمّا وقائية كالحَجْر الصحي، أو علاجية كالاعتماد على معاونة الأطباء الأجانب أمثال «كلوت بك» في بحث شئون الصحة العامة.


وفي سبيل ذلك أنشأ الباشا مدرسة الطب، وأمر باستحضار الكتب الطبية والأدوية، وإقامة المستشفيات، وإيفاد البعثات الطبية إلى الخارج، وتشجيع الأطباء الأجانب. ومن الإجراءات الوقائية أنه ألزم كل شخص بنظافة منزله أو محله من الداخل والخارج، بالإضافة إلى نظافة جانب من جهات الطريق الذي فيه منزله أو محله، ومن يخالف ذلك كان يُغَرَّم بدفع غرامة بلغت عشرين قرشًا، وإن لم يكن قادرًا على ذلك يُحبس خمسة أيام، وذلك حسب اللائحة. كما أمر بتبخير البيوت وتنظيف الملابس، وردم البرك لمقاومة الأمراض الوبائية، وكذلك ألزم مشايخ الحارات بالمدينة بنظافة حاراتهم من القاذورات بالتعاون مع رجال الجهادية، وإذا حصل منهم إهمال أو تستر عمن يخالف يجري عليهم جزاء حكم المخالفين.


في كتابه «دمياط في التاريخ الحديث 1810- 1906»، تناول الدكتور راضي جودة انتشار وباء الطاعون في مصر في القرن التاسع عشر وكيفية محاربته، والإجراءات التي اتخذها محمد علي باشا، للحفاظ على حياة المصريين. يقول: «يُعد الطاعون من أخطر الأوبئة التي أصابت البلاد، بل كان السبب الرئيس لمعظم الوفيات في مصر في تلك الآونة. وتؤكد إحدى الدراسات أن الطاعون لم يكن يأتي مطلقًا من داخل مصر، ولكنه يظهر أولًا على شاطئ الإسكندرية، ومنه إلى رشيد ودمياط والقاهرة، ويسبق ظهوره وصول بعض السفن القادمة من سوريا وإسطنبول، لنقل الملابس الصوفية ولوازمها، حيث يكون الطاعون شديدًا في إحدى مدنها خلال الصيف».


عبر صفحات كتابه، وصف جُودة الرعاية الصحية للمصريين إبان العصر العثماني قائلًا: «لقد عانت الشئون الصحية كثيرًا من الإهمال وعدم الاهتمام خلال العصر العثماني، ولم تلق العناية الكافية من السلطات، كما إن ثقافة الأهالي كانت ضئيلة للغاية، حيث اعتقدوا في الدجل والسحر والشعوذة، واعتمدوا كثيرًا على الأحجبة والتمائم والرُّقَى وإطلاق البخور، والوصفات المتوارثة في مقاومة وعلاج الأمراض». وتابع: «عندما تولَّى محمد علي حكم مصر اهتم بحالة الصحة العامة بها، ومن ضمنها دمياط، وذلك بسبب كثرة انتشار الأوبئة كالطاعون والكوليرا، ورغبته في العناية بصحة المصريين لتكوين جيش قويّ، وتحقيق طموحاته الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى إقامة سلالة حاكمة له ولذريته من بعده».


وينقل جُودة في كتابه وصف الجبرتي للإجراءات التي اتخذتها الدولة المصرية في ذلك الوقت للتصدي للوباء، بإقامة المحاجر الصحية عند انتشار الطاعون بشكل وبائي منذ يناير 1813، حيث كتب: «عندما جاءت الأخبار بوقوع الطاعون فإن الأطباء قد أشاروا على محمد علي بعمل كورنتينة بالإسكندرية على قاعدة صلاح الإفرنج ببلادهم، فلا يدعون أحدًا من المسافرين الواردين في المراكب من الديار الرومية، يصعد إلى البر إلَّا بعد مُضِيّ أربعين يومًا من وروده، وإذا مات بالمركب أحدٌ في أثناء المدة استأنفوا الأربعين».


كانت تلك هي الخطوة الأولى في الإجراءات الاحترازية، ولكن عندما بدأ الوباء ينتشر بالإسكندرية في الشهر التالي حاصدًا الكثير من أرواح أبناء الثغر، أمر الباشا بإقامة محاجر صحية في دمياط ورشيد، وغيرها من المواضع التي تستقبل الوافدين إلى البلاد بحرًا؛ وهي نقاط الحجر نفسها التي عادت مرة أخرى في عشرينيات القرن التاسع عشر، حيث عاد الوباء من سوريا وآسيا الصغرى، لتقيم الإدارة المركزية المحاجر الصحية في الإسكندرية عام 1828، ودمياط 1829، ورشيد 1831. رغم تلك الإجراءات، ظهر الطاعون مرة أخرى في دمياط عام 1831 عن طريق سفينة آتية من بيروت إلى الإسكندرية، ومرت على دمياط، فصدرت الأوامر إلى حاكم دمياط لحجر المدينة حَجْرًا صحيًا مثل الإسكندرية منعًا لتسرب الوباء، ووُضِعَ القادمون إليها من الأناضول وعكا في المحجر الصحيّ، إلَّا أن الوباء انتقل إلى دمياط على الرغم من الأوامر الصحية الصادرة للحاكم بعدم استقبال أحد منهم في مسكنه، وكان من نتائج ذلك وفاة ثمانية أشخاص من عائلته، بينما سقط العديد من الضحايا من مختلف العائلات في المدينة.


وتوضح الوثائق الرسمية لتلك الفترة مدى اهتمام الباشا بمكافحة الأمراض وتوفير الإمكانيات لعزل المصابين ومحاربة الوباء، ويشير كتاب جُودة إلى أن محمد علي لمّا علم بانتشار الوباء بدمياط عام 1844 طلب إرسال بيان بأسباب ظهوره ودرجة الضرر الواقعة على الأهالي، ويستفسر منه هل انقطع أم ما زال منتشرًا؟ وهل طُبِّقَ الحجر الصحيّ أم لا؟. وعندما ظهر المرض بالإسكندرية أرسل مجلس كورنتينة الإسكندرية إلى ناظر كورنتينة دمياط أمرًا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة ذلك، وكتب أن ناظر كورنتينة دمياط «ورد له من مجلس الكورنتينة بالإسكندرية بخصوص مرض الطاعون يطلب منه نظافة المحلات التابعة للثغر وترتيب النظافة بالمحافظة وتبييض جميع المحلات من الداخل وإزالة القمامة ومنع الروائح الكريهة، والتنبيه على مشايخ الشطوط ومن يلزم لهم التنبيه بتنظيف المحلات والنواحي المذكورة والشطوط»، ما جعل الباشا يوافق على نقل مكان الحجر الصحيّ بعيدًا عن الأهالي من البر الغربي إلى البر الشرقي. كما وافق أيضًا على ترتيب جراية للفقراء الموجودين تحت الحجر الصحي، أما الأغنياء فكانوا يدفعون مقابلًا لذلك حسب ما تحدده اللائحة المنظمة لذلك.


كذلك كانت الكوليرا من الأوبئة التي مثَّلت خطرًا دائمًا على مصر، وهاجمت المصريين عشر مرات بين عامى 1831 و1903. فيما بعد أمكن تعقب مسار المرض مع عودة الحجاج من الأماكن المقدسة، ولكن هذه الصلة لم تتكشف إلَّا عام 1856، وكان المرض في بدايته قد اجتاح البلاد التي عانت من خسائر مدمرة في الأرواح، وخلال شهرين قضى المرض على ما يقرب من 150 ألفًا من سكان مصر، المقدر عددهم آنذاك بثلاثة ملايين ونصف المليون، ما استدعى اهتمام الباشا ورعايته عند انتشار الوباء.


ويذكر جُودة في كتابه أنه عندما انتشر الوباء بدمياط مرة أخرى عام 1836، طلب محمد علي من ناظر دمياط إفادته بشكل مُفصّل، بعد التحقق من ظهور وتفشي الوباء بالمدينة وضواحيها، وبُعد المسافة بينهما، وكيف حدث ذلك، لإخطار مجلس الصحة. وبالفعل أرسل إليه ناظر دمياط إجابات تفصيلية، ما جعل الباشا يرسل إليه في يوليو 1836 الخواجة «إسقارلاتو» لعمل حجر صحي بجهات دمياط، وعليه أن يساعده في كل ما يريد، باعتباره مأمورًا للحجر الصحي بها، بدلًا من مأمورها السابق الذي منعه مرضه من القيام بعمله خير قيام. وأصدر الباشا للناظر أمرًا في 15 سبتمبر 1844 أن ينشر قانون الحجر الصحي على المصالح التي تحت إدارته، ويبذل كل الجهود لتطبيق هذا القانون لحماية دمياط من عدوى الكوليرا.


ووفق جُودة، عندما انتشر مرض الكوليرا في دمياط مرة أخرى عام 1895، صدر قرار من مجلس الصحة البحرية والكورنتينات المصرية بأن يُكتب على جوازات البواخر وأوراق المراكب الشراعية والشهادات الصحية: «توجد الكوليرا الآسيوية بدمياط، أمّا الصحة العامة في باقى المدن المصرية فهى جيدة». وقرر أيضًا تطبيق اللائحة المختصة بالكوليرا على الواردات الصادرة من دمياط إلى الموانئ المصرية بطريق البحر، وكذلك قرر بصفة استثنائية ومؤقتة تطهير البضائع والأمتعة القابلة لنقل العدوى، وإعدام بعض المأكولات كالفواكه والخضراوات والزبدة وغيرها، وتغيير مياه السفن بعد تطهير الأوعية المحتوية عليها. وفى العام التالى ألغيت تلك القرارات نتيجة انتهاء هذا المرض.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020