السبت 27 ابريل 2024

«جارية» مارجريت آتوود و«شهاداتها».. «الحكاية» سلاح في وجه القمع

فن18-10-2020 | 16:29

بقلم: إيناس التركي


في عام 1985، كتبت مارجريت آتوود روايتها "حكاية الجارية"، التي تدور أحداثها في ديستوبيا خيالية أطلقت عليها اسم جيلياد، حيث حلّت حكومة دينية شمولية محل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انقلاب دمويّ. وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال، فإن المرأة هي أول من يترأس قائمة الضحايا، حيث صارت النساء مجرد أدوات جنسية تحت قمع الحكم الذكوري، ومجرد وسيلة للإنجاب ليس إلَّا. 

عبارة لاتينية محفورة في الخفاء، داخل خزانة غرفة البطلة أوفريد، تقول: "لا تَدَعِي الأوغاد يسحقونكِ"، هذه العبارة صارت تذكارًا مستمرًا بوجوب المقاومة. من اللافت أن يكون الدافع الذي يحفّزها على المقاومة هو بضع كلمات مكتوبة في دولة يسحق فيها الأوغاد كل النساء؛ حيث يتم حرمانهن حق التعليم والقراءة، ويُفْرَض عليهن الصمت والسمع والطاعة. وبالفعل، تصير وسيلة أوفريد في المقاومة هي الكتابة والحكي؛ حيث إن الرواية كلها ما هي إلَّا كلماتها التي سجّلتها سرًّا، على أمل أن تصل إلى قارئ مُستقبلي، وهو ما يحدث بالفعل.

أما رواية آتوود "الشهادات"، والتي فازت بجائزة البوكر لعام 2019 مناصفةً مع رواية برناردين إيفاريستو "فتاة وامرأة وأخرى"، فهي تُعَدُّ الجزء الثاني لروايتها "حكاية الجارية"، وتدور أحداثها بعد حوالي خمسة عشر عامًا من سقوط جيلياد. وقد ذكرت آتوود أن روايتها جاءت لتجيب عن أسئلة القراء الكثيرة، التي ظلت معلقة بعد نهاية "حكاية الجارية"، خاصة السؤال المتعلق بكيفية سقوط جيلياد. 

استغرقت كتابة الرواية أربعة أعوام، وتتكشف أحداثها من خلال أعين ثلاث نساء تربطهن علاقات بأوفريد، بطلة "حكاية الجارية"، وتتناوب بينهن فصول الحكاية. هؤلاء النساء هن: العمّة ليديا، المسئولة عن تدريب "الجواري" على السمع والطاعة، وأجنيس، ابنة أوفريد التي اختُطفت منها، وديزي، أو نيكول، ابنتها الثانية التي قامت بتهريبها عبر الحدود إلى كندا. 

وقد أكدت آتوود - أكثر من مرة - أن كل أحداث "حكاية الجارية" لها سوابق تاريخية وقعت بالفعل، وكما ذكرت في مقدمتها لطبعة الرواية الصادرة عام 2017، فمن الممكن أن يحدث أي شيء في أي زمان، لو كانت الظروف مواتية لذلك. لذا فلا يمكننا أن نُعَوِّل على المقولة الشائعة بأن "هذا لا يمكنه الحدوث هنا". وقد لاقت "حكاية الجارية" رواجًا مع انتشار حركة me too / أنا أيضًا. وصار الزي الأحمر والقلنسوة البيضاء المميزة للجواري في الرواية أيقونةً للمقاومة النسوية، ترتديه النساء في مسيراتهن الاحتجاجية في الولايات المتحدة. وقد ذكرت آتوود أن "الشهادات" جاءت كرد فعل على التشابه بين الظروف الحالية التي يعيشها العالم، وبين جيلياد بحكومتها الشُّمولية التي تعمل على قمع المرأة بكل الأشكال الممكنة. فالتاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يتشابه. 

ومن الأسئلة التي تجيب عنها "الشهادات"، السؤال القائل: "كيف حدث ذلك؟". تذكر العمة ليديا، التي تسرد الرواية حكايتها، وتُصَوِّر كيف باتت جزءًا من نظام جيلياد القامع لبنات جنسها، والأسباب التي حَدَتْ بها إلى فعل ذلك، تذكر أنها كانت تؤمن بكل الشعارات السائدة عن الحياة والحرية والديموقراطية، وحقوق الأفراد التي درستها في كلية الحقوق، حيث كانت تعمل في سلك القضاء فيما كان يعرف باسم الولايات المتحدة، قبل نشأة دولة جيلياد. كانت تعتقد أنها حقائق أبدية، سوف يدافعون عنها إلى الأبد، واعتبرت ذلك أمرًا مُسلّمًا به. وهذا هو الخطأ: أن يَعُدَّ المرءُ حريته أمرًا مُسلّمًا به، ويتخلّى عن حذره في مواجهة كل العلامات الدالة على الخطر القادم. فكما قالت العمة ليديا في "حكاية الجارية": "المعتاد هو ما تألفونه. قد لا يبدو هذا معتادًا بالنسبة لكم الآن، لكن بمرور الوقت سيصبح كذلك، وسيصير معتادًا". لذا يتعين على النساء المقاومة حتى لا يصير قمعهن أمرًا اعتياديًا مُسلّمًا به، مثلما اعتبرن حريتهن - من قبل - أمرًا مُسلّمًا به.

وتُكرّس "الشهادات" لفكرة منح صوت لمن لا صوت لهم، كشكل من أشكال المقاومة في وجه السلطة القمعية. ففي المعرفة تكمن القوة: تلك المعرفة التي تسعى الحكومة الدينية الشمولية في جيلياد إلى حرمان النساء منها، ومنعهن من القراءة والكتابة والتعليم. ففي "حكاية الجارية"، تُسْرَدُ الأحداث في زمن المضارع على لسان أوفريد، ويرى القارئ الأحداث من منظور عالمها الضيق المحدود، بالرغم من أنها تحاول تسجيل حكايتها في حدود المعلومات المتوافرة لديها. ويرجع جزء كبير من الجوّ المُقبض والمرعب في الرواية إلى محدودية المعلومات، والشعور بالضياع الذي يتشارك فيه القارئ مع البطلة. لكن في "الشهادات"، تُسْرَدُ الأحداث بصيغة الماضي من خلال ثلاث شهادات، توفر كل منها معلومات مختلفة، تكتمل بها الصورة أمام أعين القراء، فتتوفر لدينا معلومات كافية بخصوص نظام جيلياد الداخلي، وطريقة نشأته وسياسات عمله، من خلال العمة ليديا، التي هي جزء من ذلك النظام. كما تتوافر لنا وجهات نظر وتجارب أجنيس وديزي/ نيكول، كفتاتين نشأت إحداهن داخل نظام جيلياد، بينما هربت الأخرى منه في وقت مبكر ونشأت في جو من الحرية في كندا.   

الحكي وأهميته يُعَدُّ تيمة رئيسة في الرواية. وكما أنقذت شهرزاد رأسها من سيف مسرور كُلَّ ليلة عبر حكاياتها، استغلت بطلات "الشهادات" حكاياتهن، وقدمن سجلًا مكتوبًا بشهاداتهن كدليل إدانة ضد جيلياد، ووسيلة للمقاومة ضد محاولات كبت أصواتهن وقمع حكاياتهن. تُعَدُّ القراءة والكتابة مصادر خطر تهدد سيطرة الحكومة القمعية؛ فكلاهما يشجع على التفكير الحر والتمرد. لذا فإن أصحاب السلطة وحدهم فقط هم المسموح لهم باحتكار المعلومات والكتب المحرمة، وهم وحدهم لهم حق كتابة الحكاية المتداولة والرسمية، التي يستغلونها لتحقيق أغراضهم السياسية. إلَّا أن بطلات الرواية الثلاث يُقَدِّمْنَ حكاية موازية للحكاية الذكورية القمعية، ويقلبن النظام من داخله، بحيث تصير الحكاية تعبر عنهن، وتُدين من سعوا إلى قمعهن وكبت أصواتهن. وحكاية معاناة أجنيس حتى تتعلم القراءة بعد أن صارت شابة، وتسجيلها لشهادتها تلك، تُعَدُّ دليلًا على أهمية الكلمة المكتوبة كمصدر للقوة والمقاومة. فكما قامت جيلياد على قمع المرأة واعتبارها مجرد أداة جنسية، نرى خلال الرواية أن هذه المرأة نفسها هي من كانت السبب في إسقاط جيلياد، وتسجيل هذا السقوط وأسبابه، لتقرأه الأجيال القادمة. 

تنتهي "الشهادات" بالمؤتمر الثالث عشر لدراسات جيلياد، الذي هو مؤتمر أكاديمي مُخصص لدراسات جيلياد بعد سقوطها بسنوات عديدة، مثلما اختتمت "حكاية الجارية" بالمؤتمر ذاته. إلَّا أن أعضاء المؤتمر -  في الجزء الأول من الرواية - أبدوْا بعض التعليقات التي شكَّكت في مصداقية شهادة أوفريد المسجلة، فذكر أحدهم أنه يجب الحرص في إصدار الأحكام الأخلاقية على جيلياد، بينما نجد في الجزء الثاني من الرواية أن أعضاء المؤتمر كانوا على ثقة من مصداقية شهادات كل من العمة ليديا وأجنيس وديزي/ نيكول. لكن هذا لا يعني أن آتوود تطالب بتصديق شهادات النساء كافة كما تدعو حركة صدّقوا جميع النساء/ believe all women. فقد ذكرت في حوار مع مجلة People أنها لا تعتقد أنه يتعين على المرء تصديق أي شيء كان، بصورة كاملة ومطلقة. بل من الأدعى المناداة بالاستماع إلى شهادات جميع النساء، وأن نأخذهن على محمل الجد، حتى يتم التحقق للتأكد من صحة تلك الشهادات. وفي حوار آخر لها مع النيويورك تايمز، أوضحت آتوود أنها ترفض أن يشير إليها الآخرون بوصفها نسوية، رغم كثرة ما يراه القراء من الأفكار النسوية في أعمالها. ورغم أنها باتت تُعَدُّ أيقونة نسوية؛ فعلى حد قولها، عليها أن تسأل أولًا أي شكل من أشكال النسوية هو المقصود، لأن هناك العديد من الأشكال. وهي تهتم بالعدالة والمساواة، لا بتفوق جنس على الجنس الآخر. 


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020

    Dr.Randa
    Dr.Radwa