لقد عرف تاريخ الأدب في مصر كثيرا من الأعمال الأدبية الخالدة، كان كتابها من رجال القانون والقضاء.
والاتصال بين الأدب ورجال القضاء كان ولا زال وثيقا، فالدكتور هيكل صاحب أول رواية مُثلت في السينما المصرية (زينب) كان محاميًا، وتوفيق الحكيم، صاحب (يوميات نائب في الأرياف ـ وعدالة وفن) كان وكيلا للنائب العام، ويحيى حقي صاحب رواية (البوسطجي) كان وكيلا للنائب العام، وفوزي عبد القادر الميلادي صاحب (قصر الذكريات) كان قاضيا، والمستشار جمال العطيفي صاحب (من منصة الاتهام) كان وكيلا للنائب العام ثم محاميا، وفكري أباظة الأديب الأريب كان محاميًا، وعبد العزيز فهمى باشا، وعبد الخالق ثروت باشا، النائبان العموميان ثم القاضيان، برعا في المرافعات الأدبية البليغة، التي تمثل تراثا من الأدب القضائي لم يزل ينهل منه المترافعون حتى يومنا هذا.
وفي عصرنا الحالي نذكر محمد صفاء عامر الكاتب الدرامي الكبير وكان قاضيا، والمستشار أشرف العشماوي الروائي الكبير، والمستشار محمد خليل الشاعر المفوه، والمستشار حسن مهران شاعرا، والمستشار الدكتور خالد القاضي كاتبا وأديبا، الأستاذ رأفت نوار صاحب (من منصة الدفاع) محاميا بارعا، وغيرهم مما لا يتسع المقام لتعدادهم.
ولغة المحاكم من مرافعات وأحكام، جزءٌ من أدب كل أُمَّة، هذه اللغة، ليس لها عن الأدب غِنى، وللأدب فيها كل الغَناء.
ليس لها عن الأدب غِنى، لأنها من دون الأدب تكون ضئيلة، عليلة مُملَّة، مُسئِمة، وللأدب فيها كل الغَناء، لأنه يجدُ فيها ساحةً رَحبةً خِصبة، تلتقي فيها الحقيقة بالخيال، حكاياتٌ وروايات، ومواقفَ وتصرفاتٍ لا حَدَّ لكثرتها، ولا سَقف لتباينها، منها العظيم الفخم، ومنها الصغير الدقيق، فيها الباكي المُفجع، وفيها الساخر المُضحك، وفيها من كوميديا الموقف ما قد لا يجود بمثله مؤلفٌ مسرحي مُتمرِّس.
فالإنسانية كلها في قاعات المحاكم ومجالس التحقيقات، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنُبلها وضِعَتِها، بخيرها وشرِّها.
فكل جريمة هي حدوتة، لها أبعادها الدرامية، وجوانبها المثيرة، وشخصياتها من الجناة والمجني عليهم، ودوافع، ومسرح، وأحداث، تتشكل منها جميعا تفاصيل بناء الحدوتة داخل قصة الجريمة.
ينطق القاضي بحكم البراءة؛ فتنفجر القاعة بالزغاريد والتهليل ورُبما البُكاء الحُلو للفرحة، وينطق في ذات اللحظة بالإدانة؛ فتُزلزَل القاعة بالصُّراخ والعويل، وربما الضَّحِك الهيستيري المُر للصدمة، وكِلا الفريقان مُتجاوران، فترَى وُجوهًا نضِرة، وأخرى تُرهِقها قتَرة، فيتنازع وجدانُكَ، مشاعرَ مُتناقضة، وتضطربُ أحاسيسكَ لمواقفَ مُتباينة.
ألا يجد القلم الواعي والعقل المتدبِّر في كل هذا، منهلٌ عَذبٌ يغترف منه، ليفيض من بَعد بدُرَر القول وأصداف التصوير والإبداع؟ ألا يجد قُماشةً واسعة، زاهيةٌ ألوانها وقاتمة، وناصعة الشفافية وداكنة ليَصنع منها أدب وأدب؟!
فالقلم الذي لا يجد في مثل هذه الساحة الثَّريَّة كل صنوف الأدب ولم يكتب؛ خيرٌ له أن يُكسَر.
ومن نماذج هذا الأدب ما كتبه عبد العزيز فهمي باشا رئيس محكمة النقض في القضية الشهيرة (مقتل مأمور البداري) وتتلخص في أن اثنين من أهالي مركز البداري كانا من المشتبه فيهما، وبالتالي يتعين أن يبيتا بالمركز، ولكن المأمور كان يمعن في تشديد المراقبة عليهما ومعاملتهما بشدة بالغة ويتعمد إهانتهما، فكان يربطهما من رجليهما في محل الخيل ويضربهما، ويأمر بقص شنبيهما وغطاء رأسيهما، ويأتي برشمة من الليف ويجعلها كاللجام في فم كل منهما، ويقول عنهما حمارين، بل كان يضع العصا في دبريهما، الأمر الذى أشعرهما بإهانات بالغة وأذى شديد، مما أثار حفيظتيهما ضد المأمور خوفا من تجدد تكرار ارتكاب هذه الأفعال، فعقدا العزم وبيتا النية على قتله.
وأخذ المتهمان يتحينان الفرص إلى أن كانت ليلة الحادث، فأعدا لذلك سلاحين ناريين وكمنا له في المكان الذي أيقنا مروره فيه، فأبصراه قادما هو ومفتش الري، وما أن صارا على مقربة منهما أطلقا عليهما أعيرة نارية فقتلا المأمور وأصابا مفتش الرى.
وحكمت محكمة الجنايات بإعدام أحدهما، وبمعاقبة الآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة .
طعن المحكوم عليهما على الحكم بالنقض وكان رئيس المحكمة هو القاضي الأديب عبد العزيز باشا فهمي الذي سطر حكما لم يزل التاريخ يخلده حتى اليوم.
قال القاضي الأديب ينفى ظرف سبق الإصرار وهو التفكير الهادئ المتروي قبل ارتكاب الجريمة: إن هذه المعاملة التى أثبتت المحكمة أن المجني عليه كان يعامل الطاعنين بها هى إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون، وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام.
فلا شك أن مثلهما الذى أوذِى واهتيج ظلما وطغيانا، والذى ينتظر أن يتجدد إيقاع هذا الأذى الفظيع به - لاشك - أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل معذبه فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم موتورة مما كان، منزعجة مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هى نفس هائجة أبدا، لا يدع انزعاجها سبيلا لها إلى التبصر والسكون حتى يُحَكِّم العقل - هادئا متزنا مترويا –فيماتتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التى تتخيلها قاطعة لشقائها، ولا شك بناء على هذا أن لا محل للقول بسبق الإصرار إذ هذا الظرف يستلزم أن يكون لدى الجانى من الفرصة ما يسمح له بالتروى والتفكير المطمئن فيما هو مقدم عليه.
وانظر المحكمة وهي لا تجد مفرا من تأييد عقوبة الإعدام بسبب توافر ظرف الترصد في الأوراق والذي يكفى بمفرده دون ظرف سبق الإصرار للحكم بهذه العقوبة المغلظة حيث استطردت تقول:
والظاهر أن الشارع وجد أن الترصد وسيلة للفاتك يضمن بها تنفيذ جريمته غيلة وغدرا في غفلة من المجني عليه وعلى غير استعداد منه للدفاع عن نفسه، فاعتبر تلك الوسيلة بذاتها من موجبات التشديد، وبما أن الحكم المطعون فيه أثبت وجود الترصد فقد صح تطبيق المادة 194 من قانون العقوبات "الإعدام"، ثم تجلت قمة إنسانية محكمة النقض وهى تقول:ولو كان الأمر بيد المحكمة وكانت هي التي تقدر العقوبة لما وسعها أن تعاقب الطاعنين كليهما بمثل تلك الشدة ، بل لعاملتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف."
إلى أن قالت تُعرب عن أسفها لذلك: وحيث أنه لجميع ما تقدم (أي نظرا لتوافر ظرف الترصد وهو كاف وحده للحكم بعقوبة الاعدام) لا ترى هذه المحكمة فى احترامها للقانون سوى رفض الطعن على مضض. "
كما نجد مثل هذا الأدب في مرافعة لنجم المحاماة إبراهيم الهلباوي بك وأول نقيب للمحامين في مصر وهو يخاطب إبراهيم ناصف الورداني قاتل بطرس باشا غالي:
"لقد هِمتَ بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك أنساك واجبا مقدسا هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما يبكيان هذا الشباب الغض، تركتهما يتقلبان على جمر الغضا، تركتهما يقلبان الطرف حولهما فلا يجدان غير منزل مقفر غاب عنه عائله، تركتهما على ألا تعود إليهما وأنت تعلم أنهما لا يطيقان صبرا على فراقك لحظة واحدة فأنت أملهما ورجاؤهما.
دفعك حبك لبلادك إلى نسيان هذا الواجب، وحجب عنك كل شيء غير وطنك وأمتك، فلم تعد تفكر في تلك الوالدة البائسة وهذه الزهرة اليانعة ولا فيما سينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه.
ونسيت كل أملك في هذه الحياة، وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت أن الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك، أي أعز شيء لديك ولدى أختك ووالدتك، فأقدمت على ما أقدمت راضيا بالموت لا مُكرها ولا حبا في الظهور، أقدمت وأنت عالم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك، ففي سبيل حرية أمتك بِعت حريتك بثمن غال.
واعلم أيها الشاب أنه إذا تشدد معك قضاتك - ولا إخالهم إلا راحميك - فذلك لأنهم خدَمَة القانون، وهذا هو السلاح المسلول في يد العدالة والحرية وإذا لم ينصفوك - ولا أظنهم إلا منصفيك - فقد أنصفك ذلك العالم الذى يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بُغية الإجرام ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك، وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أو خالفها فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها، وإنَّ هنالك حقيقة عرَفها قضاتك وشهد بها الناس وهى أنك لست مجرما سفاكا للدماء ولا فوضويا من مبادئه الفتك ببنى جنسه، ولا متعصبا دينيا يكره من يدين بغير دينه، إنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك، فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى فإن صورتك في البعد والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك وتقبَّل حكم قضاتك باطمئنان إلى مقرك بأمان".