الأربعاء 29 مايو 2024

شريف بكر يكتب: تحديات «كورونا» و«الكنوز المجهولة»

فن18-10-2020 | 23:30

شريف بكر

 عضو الاتحاد الدولي للناشرين


فاجأت جائحة الكورونا الجميع بدون مقدمات، وأدت إلى أنواع مختلفة من ردود الفعل في قطاعات عديدة، ويقع قطاع النشر على رأس تلك القطاعات التي كان من السهل أن نتلمس فيها الآثار الجانبية للجائحة.

منذ بدء الأزمة كنت أتابع تلك الآثار التي ظهر أنها ستكون كبيرة جدًّا بشكل يصعب توقعه. وتساءلت: كيف نستطيع في دار العربي للنشر والتوزيع أن نعبر هذه الأزمة؟ بل امتد التفكير إلى البحث عن فرص جديدة للنمو في وسط كل هذه التغيّرات العاصفة؛ لأن استسلامنا دون أن نجد صيغة تلائم هذه التغيرات يعني أننا ذاهبون إلى تراجع كبير، وقد تصل الدار إلى التوقف التام، وبالتالي كان خيارنا هو مقاومة هذا المصير.

المؤكد أن الكورونا ستكون نقطة فاصلة في صناعة النشر في مصر وعلى مستوى العالم. فهي أكبر اختبار لقدرة الناشرين وصناعة النشر على التغير والتأقلم مع الأوضاع الجديدة التي خلقتها. وإذا تأملنا ما جرى في الأشهر الثلاثة الماضية سنجد أشكالًا مختلفة للتعاطي مع الأزمة. هناك معارض كتب اكتفت بالإلغاء كرد فعل أولي، وهذا ما حدث مع معرض لندن للكتاب في الفترة من 10-12 مارس 2020. وفي آخر لحظة، وبعد إعلان الكثير من الناشرين عدم حضورهم، قررت إدارة المعرض إلغاءه، فكان التخبط هو مصيره. وعلى نفس النهج بادرت معارض بغداد والرياض وأربيل إلى الإلغاء والتأجيل. 

عندما تم امتصاص "الصدمة" ظهرت مبادرات يمكن وصفها بالإيجابية؛ لأنها كانت تبحث عن ضوء في نهاية النفق، ومنها معرض بولونيا الذي كان أكثر استعدادًا، لكونه جاء بعد حوالي شهرين من بدء إجراءات التباعد الاجتماعي، واستثمار آثارها الإيجابية (خلال الفترة من 4-7 مايو). وحاول المعرض في أول سابقة أن يتحول إلى معرض افتراضي بالكامل، تجري فعالياته عبر شبكة الإنترنت "أونلاين". في حين لجأ معرض أبو ظبي الى خيار إقامة ندوات إليكترونية لمناقشة آثار "الكورونا". وإلى حَدٍّ ما، نجح في منح المعارض الثقة، لتتكرر الفكرة بشجاعة أكبر، ربما في معرض فرانكفورت الذي يُعَدُّ المناسبة الأهم عالميًّا، حيث جرى الإعلان عن تنظيم المعرض بأفكار جديدة تراعي سياسات التباعد الاجتماعي. ولو لزم الأمر سيلجأ المنظمون الى مَدِّ تأثير المعرض وفعالياته إلى مساحات أخرى خارج المساحات المقررة لخلق فرص للتباعد. فضلًا عن إلغاء منصات عرض الكتب والطاولات والأجنحة المغلقة، إلى جانب إبراز الطابع الإليكتروني للمعرض بصورة أكبر مما كانت عليه خلال الدورات السابقة.

تعطي هذه البادرة آمالًا جديدة حول استعدادات ناشري العالم للقبول بـ"كورونا"، باعتبارها شَرًّا لا بُدَّ منه، سيؤدي لا محالة الى كسر الشكل التقليدي للنشر والتوزيع، ليتغير بشكل كبير قريبًا. فالنشر في مصر والعالم العربي يبدو متأخرًا إلى حد كبير عما هو عليه في العالم - بشكل عام - وخصوصًا في مجال التوزيع. وبما أن صناعة النشر في طريقها للتغير في العالم بشكل عام، فما أراه أن هناك فرصة للعالم العربي للقفز فوق المراحل التقليدية للتطور التي لم نصل إليها، ونصل إلى ما سيصل إليه العالم، ونستفيد من إمكانياتنا الكامنة وغير المستغلة.


دائمًا ما كان العالم ينظر إلينا – نحن الناطقين باللغة العربية – باعتبارنا قوة كامنة غير مستغلة. والسؤال الدائم هو: كيف نمتلك كل هذه الإمكانيات دون استغلالها؟، فنحن أكثر من 400 مليون متحدث باللغة العربية، وهي خامس لغة على مستوى العالم من حيث العدد. لو افترضنا أن 1% فقط يقرأ ويشتري الكتب فإن هذا الرقم يمثل سوقًا مكونة من 40 ألف قارئ على الأقل. في حين أن متوسط الطبعة العربية من أي كتاب تمثل من ألف إلى ثلاثة آلاف في أقصاها. بالطبع الكتب الأكثر مبيعًا تمثل حالة لا يُقاس عليها السوق، ولكن توضح أيضًا الحجم الذي يمكن أن يصل إليه السوق.

على مستوى دور النشر الخاصة، وهي تمثل النسبة الأكبر والأكثر أهمية في عالم النشر العربي، ظهرت خلال الأزمة أهمية الاستثمارات في النشر الإليكتروني والنشر الصوتي والتسويق لكتبها، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي التي واجهت مشكلة تلبية الطلبات. 

للأسف، لم تلعب المكتبات الدور المتوقع منها، بل وقفت عاجزة مستسلمة لعمل في الإطار التقليدي، واضطر كثير من الناشرين إلى توصيل كتبهم للقراء بشكل شخصي. وهو ما يشير إلى الثغرة الكبيرة في منظومة التوزيع التي لم تستجب لهذا التحدي.

مع بقاء معظم القراء في منازلهم، نجد أن الاتجاه إلى الكتاب الصوتي زاد بشكل كبير جدًّا حسب تصريحات كبريات شركات الكتب الصوتية. ورغم تصاعد مبيعات الكتاب الإليكتروني بشكل ملحوظ ،فإن هذا الارتفاع لم يكن بالمقدار المتوقع الذي يعوض خسائر البيع الورقي، ويقدم إشارات على تحول نوعي في تحول أمزجة القراء.

المسألة الأهم - من وجهة نظري - تتعلق بغياب تام لدور الدولة فيما يخص قطاع النشر الخاص، واكتفاء وزارة الثقافة بعرض حفلات ومسرحيات وندوات على المنصات الإليكترونية للجالسين في البيوت. وقامت بعض الهيئات الحكومية بعرض كتبها في صيغة "بي دي إف" مجانًا، بدلًا من تعويض الدولة للناشرين بشراء عناوين ورفع ميزانيات التزويد في المكتبات العامة، أو توقيع اتفاقيات تعاون مع وزارات الدولة، أو تشجيعهم على التوزيع مع مصلحة البريد مثلًا، أو من خلال منافذ الهيئات الحكومية، أو صرف مستحقات الناشرين لديهم - مما تم بيعه فعلًا - لمساعدة الناشرين في توفير سيولة تغطي المرتبات والنفقات الثابتة لأي دار نشر، وهو ما لم يحدث. وذلك يعكس بوضوح عدم رؤية الدولة للقطاع الخاص في الثقافة بشكل عام، وفي النشر بشكل خاص. حتى إنه عند تشكيل المجلس التصديري للطباعة والتغليف والورق والكتب والمصنفات الفنية، لم يضم المجلس ناشرًا واحدًا، لا بشخصه ولا منصبه.

الحل في ظل هذه الظروف يحتاج بالتأكيد تدخلًا من الحكومة، هناك أكثر من طريقة، سواء بشكل مباشر أو على أقل تقدير بشكل غير مباشر، عن طريق رفع بعض الأعباء عن الناشرين، والأمثلة كثيرة. 

وعلى الناشرين أيضًا البحث عن وسائل أخرى للتواصل وتوصيل الكتب في أنحاء العالم العربي، وأن يعمل كُلٌّ منهم على تغيير وتطوير طريقة عمله داخل الدار، والخروج من الشكل التقليدي المعتاد.

النصيحة التي تُعطي أملًا للناشرين في عبور هذه الضائقة هي جملة تتعلق بالمستقبل وهي: "Content is King" أو "المحتوى هو الملك"، وما دام الناشر يملك حقوق المحتوى (ولا نقول هنا كتاب) فهو يحمل كنزًا يجب عليه معرفة كيفية استغلاله.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيه ويوليو 2020