الأربعاء 26 يونيو 2024

الطّاقة الدّلاليّة للمفردة في نصّ أمشاج للكاتب عبد الله الوصالي

فن20-10-2020 | 13:59

تندرج قصّة "أمشاج" في سياق ما يمكن أن نصطلح عليه بـ "قصّة الرّمز"، فخلافا لما هو سائد في العرف السّردي الكلاسيكيّ لم تعد القصّة القصيرة تُعوّلُ كليّا في تشكيل هندستها السّرديّة و معماريّتها على عناصر لطالما كانت جوهريّة و مفصلية في بنية النّص و تشغيل حراكه التّقنيّ، و نعني بذلك مراكز الاستقطاب النّمطيّة: "الشّخصيّة/ المكان/ الزّمان/ الحدث"، بل صارت القصّة القصيرة مع عبد الله الوصالي تتغذّى من الرّمز و تُطوّعُه لخدمة مقاصد النّص و دلالاته ضمن نسيج ترابطيّ علائقي محكم البناء يتماشى و هذا الفنّ المرهف المراوغ.

ولتوظيف الرّمز في الخطاب القصصيّ عدّة مُسوّغات، فقد يكون الدافع لذلك محاولة الكاتب مراوغة سلطة الرقيب الزاجرة، القامعة في حال طرق (التّابو) فيعمد إلى تغليف نصّه بغلالة شفّافة من الإيحاءات و الإيماءات الفكرية و الشعورية. وقد تكون طبيعة النص هي الدافع لذلك سيّما إذا كانت فلسفيّة أو وجودية كما هو الحال في جلّ القصص التّي تتضمّنها مجموعة "أمشاج" القصصية.

ويُعدّ نصّ "أمشاج" تمثيلا سرديّا رمزيّا لكيفيّة التّعاطي مع الجسد، و قد بلغ من النّضج الفنّي ما قد يخوّله لأن يجسّد ربما شكلا إيروتيكيا مغايرا في مواجهة النّصوص الإيروتيكية الفجّة التّي يكاد ينعدم فيها الحسّ الفنّي الجماليّ. فكيف تسنّى باقتصاد لغوي تحويل الجسد من حالته الجنسية الحسية إلى رمز يشع جماليّة مع احتفاظ النص بإحالته الإيروتيكية؟ تحيل عتبة العنوان "أمشاج" إلى الخطابين الدّينيّ و العلميّ و ما يترتّب عن العلاقة الحسيّة بين الجنسين من ولادة الحياة و تواصل النّوع البشريّ.

والأمشاج لغة تعني الأخلاط و مفردها: مشج و مشيج. و هي حالة جنينيّة من التخلق ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الإنسان: أية 2 "إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه". يقول صاحب الكشاف: "الأمشاج لفظ مفرد و ليس بجمع؛بدليل أنه صفة للمفرد، و هو قوله: (نطفة أمشاج) و يقال أيضا:نطفة مشيج، و لا يصح أن يكون "أمشاج" جمعا للمشج، بل هما مثلان في الإفراد، و نظيره برمة أعشار أي قطع مكسرة، و ثوب أخلاق، و أرض سباسب، و اختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة، فالأكثرون أجمعوا على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله:(يخرج بين الصلب و الترائب.)/الطارق:7/ و يقول قتادة: "هي أطوار الخلق، طورا نطفة، و طورا علقة، و طورا مضغة، و طورا عظما ثم تُكسى العظام لحما." و ضمن الإطار العلمي يقرر علم الأجنّة المفردة ذاتها كمرحلة من مراحل نمو الجنين و تشكّله. و لا تعنينا هنا كيفيّة تناول الخطابين للمفردة، بقدر ما تهمّنا غاية الكاتب من توظيف مفردة ذات دلالة متعددة و هل سيكون المتن الحكائيّ عبارة عن تلقين لحقائق علميّة؟ أم شرحا لآيات دينية؟ وهل سيستحيل ما لمسناه من تواشج تلك المرجعيّات إلى تضاد ؟ هنا تحديدا تكمن حنكة الكاتب و انتقاء لغته بعناية ليعبر بنا بين تلك الخطابات، وتوظيف ما كان منها ديناميّا فاتحا القراءة على غير تأويل، و على إيحاءات متنوعة و دلالات خصبة و للقارئ أن يسلك الطريق التي يسعفه بها فهمه وإدراكه.

أما من الناحية الأسلوبية فورد العنوان نكرة (أمشاج) و هو ما قد يحيل إلى تفعيل آلية "التابو" و ما يترتب عن ذلك من خلق مفارقات لغوية تفرز تقابلا تصادميا بين جملة من الثنائيات: الحجب و الإظهار، المنع و الرغبة، العزل و الإدماج...و هي تضع الفعل الإيروتيكي دائما في "منطقة الظل و العيب و الخفاء". فكيف تجلّى الفعل الإيروتيكيّ المغاير من خلال طبقات التّشكيل السّرديّ؟ لنا أن نقسّم المتن الحكائيّ للقصّة حسب الهندسة السرديّة للنصّ إلى ثلاث طبقات: أ. ضمائر الغيبة: / هي/ هو تحتلّ المرأة موقع البؤرة في هذه الطّبقة التّي تأسّست أسلوبا على المراوحة بين الخبر و الإنشاء. فأمّا الخبر فرصدنا من خلاله التّشكيلة الأيروتيكيّة في النصّ عبر ثلاث إنبثاقات تكاد تؤلّف "عنقودا حكائيّا مستقلاّ". و تتمثّل الانبثاقة الأولى في الاستعداد للخلوة الحميمية، و قد أسهمت الكثافة الفعليّة: {فرغت/ وجدت/ جلست/ أبعدت...} في تأثيث المشهد و السّير بشكل تدريجيّ نحو لحظة التّنوير.

أمّا بالنّسبة للانبثاقة الثّانية فكانت اليد فاعلها نحويّا و مفعولها دلاليّا. و آية ذلك قوله: "مدّت يدها إلى أزارير بيجامته، و بهدوء أخذت تحلّها الواحد تلو الآخر." و قد ركّز الكاتب عدسته على حركة اليد باعتبارها "سهم الاستدلال الأوّل إلى مواطن اللّذة". فرسمها داخل دائرة الصّمت لتعبّر عن إيقاع فعل الحبيبة الجسديّ المتنامي لتوالي الاكتشافات. و يتجسد ذلك من خلال ما يلي:

كشفت عن صدر خال من الشّعر و حلمتين...” أما الانبثاقة الثّالثة فكانت ضربة لغويّة دلاليّة استثنائيّة في عمق الصّورة، ففي حين كنّا ننتظر تجسّد الحالة الإيروتيكية و بلوغها ذروتها لأنّ كلّ المؤشّرات و الدّلائل النصيّة مهدّت لذلك، إذ بالنص يخاتلنا بردّة فعل غير متوقّعة، و بدل أن تنتشي البطلة باللذّة الحسيّة نرى غريزة الأمومة لديها تستيقظ. و ليس أدل على ذلك من قوله: "أحسّت بالعاطفة الغريبة تتخلّق و تكتمل في داخلها" فكانت اللذّة مضاعفة، ما يعني أنّ الجنس بالنّسبة للمرأة ليس غاية في حدّ ذاته أو مطلبا غريزيّا محضا، بل هو و سيلة و ممارسة لإشباع عواطفها و تلبية احتياجاتها النّفسيّة.

فبطلة أمشاج بلغت من التوهّج العاطفيّ و الامتلاء الوجدانيّ ما مكنّها من استكناه مشاعر الأمومة داخلها في لحظة فارقة من التّرف الحسيّ و الروحيّ. نستشفّ ممّا تقدّم أنّ الأسلوب الخبريّ الذّي نهضت عليه الوحدة 1 من التّشكيل السّردي في النّص جمع بين الوصف و الإخبار و الإدهاش، إضافة إلى أبعاده التّحليليّة النّفسيّة و تعمّقه في الكشف عن مكانة الجسد في قصّة الكاتب فهو يهتمّ بمعاينة الجسد و استجلاء أبعاده الفلسفيّة و الرمزيّة لا بمعاشرته، و يعدُّ ذلك خرقا لمعياريّة الأدب الأروتيكيّ. أمّا بالنّسبة للأسلوب الإنشائيّ فقد ورد على شكل مونولوج داخليّ نقل لنا في صورة أسئلة متلاحقة من قبيل قوله: "من يصدّق أنّ هذا الرّأس الجميل يحمل همّا مضاعفا ...؟ و من يصدّق أنّ هاتين الشّفتين خُلقتا لغير الحديث في الحبّ؟" المشاعر و الأحاسيس التّي عصفت بالمرأة و هي تراقب بحنوّ حبيبها المستغرق في نوم عميق. و قد ركّزت في وصفه على {شفتيه/ شعره/ رأسه/ صدره} كتعبير عن حالة افتنان و سحر بالموصوف، و خوض المرأة غمار تحدّ عاطفيّ و رغبويّ حسي ماثل في عمق المشهد. "هو الصّمتُ المكتظّ بالحكي ذاك عنوان المشهد و أداته الحركيّة السرديّة التّي تقوم بتحويل الحراك القصصيّ إلى أفق بعيد". و إثر بلوغ النصّ هذه النّقطة المفصليّة يتمّ تسريع إيقاع السّرد و القفز على الفقرات "الميّتة" في زمن الحكاية عن طريق الحذف الزّمني و كذلك الاستباق.

وضمن هذا السياق يقول الكاتب: "كم يعود به صمته سنوات إلى الوراء مثلما يقفز سنوات إلى الأمام حين تنطق تلك الشّفتان." و يساعد هذا الحذف المتلقّي على قبول النّقلة النّوعيّة في سلوك الفواعل. بـ الأنا السّاردة: لعلّ ميزة نصّ أمشاج تبرز في الاشتغال على أشكال رمزيّة، عبر لقطات سريعة مكثّفة أو مشاهد مضغوطة، فتتحوّل عين السّارد الرّائية و العارف إلى كاميرا مركّزة تصوّر كلّ المستويات و على كلّ الاتّجاهات، و يمكننا رصد بعض اللّقطات التّي سلّطت عليها كاميرا السّارد الضّوء. و هي لم تخرج في الغالب عن كونها لقطات قريبة و متوسّطة كقوله: "جلست أمام المرآة تضيف لمسات أخرى على مظهرها...اختفت باقي صورته خلف جسدها المنتصب." و قد اضطلعت هذه اللّقطات بتصوير الحالة النّفسيّة و الشّكليّة للشّخصيّة، و هي تبدو هنا مستقرّة و هادئة، ثمّ بيان ردود أفعالها و انفعالاتها، و يتضّح ذلك من خلال حضور ثنائيّة المثير و الاستجابة، فاستسلام (الهُوَ) لسبات عميق حفّز الطّرف المقابل على الاستغراق في تأمّل ملامحه و تفاصيله ليخلص إلى كونها طفوليّة، ملائكيّة، ممّا كان له الأثر الكبير في تغيير مجرى الأحداث في النص. هذا و قد كانت حركة كاميرا السّارد حركة رأسيّة tilt و يتأكّد ذلك من خلال تتبّع اكتشاف المرأة لجسد الحبيب النّائم من فوق إلى أسفل. و هل أدل على ذلك من قوله؟ "كشفت عن صدر خال من الشّعر، حلمتين مستديرتين، شاربه الخفيف، ثانيا ركبتيه." فالكاميرا السّرديّة مسلّطة على بؤرة الحدث. نرى بما لا يدع مجالا للشّك أنّ القاصّ قد أفاد من مختلف الفنون و حاول استيعابها في نصّه، فكان المحكيّ بمثابة الحاضنة أو الوعاء الجامع لمختلف الأشكال الأدبيّة و الفنيّة الحديثة، من ذلك مثلا توظيفه تقنيات السّينما و المسرح في "فعاليّة اللّقطة، و المشهد، و المونتاج، و العرض، و الوصف المتنوّع الأشكال و الصّيغ و إبراز ملامحها على النّحو الذّي أغنى الفعل السّردي و عمّقه." ج/ وظيفة الإقفال السّرديّ: يسجّل النصّ في نهايته انزياحات فنيّة، و أخرى دلاليّة تكسر دائرة أفق التوقّع، و تُؤسّس شبكة علائقيّة مغايرة بين الألفاظ و الأحداث، و تفتح المتخيّل السّرديّ على عدّة ممكنات.

 فكما تتخلّق العاطفة لدى الشخصيّة المحوريّة لينتقل الحسيّ إلى النّفسيّ/الجنس إلى الأمومة، فإنّ اللّغة تتخلّق بدورها في مستوى؛ الشّكل، و الإيحاء، و المجاز، و الصّور الفنيّة، فتعاد بذلك الدورة السردية للحكاية إلى عتبة العنوان الذي كشف عن استراتيجية محكمة في اقتناص اللفظة و تطويعها لملاءمة الفكرة، و ذلك بإفراغها من مدلولها الأصلي و شحنها بطاقة ترميزية هائلة تمهد لفعل الانقضاض على المحكي بوعي القاص المتمرس المتمكن من أدواته، و قوة المفكر الذي يعمد إلى تلوين نصه برؤيته الخاصة للأشياء و للعالم من حوله، و صهرها داخل بوتقة التشكيل السردي. و رغم ما قد يدعيه الكاتب من التزام بالموضوعية و الحياد في طرق مواضيعه، إلا أنه واقعيا يمارس لعبة معقدة قائمة على ثنائية الإضمار و الكشف و لولا تحكمه في كل خيوطها لكان مآل البناء السردي القصصي الانهيار. و صفوة القول أن أمشاج أخلاط من الأفكار الفلسفية و المواقف الإنسانية و الفنون و المجازات و الصور الاستعارية. و هي تستمد قوتها أساسا من عنوانها المخاتل و لغتها الرمزية و المفارقة العجيبة بين الممكن و اللاممكن أو الواقعي و المتخيل