كنت خارج مصر وقت ثورة 30 يونيو، شاهدت لقاء تليفزيونيًا مع عصام العريان يوم التاسع والعشرين من يونيو، سألوه عن توقعاته للغد قال لا شيء سيحدث، وأنا الآن ذاهب إلى "الثيد الرئيث" ومعي تورتة للاحتفال بمرور عام على حكمه، ونستعد لعام جديد من فترته الرئاسية الأولى والتي لن تكون الأخيرة.
عندما أصبح مرسي رئيسا كانت المؤشرات تشير إلى أن الإخوان سيظلون يحكمون مصر فترة طويلة جدا، حددها الإخوان ومناصروهم بأنها خمسمائة عام، وعندما تم إعلان اسم الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع، ومع التسريبات المجهولة - حينذاك - عن ميوله الإخوانية، كان اليقين أن الإخوان سيظلون يحكمون مصر إلى الأبد.. لكن ما الذي أوصل مصر إلى هذه المعضلة؟
كيف لثورة استطاعت أن تزيح رئيسًا جلس علي عرش مصر أكثر من ثلاثين عامًا ولديه تاريخ عسكري قوي جدا بصفته أحد قادة نصر أكتوبر، أن تسلم البلد بهذه الصورة وتلك الكيفية إلى فصيل يعادي فكرة الوطنية والديمقراطية وفكرة الدولة من الأساس؟ الإجابة ببساطة وفي كلمة واحدة "النخبة"، وفي القلب منها محمد البرادعي، نعم النخبة وفي قلبها البرادعي، إضافة إلى ائتلاف الأربعة حاء "حمدين وحمدي قنديل وحمزاوي وحمزة"، وأتباعهم من الشباب، وكل الظواهر الصوتية في ميدان التحرير.
بعد يناير كان من المفترض أن يملأ الدكتور البرادعي وبشكل فوري الفراغ الذي خلفه رحيل مبارك، فهو الرجل الذي خرجت النخب إلى المطار لاستقباله، كما أنه شخصية دولية مرموقة، وبالتالي يحل معضلة الثقل والقبول الدولي الذي لا يتمتع به باقي المتواجدين في الميدان، لكن البرادعي لم يستغل الفرصة، إما عن عدم وعي أو عدم كفاءة.
وفي الوقت الذي تفرغ فيه زعماء الميدان للتنظير والتصوير، كان هناك فصيلٌ واحدٌ يعمل على الأرض للفوز بحكم مصر يحركه وهمٌ اسمُه أستاذية العالم وهم "الإخوان" ومن خلفهم "السلفيون".
وظل البرادعي والثوار يشكلون تحالفات وائتلافات وفصائل يتقاتلون فيها على فتات الميدان ويوزعون اتهامات الخيانة والعمالة على بعضهم البعض وعلى الآخرين، ويتسابقون على البدل النقدي للظهور في القنوات الفضائية، وفي نفس الوقت كان الإخوان يشتغلون على الأرض، يروجون لأعظم كذبة في التاريخ وهي كذبة "الجماعة دول بتوع ربنا".
كان البرادعي لا يرد على المتيمين والعشاق والمريدين من النخبة الذين حاولوا التواصل معه، بل كان "القطب" يرفض التواصل المباشر مع الأتباع، فلابد من المرور أولا علي شقيقه علي حامل الأختام والصكوك، وبالتالي مهما كانت درجتك القيادية والنخبوية في الميدان فعليك أن تنتظر حالات التجلّي والظهور للبرادعي في الوقت الذي يحدده ويتناسب مع مواعيده سواء كنت حمدين صباحي، أو ممدوح حمزة، أو حمدي قنديل، أو "أتخن قيادة في الميدان"، أنت عند البرادعي مجرد تابع.
كل هذا كان يحدث في وقت كانت فيه الأرض تهتز بشدة وتحتاج لمن يفرض سيطرته فورا حتى لا تنهار دولة بحجم مصر، التي لن تجلس في انتظار أن يحسم البرادعي تردده أو يحسم مواعيد تجليه، في وقت كانت فيه الساحة خالية تماما وتسمح لمن لديه القدرة علي أن يتقدم ويمسك عصا القيادة، فبدلا من أن يقدم البرادعي نفسه كبديل قوي يتفاوض مع المجلس العسكري من منطلق قوة الميدان، أضاع الفرصة وتفرغ للتنظير ودغدغة مشاعر الجماهير النخبوية دون أن يكون لديه خُطة أو رؤية ماذا سنفعل بعد مبارك؟ وتقريبا كان هذا السؤال الذي أضاع البرادعي قبل 30 يونيو وبعدها.
حالة الفراغ التي خلفها تنحي مبارك، والتردد من جانب البرادعي، وحالة التنمر الإخوانية جعلت المجلس العسكري يتقدم مرغما لملء هذا الفراغ ويتداخل مجبرا في الحياة السياسية حفاظا على البلد وليس النظام، وجاء الإخوان من خلفه يحاولون الوسوسة في أذن المشير طنطاوي بعبارة "يا مشير أنت الأمير"، لكن الرجل كان أكثر فِطنة وحِنكة من محاولات الإخوان استمالته، أو تحويله إلى نموذج منصف المرزوقي التونسي.
وعندما تم الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية بعد يناير 2011، كانت الأرض ممهدة للبرادعي الزعيم المتوج من نخبة الميدان، لكن هذا الزعيم كانت لديه حالة نفور متبادل مع الجماهير، وخاصة الطبقات الشعبية منها، ولحظه السيئ ولحظ النخبة التابعة الأسوأ، أن تلك الجماهير الشعبية هي من ستحسم الانتخابات في الوقت الذي سيكون فيه النخبة إما يغطون في نوم عميق لأنهم سهروا طول الليل وحتى السادسة صباحا يناضلون على "الكيبورد"، أو جالسين علي المقهي يحلون مشكلات العالم، ولم يقدم البرادعي ولا مريدوه إجابة عن سؤال "وماذا بعد مبارك؟".
كالعادة الدور التنظيري للبرادعي جعله خارج اللعبة، التي أسفرت عن ثلاثة مرشحين للتيار الإسلامي، أولهم أبو إسماعيل الذي يحظى بدعم السلفيين، وثانيهم المرشح السري للإخوان أبو الفتوح، كـ "كارت" يمكن اللعب به وتقديمه على أنه بديل مدني إذا تعذر الاتفاق مع الأمريكان على دعم بديل إخواني صريح وثالثهم محمد مرسي المرشح الرسمي للإخوان إضافة إلى عمرو موسى، وحمدين صباحي، وأخيرا الفريق شفيق.
طبعا خرج أبو إسماعيل من اللعبة بسبب جنسية والدته الأمريكية، بينما أسفرت الجولة الأولى من الانتخابات عن إعادة بين مرسي وشفيق، ما كان إعلان وفاة البرادعي، كمرشح رئاسي محتمل، لأن مصر انقسمت ما بين مرسي الإخواني وشفيق المحسوب على نظام مبارك.
في 30 يونيو أعطى القدر مرة أخرى هدية للبرادعي ليعود إلى الصورة ويقدم نفسه كزعيم شعبي بدلا من أن يظل في المنطقة الرمادية المترددة التي لا يستطيع فيها أن يأخذ قرارا كقائد يتحمل تبعات قراره.
في 30 يونيو كان البرادعي المدني المؤهل ليتقدم ليقود مصر بعد فترة المستشار عدلى منصور الانتقالية، لكنه، وكالعادة، لم تكن لديه إجابة عن سؤال "وماذا بعد عدلي منصور؟".
الرجل لم يتحمل أكثر من شهرين، فعلى الرغم من قربه من دائرة صنع القرار واطلاعه على المخاطر التي تهدد الدولة، تم السماح لاعتصام رابعة والنهضة لأن يصبح شرعيًا وأمرًا واقعًا وأن يصبح مثلا يحتذى للجيوب الإخوانية، ونجد بعد ذلك اعتصامات محرم بك، والمنصورة والأقصر، وهكذا، وتبدأ الدول الأجنبية تتدخل للحوار وإرسال مبعوث خاص لتقريب وجهات النظر بين الدولة المصرية وبين الميليشيات المعتصمة، وقد نصل بعدها إلى مفاوضات وعمليات تقسيم سلطة مثلما حدث في غزة.
رؤية كهذه كان يجب على البرادعي، بخبرته الدولية، أن يكون قد استشفها، وبالتالي يصبح فض اعتصاميّ رابعة والنهضة أمرًا ضروريًا حفاظا على وحدة وتماسك الدولة المصرية
فلا يخطو مثل هذه الخطوات ولا يدافع عن ما يتخذه من قرارات إلا السياسي المحنك الذي يعرف قيمة الدولة وخطورة المستقبل إذا استفحل أمر هذا الاعتصام، فالبرادعي، كعادته، فضل المنطقة الرمادية والهروب رغم أنه أيد الفض، لكن عندما رأى الحرب الإعلامية ضد الدولة المصرية لم يكن قادرًا على المواجهة، وفضّل الهروب، وكان خِنجرا في ظهر الدولة المصرية.
الرجل كان يريد أن يأتيه حكم مصر على طبق من فضة وبـ "الشوكة والسكينة" دون أن تسقط منه قطرة عرق أو "تتكرمش بدلته الإسموكنج"، ودون أن يقدم إجابة عن سؤال "وماذا بعد مبارك؟".