الإثنين 3 يونيو 2024

العميد وأزمة كتاب "عثمان"

فن23-10-2020 | 13:07

أثار عميد الأديب العربي الأستاذ طه حسين جدلًا واسع النطاق بسبب كتاباته المستنيرة , على المستوى : الفكري , والعقائدي , والسياسي , سواءً في حياته أو بعد رحيله، بدءًا من مطالبة أحد أعضاء الجمعية التشريعية (البرلمان) عام 1914, بسَحب درجة أستاذية الجامعة منه , لزعمهِ أنه كتب رسالة الدكتوراه بما يحمل دلالات إلحادية , ودفاع سعد زغلول (وكيل الجمعية التشريعية وقتها) عنه وإنصافه , مرورًا بأزمة كتابه "الشعر الجاهلي" ومحاكمته أمام القضاء وتبرئته , ثم هتاف طلاب جماعة الإخوان الإرهابية ضده في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) عام 1938؛ لإقراره على كلية الآداب - وهو عميدها - تدريس مسرحية "جان دارك" لبرنارد شو, وكتاب "أحاديث خيالية " لسافينج لاندور؛ لإدعائهم وقتها مخالفة تلك المقررات الدراسية لتعاليم الإسلام وتهجمها عليه، وصولًا لأصداء الثورة علي كتابه "عثمان" ؛ المتناوِّل لقضية مقتل الخليفة عثمان بن عفان والصادر عام 1947.

لا يفوتنا ونحن في مقام تناوُّل كتاب "عثمان" , إيراد شيئًا مما جابهه العميد بصلابة نادرة , جرّاء هجوم لاذع طاله - بسبب الكتاب - من تعنُت ولعنات المتشددين ؛ إذ تركوًا أسباب ووقائع القضية الشائكة المروعة , وراحوًا يكيلون له اتهامات شنيعة ؛ ما وصل إلي حَد تكفيره واتهامه بالزندقة , وإدانته أخلاقيًا وكأنه قاتل عثمان لا الباحث عن الحقيقة . بيد أن الكاتب الجسور لم يرضخ لوطأة الترهيب الفكري العنيف , أو يهاب جاعورة الأصوات الرجعية , بما اشملته من لغط ونداءات وعيد وتهديد , وشرع يكتب الجزء الثاني من الكتاب "عَلْيّ وبنوه" ليصدر عام 1953 .

يتناول كتاب "عثمان" القضية بحيادية كاملة ؛ بوصفها ظاهرة إنسانية وتاريخية وسياسية , تستلزم التنقيب في أسباب وقوعها درءًا لحدوثها مستقبلًا , والدأب علي استقاء العبرة واستخلاص العظة من التاريخ . لذلك جاء أكثر النقد - المنغلق - الموجّه للكتاب أنه : لا يري الفتنة قدرًا إلهيًا بحتًا ؛ يجب غَض الطرف عن أسبابه , وعدم الإيغال في تفاصيله . والأهم أن العميد انبري يؤكد - من وقائع الفتنة - نبذه لإعمال مبدأ "الحاكمية" , وعلا صوته محذَّرًا من خطورته وفداحة أثره علي المسلمين , لينادي سيد قطب به - مبدأ الحاكمية - في كتابه "معالم في الطريق" , وهو ذاته - سيد قطب - مَنْ اتهم الأمويين (عشيرة عثمان) جميعًا وبلا إنصاف , بفساد العقيدة في كتابهِ "العدالة الاجتماعية في الإسلام" ! 

يُعَد طه حسين أكثر من كتب عن الإسلام بشكل منهجي وعلمي , لينقذ عقول الكثيرين من آفات التدهور بكتباته السلسة ، عميقة الأثر والمضمون . ومن هنا نجد أن كتاب "عثمان" يتفرَّد برصدهِ أثر التحولات الاقتصادية المؤدية لتغيُّر مجتمع المسلمين بشكل كبير, وعَقد مقارنة موضوعية ما بين : سمات منهاج اشتراكي - فطري - في عهد الخليفة عمر بن الخطاب , وتكريس لرأسمالية التجارة - البدائية - في عهد الخليفة عثمان بن عفان , وكيف كان تغيُّر السياسة الاقتصادية ضمن أسباب وقوع فتنة مقتل الخليفة عثمان . وهذه الرؤية اعتبرها غلاّة الرجعية , قراءة التاريخ الإسلامي من خلال المنطق "الماركسي" , القائم علي التفسير المادي للتاريخ .

كتاب "عثمان" ؛ يطير فيه العميد بِنَا فوق بِسَاط التاريخ , المزدان بروعة العبارات الساحرة , فيرتدُ بنا الزمن إلي ما بين أعوام 23 - 61 هجرية 644 - 680 ميلادية . يلتقمنا بين دفتيه بلا تمهيد , يُلقينا في ساحة الأحداث بمدينة رسول الله , يتركنا مفجوعين من صليل السيوف المتعاركة بأثر الوشايات الخسيسة , تُرَوعنا ألسنة اللهب المُشتعلة بمِدَادِ الخيانة والتآمُر. يقع الكتاب في 31 فصلًا , يمكن تقسيمهم حسب الموضوع إلي ثلاثة أقسام :

* أولا - سياسة عثمان :

شيّدَ الشيخان (أبو بكر وعُمر) دعائم الدولة الإسلامية , وواصل عثمان أعمال سلفيه ؛ فأكمل فتح بلاد فارس وأفريقيا , هزم الروم برًا وبحرًا . لكن السياسة الداخلية بينهم - عثمان والشيخان - كانت مختلفة كُل الاختلاف , عدَّدَّ الكاتب منها وجوهًا كثيرة تنوعت بين : حزم وقوة أبو بكر وعمر, ولِين عثمان وحياؤه , تجرُّد الشيخين من عصبية القبيلة , ومشايعة عثمان لعشيرته من بني أمية . لكنه انتهي لأن خطأ عثمان الأكبر, مخالفته مبدأ عُمَر بن الخطاب - ومن قبله أبو بكر- في تقييد حرية كبار صحابة النبي داخل المدينة , ومنعهم من الترحال خارجها ؛ خوفًا عليهم وخوفًا منهم ؛ فلا يُفتن بهم عوام الناس . باستخلاف عثمان , فتح لهم الباب علي مصراعيه ؛ فانتشروا في جميع البلاد المفتوحة , صار كل واحد فيهم - بين الناس - بقربه من الرسول الكريم , زعيمًا روحيًا بشخصه , ولكل منهم مواليه وأنصاره المستقلين , أمثال : طلحة بن عبيد الله , والزبير بن العوام , وعبد الرحمن بن عوف , وعمار بن ياسر, وعبد الله بن مسعود , وأبي ذَر الغفاري ( رضي الله عنهم جميعًا) .

 

* ثانيًا - بذور الفتنة :

جاهد الشيخان لإخماد جذوة الصراع ، وردم بؤر التحاسُد بين بطون قريش السبعة , وبالذات بين قطبيها الكبيرين : الأمويين والهاشميين ، ونجحا إلي حدٍ كبير . غير أن نَعرة العنجهية الأموية عَلَت مجددًا بعد توليّة عثمان -الأموي- الخلافة ؛ إذ جاء اختياره لغالب الولاة محكومًا بالعصبية , والبعض الآخر كان محيرًا لحد كبير؛ فمن الولاة اللذين عينهم الخليفة نزل فيهم قرآنا بالفسق . عزل الخليفة الصحابي الجليل , أول من رمي في الإسلام "سعد بن أبي وقاص" من ولاية الكوفة ، وولّي بدلًا منه الوليد بن عقبة , ثم عزل "عمرو بن العاص" عن ولاية مصر ،وولّي بدلا منه عبد الله بن أبي سرح .

كثُرَت شكاية أهالي البلاد المفتوحة لفسق بعض ولاة عثمان , وساخت الأقدام من تجبرهم . لما طارت مكاتيب المظالم إلي الخليفة ، ارتدت خاوية بلا ردّ أو حَل . رأي عثمان الفتنة تطل برأسها وأدرك أسبابها , ولكن قراراته السياسية لم تكن حاسمة , بل جاءت في شكل أنصاف حلول , إذ قرر فتح باب شراء الأراضي في أنحاء الدولة ؛ ليخفف هجرة العرب إلي مصر والشام والعراق , ولكن ما حدث عجّل بحدوث الفتنة , حينما ظهرت ملكيات العرب الكبيرة في العراق والحجاز والشام ؛ ازداد العرب غني والولاة اقتدارًا . إزاء تلك الأوضاع بلغ السخط مبلغه ؛ فجاشت مراجل الغضب , وخرجت السيوف من مغامدها , ليدفع الخليفة عثمان وَحدهُ الثمن .

* ثالثًا - مقتل عثمان :

أخفق سعيد بن العَاص - والي الكوفة - في تأديب بعض المتمردين , فاعترضوًا طريقه بالسيوف ، وأجبروًا عثمان علي استبداله بأبي موسي الأشعري . وكانت تلك الواقعة بدايةً لكسر هيبة الخليفة بشكل سافر؛ إذ اتخذ أهل مصر والبصرة تلك السنة بعد نجاحها في الكوفة . ذهبوا إلي المدينة يطلبون لقاء الخليفة عثمان . قابلهم ؛ ووعدهم بأن يغيِّر الأمور ويستبدل الولاة ولم يفعل . فتحزبوًا وقدموًا عُصبة من بلادهم غاضبين , ودخلوًا المدينة مرة أخري , سكنوًا الضواحي , لم يجدوًا مواجهة تُذكر من أهل المدينة ؛ فضربوًا حصارًا حول بيت عثمان . ومنعوه من الخروج من الدار والصلاة في المسجد , وحاشوًا عنه المياه , وعثمان لا ينفك عن رفضه بتدخُل جيوش الولاة ، يمنعهم ؛ لعل الثوار يثوبوًا إلي رُشدهم . ولما اشتد عليه الحال ؛ استنجد بجيوشه يستقدمهم إليه لنجدته , والأهم بالنسبة إليه كان الحفاظ علي قداسة مدينة رسول الله وأرض الهجرة . لمّا تسرّب إلي الثائرين أنباء قدوم الجيوش للمدينة ؛ تسوّروًا علي عثمان داره , والله وحده أعلم بما حدث داخله , حتي ُأعلن عن مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه .