الخميس 2 مايو 2024

هل نحن بحاجة إلى صياغة دستور ثقافي جديد؟

فن23-10-2020 | 14:14

لعلنا لم نشعر بأن ثمانين عاماً قد مرت على صدور ما يمكن تسميته بدستور الثقافة في مصر، وهو كتاب عميد الأدب العربي طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938، والذي سعى فيه إلى ضبط البوصلة المصرية تجاه الشمال وليس الجنوب أو الشرق، هذا إذا أردنا أن ننجو بأنفسنا من بحار الرجعية والجمود، وقدم فيه براهينه على أن مصر جزء من أوروبا، ليس على النحو الذي أراده لها الخديوي إسماعيل ولكن على النحو الذي أرادته لها الجغرافيا والتاريخ، وقوانين الاتصال والانفصال، وموجات التأثير والتأثر الثقافي، مؤكدا على أن ما بيننا وبين الحضارة اليونانية التي يعتبرها الغرب الجذر الأول لحضاراته أكثر مما بيننا وبين بلدان الشرق جميعاً، وأن مصر كانت الحاضنة التي ربت وازدهرت فيها الحضارتان الأهم والأبرز في الجانب الأوربي، فحين أتت حضارة اليونان إلى مصر تمكنت من إقامة دولة قوية وحضارة عظيمة كانت أكثر ثراء من التي في أثينا نفسها، وحين أتى الرومان كانت مصر بالنسبة لهم مركزاً ثقافيا وسياسيا مهما، وإذا تحليل هوية الحضارة الأوربية يقول بأنها قامت على ثلاثة أفرع هي اليونانية والرومانية والمسيحية فإن مصر لا تختلف عنها في وجود هذه الجذور الثلاث بتكوينها، وأن المسيحية لا تمثل قطيعة مع الهوية والروح المصرية بقدر تعد مكملة لها.

 وأكد العميد في دستوره الثقافي على أن سيادة الشرق على مصر لم تدم طويلاً، ولم تأت إلا بالصدام والشر على مصر، بداية من مجيء الفرس في القرن السادس قبل الميلاد، حيث لاقوا مقاومة سرعان ما أخرجتهم من البلاد، مرورا بسيطرة العرب على مصر التي لم تدم كثيراً أيضا، فسرعان ما انقضى عصر الولاة في القرن الثاني الهجري، وبدأ عصر الدول الوطنية المستقلة في مصر بداية من الطولونية والإخشيدية والفاطمية وغيرها، أي أن مصر سرعان ما عادت إلى استقلالها عن التبعية للحكومة المركزية في بلاد العرب، وربما كان أسوأ الرياح التي أتت من الشرق هي ريح الترك الذي جرفوا البلاد، ولو أن الله كان قد عصم مصر منها تأخرت عن أوربا، ولظلت شريكة لها في النهضة والفعل الحضاري، ومن ثم فليس أمام مصر والمصريين إلا الانتماء لمحيطهم الثقافي الطبيعي وهو أوروبا، سواء باتباع منهجها في النهضة العلمية أو السياسية والاقتصادية، ولا يعني ذلك أنهم سيتحولون عن الدين الاسلامي، لأن المسيحية نبعت من الشرق وانتقلت إلى أوروبا ولم تغير العقل الأوربي، وكذلك الاسلام أتى من الشرق ولم يغير العقل المصري.

كتب طه حسين هذا الدستور الثقافي منذ ثمانين عاماً، وكان من المفترض أن يكون تقريرا يقدمه لكل من وزارتي المعارف والجامعة المصرية، فقد أرسلته الأولى لتمثيلها في مؤتمر التعاون الفكري الذي عقد في باريس صيف 1937، وندبته الثانية لتمثيلها في مؤتمر التعليم العالي الذي عقد في نفس الصيف ونفس المدينة، لكن حسين فكر في أن التقارير الحكومية، وما أسهل كتابتها بالنسبة لمثقف مثله، سوف تلقى في الأدراج ولن ينظر إليها أحد، ومن ثم قرر أن يحول الأمر إلى كتاب يتوجه به إلى الشباب، حيث أنهم مستقبل الأمة وعقلها القادم، فقدم هذا العمل الذي يمكننا اعتباره دستور العمل الثقافي في مصر لجملة من الأسباب في مقدمتها الرؤية الموسوعية التي ينطوي عليها عقل عميد الأدب العربي الحاصل على الدكتوراه من السوربون في التاريخ اليوناني والروماني، والدكتوراه من الجامعة المصرية في أبي العلاء المعري، أي أنه جمع الفرعين الأساسيين الذين تقوم عليها الحضارة والعقل المصري، حيث التقاء الشرق بالغرب، كما أنه لم يكن مدفوعاً بمجرد تأليف كتاب، بقدر ما كان مدفوعاً بتحديد أزمة وكيفية التعامل معها، والأزمة تكمن في بنية العقل المصري والمناخ الثقافي الطبيعي الذي يتجلى يبدع فيه ومن خلاله، ومن ثم يحدث الصدام الذي يصل إلى حالة من الفصام حين يحيد هذا العقل عن مناخه ومحيطه وطبيعته، فالعقل الذي أنتج التعددية الفكرية والدينية والذي وضع الأساس الأولى للفعل الحضاري البشري،  والذي قامت على رؤاه حضارات البحر المتوسط لا يمكنه أن يغير طبيعته ليتوافق مع الطرح الشرقي، وأقصى ما يمكن أن يتوافق معه هو التعامل من باب خلفي مع الشرق الأدنى في الشام، ولعل النفوذ المصري عبر التاريخ القديم والحديث يؤكد على هذه الرؤية، فكلما نهضت الدولة المصرية مدت نفوذها إلى هذا المحيط، وظلت قبلتها الأولى هي الشمال، حيث التبادل الحضاري والثقافي عبر البحر المتوسط، وفضلا عن كل ذلك هو انتباه العميد المبكر إلى أن الوطنية تقوم على الحدود الجغرافية الحديثة الضيقة وليس حسب مفهوم رجال الأزهر على الأساس الديني.

في هذا الكتاب قدم طه حسين برنامجا عملياً للتوافق مع قطار الغرب السريع، معتبرا التعليم هو القناة الأولى لوصولنا إلى ما وصلوا إليه، ومن ثم وضع خطته الكاملة لعلاجه والنهوض به، مقرا وجود أثلاثة نواع مختلفة من التعليمة، الحكومي والخاص والأزهري، لكنه اشترط أن تدرس كل هذه المدارس مواد الدين والرياضة واللغة العربية، وألا يتم تدريس اللغات الأجنبية في السنوات الأولى، وذلك للحفاظ على الروح القومية والوطنية لدى المصريين في مواجهة التبعية الغربية، كما طالب بأن يكون التعليم الفني إلى جانب التعليم الثانوي، وأن تكون معاهد المعلمين من خمس سنوات وليس ثلاث، والثانوي من ست سنوات وليس خمس، وأن يدرس الطلاب الترجمة والعلوم والآداب الغربية إلى جانب الآداب الشرقية، وأن تكون دراسة الآداب من الحديث إلى القديم وليس العكس، كي لا يهدر الطلاب طاقاتهم فيما لا ينفعهم ولا ينفع مجتمعاتهم..

المدهش أن قضايا التعليم التي عالجها طه حسين مازالت نفس القضايا التي نعانيها حتى الآن، بدءا من راتب المعلم وصولا إلى كثافة الفصول مرورا باعتبار الامتحان غاية وليس وسيلة، وخوف المسئولين من غضب أولياء الأمور مما يمنعهم عن اتخاذ القرارات الناجعة، المدهش أيضا أن التعليم الذي سعى طه حسين إلى تحريره من سيطرة الرجعية من جانب والتبعية الأجنبية من جانب آخر، سقط التعليم في براثن كلا الاتجاهين، لا لشيء سوى لسوء رقابة الدولة على العملية التعليمية، وكانت النتيجة أن الصراع الذي ظل يخوضه طه حسين طوال حياته مازلنا نخوضه نحن أيضاً حتى الآن، بل إنه زاد وتجذر إلى حد أن القوى الرجعية إلى الحكم في مصر على أسس ديمقراطية، بما يعني أن الرعية كانت اختيار شعبي وليس فعل قصري طارئ.

بالتأكيد لم يكن الدافع الأساس وراء تقديم طه حسين رؤيته لمستقبل الثقافة في مصر هو  التقرير الحكومي، ولكن الأمل في أن تأخذ مصر مكانتها التي تستحقها بين الأمم المتقدمة، خاصة وأنها في العام السابق على مؤتمري التعليم والتعاون الفكري شهد توقيع معاهد 1936، التي ألزمت القوات البريطانية بالجلاء عن مصر فيما عدا منطقة القناة لتأمين خطوط الملاحة، بما يعني أن مصر نالت استقلالها الحقيقي أو الكامل، خاصة وأن لها دستور خاص بها منذ 1923، وأن رئيسها يحمل لقب ملك مثله مثل ملكة بريطانيا العظمى، ومن ثم فالبعد الوطني كان كامنا في رؤية طه بوصفه مثقفا ملتزما تجاه قضايا مجتمعه، فرأى أنه من الضرورة وضع برنامجه للنهوض الثقافي القائم على معرفة من نحن وما محيطنا الطبيعي وآلية النهوض التي لا يمكن أن تحدث بعيدا عن التعليم، بوصفه الأساس الذي تبنى عليه العقول والأفكار.

ويمكن القول أننا بعد ثمانين عاماً من هذا الدستور في حاجة إلى كتابة دستور جديد، ليس لأن كل ما تحدث عنه العميد في دستوره قد تحقق، ولكن لأن متغيرات كبرى قد حدثت في مصر والمنطقة العربية والعالم ككل، بدءا من الثورة على نظام مبارك وريث ثورة يوليو وأفكارها التي حولت قبلتنا من الشمال إلى الشرق والجنوب، وتجذر الفكر الديني الرجعي ليس في المجتمع المصري وحده ولكن في المنطقة العربية ككل، حتى أنه بات اختيارا شعبيا لدى الكثير من الجماعات والبلدان والدول، فضلا عن ثورة الاتصالات التي حولت العالم كله قرية صغيرة تؤثر وتتأثر بنفس الأحداث في نفس اللحظة، وهي كلها متغيرات لم تكن موجودة، فأقسى ما كان يعاني منه العميد وقتئذ هو خروج رجال الأزهر عليه ومطالبتهم بسجنه أو تهديدهم بقتله، فماذا لو كان بيننا الآن ورأى وصول الإخوان إلى الحكم أو سيطرة داعش والقاعدة على العراق والشام وليبيا وأجزاء من السودان، وأن كل ما جرى وما يجري يأتى مدعوما من قبل الغرب الذي ليس بكل هذا النقاء الذي رآه عليه.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa