كان “الهلال” قد اقترح على الأديبين الكبيرين الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين أن يكتب كل منهما موضوعاً يفضى فيه برأيه فى أدب صاحبه ونواحى تفكيره.. وقبلا هذا الاقتراح على أن ينشرا المقالات فى عدد واحد.. ولكن عرضت للأستاذ طه حسين مشاغل فى برامج التعليم اضطرته إلى تأجيل كتابة مقاله.. وكان الأستاذ العقاد قد كتب مقاله، فرأينا أن ننشره بعد استئذانه فى هذا العدد.. أما الدكتور طه لقد وعد قراء الهلال بنشر مقاله فى عدد قادم.
للقدماء ضروب من التوقر يستخف بها المحدثون ولا يحفلون بها وحق لهم أن يستخفوا ولا يحفلوا، لأنها ترجع إلى أسباب خاطئة فى زمانها فضلاً عن الأزمنة الحديثة، وليس أدل على قلة الحياة من كثرة البحث فيما يجوز وما لا يجوز، لأنه دليل على كثرة القيود.
وأول ضروب التوقر التى يحق للمحدثين أن يستخفوا بها اجتناب الكتابة عن الأحياء وقصر التاريخ والتقدير على من فارقوا الحياة، فربما كان مصدر هذا العرف عند القدماء أنهم كانوا يكبرون السلف ويحصرون فيه العلم والمعرفة والأدب والخلق والشهرة، وكأنهم كانوا يستكثرون الجمع بين العلم والحياة أو بين الشهرة والحياة فى وقت واحد، فإما حياة وخمول وإما موت وشهرة، ولا توسط بين الأمرين فى تاريخ العلماء والأدباء وتقدير حظوظ العلم والأدب.
وجرف العصر الحديث ذلك العرف جرف السيل فكثرت تراجم الأحياء للأحياء.. بل كثرت تراجم الأدباء لأنفسهم بأقلامهم ونشرها فى إبّان حياتهم، وتلك علامة خير وصلاح، لأن ما خف من جانب التوقر إنما يزيد فى جانب الحياة، ولأن إساغة التاريخ للأحياء تدل على رحابة الصدر والتفاهم على الطبيعة الإنسانية فى جوانب كمالها ونقصها وإطرائها وعيبها، ولأن العصر الذى يساغ فيه الاعتراف ببعض العيوب هو العصر الذى تتوافر فيه المزايا والمحاسن، فلا يضار المرء بالنقد لأنه يعرف حدود الطبيعة الإنسانية وما يبقى له بعد النقد من وجوه التحبيذ والترجيح.
ولست أنا من أعداء القديم حباً لعداوة القديم، ولكننى أكره التحرج الكثير فى غير طائل، وأشايع زمنى فى هذه العادة خاصة، فلا أرى حرجاً فى الثناء على الدكتور طه حسين أو اغتيابه على ملأ من الناس.. ولهذا أجبت دعوة “الهلال” حين دعتنى إلى إجمال رأيي فى الصديق العالم الأديب، وهو يعدنى أو ينذرنى بمثل هذا النصيب وقبلت الكتابة وأنا أرجو ألا أكون مغلوباً حين تنكشف الورقتان المطويتان.. إذ الكلام فى كلينا سر مكتوم عن صاحبه حتى يطلع الهلال، وعندئذ تشيع الغيبة وينجلى السر عمن أحسن الحيطة والتخمين.
أنا ضامن أن الدكتور طه حسين سيقول إننى شاعر، فليضمن الدكتور طه حسين إذاً أن أقول فيه إنه كاتب ناتج فى الأدب، وخير ما أنتجه كتابيه “الأيام” و "فى الصيف" وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له فى حياته، فكان فيهما مثلاً فى البساطة والثقة التى تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعمل والتجمل والطلاء والتزويق، فالموصوف فى هذين الكتابين صادق بسيط والوصف كذلك على مثل هذه الحال من الصدق والبساطة، ولكنى لم أطلع على شىء يصف به الدكتور ما لم يجر له أو يصف ما يخلقه من الشخوص والحوادث فى عالم الرواية.. فما علة ذلك يا ترى؟
أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيباً أو عيوباً فى شعرى يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره.. فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف المخلوق فى كتاباته القصصية بعيب فيه وهو قلة الخيال.. فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته، والعوض من ذلك عنده أنه يحسن البساطة التي يندر من يحسنها ويشعر بالكفاية التى تأتى من الثقة والاطمئنان إلى صدق الشعور، وهو عوض فيه غنى لمن يحسن الاستغناء.
أما طه حسين الناقد فماذا أقول فيه؟
أقول إنه اطلع على الأدب العربى القديم اطلاعه الواسع الذى لا جدال فيه، واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتين الأقدمين، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوربيين ولاسيما الفرنسيين.. وكل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة ويبغض إليه الزيف والسخف والركاكة.. فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعين، وينبذ ما يستطيبه المحدودون من أصحاب الاطلاع القليل أو أصحاب الذوق السقيم، وله فى ذلك قواعد صحيحة ومراجع وثيقة، واعتماد على فكر لا يتقيد إلا بما يرضاه.
وإلى هنا لا أظن أن الدكتور سيعترف لى بأقل من هذا القدر فى ميزان الكتابة المنثورة فأنا رابح على هذا التقدير.
ولا أظن كذلك أن سيعترف لى فى هذا الميزان بلا تعقيب ولا استدراك، فلنسرع إذن إلى التعقيب والاستدراك.. ولا لوم ولا إجحاف.
فالدكتور صحيح الأصول فى النقد ولكنه لا يوفق بين أصوله وطبيعته فى كثير من الموضوعات.
وهو حين يقرر المبدأ على صواب غالب.
ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحياناً عن الصواب.
وعلة ذلك كما أسلفنا أن القاعدة والطبيعة عنده لا تتفقان.
فالطبيعة عنده لا تحتكم إلى الخيال والتصوير الخالق، ولكنها تحتكم إلى الرأى والاطلاع فيقع من هنا التباين والاختلاف.
أليس الدكتور يوصى بمبدأ “الشك” أو مذهب ديكارت.
بلى! ولكنك حين تقرؤه ترى له عبارات من التوكيد واليقين قلما تراها فى عبارات الشاكين المترددين.. فلا يعجب - أكثر ما يعجب - إلا أشد الإعجاب، أو إعجاباً لا حد له، ولا يقنع بما دون الإسراف وترديد كلمة الإسراف، ولا يغضب الذين يتحدث عنهم إلا غضباً شديداً، ولا يضيقون إلا أشد الضيق، ولا يتكلمون إلا بصيغة المبالغة فى معظم الأشياء.. ثم تنتقل من هذا إلى تشكيك يذكرك “بإن شاء الله” التى قالها جحا حين ضاع المال.. فقال ضاع المال إن شاء الله.
كأن الدكتور يخاف من نسيان الشك خوف جحا من تلك الكلمة التى نسيها فضاع ماله، فأنت تسمع منه: “أزعم أننى ضحكت!” وقد أزعم.. وقد أتردد.. وقد أقول وقد لا أقول”.. مع أن المرء لو أقسم جاهداً: “والله لأزعمن وتالله لأترددن، وبالله لأقولن” لما خرج بالقسم، مع الزعم، من دائرة الشكوك.
والقاعدة تستقر على اطراد إذا كانت هى والطبع على وفاق، غير أنهما عرضة للاختلاف إذا وقع بينهما الخلاف، ومن هنا ترى الدكتور يقول مرة إن أصول النقد الغربى واحدة قد وضعها اليونان قديماً وفرغوا منها، وتلقاها منهم الإنجليز كما تلقاها منهم الفرنسيون فهم لا يختلفون.. ثم نراه يقول بعد أشهر قليلة إن النقد ليست له أصول مقررة عند الناقد الفرد فضلاً عن الأمم الكبيرة والعصور الكثيرة، وأن الناقد يستحسن أن يستهجن والمرجع إلى ذوقه وحده فى استحسانه واستهجانه.
ولعل هذا التباين بين القاعدة والطبع هو الذى جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاءه فى زى القديم، أو هو الذى جعله يطالب الشعر الحديث بأمور لا يطالب بها فى حكم الطبيعة.. لأنه يجرى فى مطالبته على القياس.
وأقول للقلم: على رسلك! إلى أين؟ ما أحسبك إلا متوقعاً الكثير من تعقيب الدكتور واستدراكه فانت تستوفى المثل وتأمن أن تزيد.
ويقول القلم: ما أحسبنى والدكتور مغلوبين على كل حال فى هذه الصفقة.. وليس الحق فيها بمغلوب.
نعم، وحساب الدكتور أو “رصيده” كما يقولون فى غلة المصارف كثير، ففيه بقية وافرة بعد كل تعيب واستدراك.
وإذا قلت إن الدكتور أمن استحسان السخيف من الأدب فاختلافك بعد ذلك فى زيادة القيمة التى يقوم بها الجيد أو نقصها إنما يغير الثمن ولا يغير جودة الشىء الثمين.
ومن حساب الدكتور طه حسين أنه رجل جرىء العقل قويه، مفطور على المناجزة والتحدى، يستفيد مما يقتنع بصحته ومما يعينه على التحدى والتفرد فلا يحجم عن اتخاذه، ولهذا تغير أسلوبه الكتابى بعد دراسته للأساليب الأوربية، فاتخذ له نمطاً يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل فى الكلام الأوربى، كما يتكلمه من يجمع بين الحديث والكتابة فى وقت واحد.. فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذى اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعاً وأولها من نوعه فى اللغة العربية.. وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر فى اللغات الأوربية.
ولو كانت كتابته حديثاً محضاً لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرير، ولو كانت تقريراً محضاً أو درساً محضاً لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذى لا يتحدث به القائل، ولو كانت تقريراً أو درساً على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوربية ولجرت على سياق قريب من سياق الدروس الأزهرية، ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم، فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذى استقل بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون، وقد يكون غضب المنكرين من أسباب ذلك الابتداع! ولأجل هذا الابتداع يفتقر ما فى كتابة الدكتور من أسباب وتكرار.
ولقد أفاد بأسلوبه هذا عملاً من لم يفدهم الرأى ولم تقنعهم المناقشة.. فرأوا أن العربية قد تكتب صحيحة فصيحة على أسلوب غير أسلوب الجاحظ وعبدالحميد وبديع الزمان وابن المقفع، ورأوا كاتباً كبيراً يكتبها كما يشاء هو لا كما يشاء القدماء “فتنكتب” وتلذ وتفيد فاستعدوا لاستحسان الفصاحة فى غير قيودها القديمة، والغوا تمديد الأساليب وطرائق التعبير إلى غير انتهاء.
وذلك وحده فتح قدير.
وقد جار نصيب القوة فى الدكتور طه حسين على نصيب العمق كما أشرت إلى ذلك فى نقدى لكتابه “فى الصيف”.
وليس بالقليل بين أكبر الأدباء العالميين من هو قوى لا يتعمق.. فإنى لأكتب هذا المقال بعد أن فرغت من قراءة مقال للشاعر الإسبانى ميجويل دى أنا مينو كتبه ليمثل به رأى الإسبان بين سائر الآراء التى نشرتها مجلة “الشهر” الفرنسية عن فكتور هوجو لمضى خمسين سنة على وفاته.. فإذا هو يقول إن عمله فى إسبانيا على الأقل كان واسعاً أكثر مما هو عميق، وأرجو ألا يحسب الدكتور أننى أعود به إلى التفرقة بين السكسون واللاتين إذا أضفت إلى هذا أن شاعر الأمة الإسبانية اللاتينية يقرر أن “بيرون” والشعراء الإنجليز هم الذين وجهوا أدب تلك البلاد، وليس فيكتور هوجو ولا الشعراء الفرنسيون، وأنه ليقرر ذلك فى مجلة فرنسية تحتفل بهوجو فى عام ذكراه.
والآن وقد أبرأت ذمتى وأفضيت بمجمل الرأى مع الحيطة والمعادلة والتربص فإنى على ما أرجح كاسب ولست بخاسر.. فإن اختلف تقديرى فسأتهم محرر الهلال بإفشاء السر واطلاع مناجزى على ما اعددت له قبل أن يتأهب لى بسلاحه، والمناجزة يومئذ بينى وبين محرر الهلال.