أَبَت الكنيسة الإنجيلية، منذ نشأتها في مصر منتصف القرن التاسع عشر،إلا أن تكون جزءًا فاعلًا ومتفاعلًا مع المجتمع، فكانت مشاركة في أفراحه وأتراحه، تؤثر فيه، ويؤثر فيها، وحملت الكنيسة الإنجيلية رسالة التنمية للمجتمع ثقافيًّا وتقديم الخدمات التنموية والصحية. ولا ننسى دورها الوطني .
ومنذ عام 1855، بدأت الكنائس الإنجيلية تنتشر من الموسكي إلى مختلف أحياء القاهرة، كما تم إنشاء عدد من المدارس في عابدين والمعادي والقللي والفجالة وشبرا والملك الصالح ومصر الجديدة ومنشية الصدر والعباسية وحلوان والشرابية والزيتون، ومن القاهرة إلى أسيوط؛ حيث تم تأسيس أول كنيسة إنجيلية هناك، وإنشاء مدرسة للبنين وأخرى للبنات. ومن أسيوط إلى الفيوم،ثم إلى الإسكندرية 1865 ، ومنها إلى الفيوم في 1866، حيث تم افتتاح مدرسة للبنين وأخرى للبنات. ومن الفيوم إلى الإسكندرية، وفي أوائل القرن الماضي بدأت الخدمة بالكنيسة الإنجيلية بالعطارين ثم أنشأت مدارس وكنائس أخرى في السراي ، وسيدي بشر، ومحرم بك، والإبراهيمية.
أنشطة الكنيسة
التعليم
اهتمت الكنيسة الإنجيلية بمصر منذ بداية خدمتها بالنشاط التعليمي من خلال فتح العديد من المدارس للبنين والبنات لخدمة كل أبناء الوطن، وبخاصة في الأحياء الشعبية والفقيرة؛ حيث وصل عددها إلى 78 مدرسة في عام 1927، وكان البعض تابعًا للإرساليات والآخر كان يدار من خلال الكنائس المحلية.
الصحافة
كان للكنيسة الإنجيلية دور كبير في الاهتمام بالصحافة وتطويرها، حيث أصدرت في عام 1911، مجلة "الهدى"، وهي لا تزال تصدر حتى يومنا هذا، وفي عام 1959، أسس مجموعة من الشباب-أصبحوا فيما بعد من أهم قادة الكنيسة-مجلة أخرى باسم "أجنحة النسور"، وعلى رأس هؤلاء الشباب الدكتور القس صموئيل حبيب والدكتور القس منيس عبد النور والدكتور القس فايز فارس ، وامتد الدور أيضًا إلى الصحافة التنموية بإصدار مجلة "رسالة النور" عام 1956، لتتناول قضايا اجتماعية وتنموية طالما شغلت المجتمع.
الثقافة
وبجانب الصحافة،للكنيسة الإنجيلية بمصر باع كبير في النشر، إلا أن دار الثقافة هي أهم العلامات في هذا الطريق، أسسها الدكتور القس صموئيل حبيب عام 1950، باعتبارها أحد قطاعات الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية. ودار الثقافة منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا منارة ثقافية لمصر وللشرق الأوسط، فقد نشرت دار الثقافة ما يقارب 1500 عنوان في شتى المجالات.
العمل الاجتماعي
اهتمت الكنيسة أيضًا بالعمل الاجتماعي؛ حيث بدأت من خلال الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية التي أنشئت عام 1950، ثم استقلت عنها لتصبح جمعية أهلية أشهرت عام 1960، بوزارة الشئون الاجتماعية. وحملت الهيئة على عاتقها منذ البداية قضايا المجتمع، وخصوصًا الفئات المهمشة مثل المرأة والشباب وذوي الإعاقة، هذا بجانب تقديم العون للفئات الأكثر فقرا، من خلال العديد من الأنشطة. وتتبع الهيئة أسلوب النهج الحقوقي في التنمية، أي تساعد الفرد للحصول على حقوقه بنفسه وأن يكون فردًا فاعلًا في مجتمعه.
الصحة
أولت الكنيسة أيضًا اهتماما خاصًّا لمجال الصحة؛حيث بدأت تقدم خدمات رعاية طبية للمحتاجين في أسيوط منذ عام 1868، كما انتقلت إلى طنطا عام 1896، وإلى القاهرة عام 1950، واليوم أصبح لديها العديد من المستشفيات والمراكز الطبية المزودة بأحدث الأجهزة الطبية في مختلف محافظات مصر، والتي تقدم خدماتها للجميع بأسعار رمزية.
العمل الوطني
إذا أخذنا السياسة بمعناها الواسع فإن الكنيسة الإنجيلية المسيحية منذ بدء تنظيم عملها في توضيح وإرساء معالم الديمقراطية، اجتهدت أن تطور حياة الإنسان ككل في منظومة متكاملة وهكذا أسهمت في تنشيط الوعي السياسي لدى العامة. وللكنيسة العديد من المواقف الوطنية إزاء العديد من الأحداث التاريخية التي مرت بها البلاد، مثلما في ثورة 1919، كما شارك آخرون في صياغة دستور 1923، ويزخر التاريخ المصري برموز وطنية هم من أبناء الكنيسة الإنجيلية في مصر، منهم ألكسان (باشا) أبسخرون الذي ظل عضوًا بمجلس الشيوخ لمدة عشرة أعوام كما ترأس الطائفة الإنجيلية أربعين سنة منذ 1923.
ومع قيام ثورة 23 يوليو 1952، كانت الكنيسة جزءا لا يتجزأ من المجتمع. وتكررت المواقف الوطنية أيضًا بعد حرب 1967، وكان للكنيسة دورها الإيجابي في مساعدة المهجرين من مدن القناة. وفي حرب 1973، حولت الكنيسة مبنى بالكامل ليكون مستشفى عسكريًّا، وفي أحداث زلزال 1992، كانت هناك مساعدات كنسية للجهات المنكوبة.
ولأنها جزء أصيل من المجتمع، كانت الكنيسة الإنجيلية في قلب الميدان مع بداية ثورة 25 يناير 2011، فتابعت الأحداث عن قرب، وأصدرت العديد من البيانات التي تم إرسالها إلى مختلف كنائس العالم، تؤيد فيها الثورة. وأيضًا قامت بفتح جميع المستشفيات التابعة لها لعلاج جرحى ومصابي الثورة بالمجان. وقامت الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، والتي تقع داخل بؤرة الأحداث في ميدان التحرير، بتحويل جزء من المباني الملحقة بالكنيسة إلى مستشفى ميداني مجهز لاستقبال الجرحى والمصابين وتقديم الخدمات العلاجية لهم، وذلك منذ اليوم الأول لقيام الثورة.
كما قامت الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية بتقديم خدمات عاجلة لأكثر من 1500 من أسر الشهداء والمصابين، تمثلت في تقديم معونات غذائية وعلاجية وتوفير فرص عمل لمن فقدوا وظائفهم نتيجة الأحداث.
ومن قبل ثورة 30 يونيو وقفت الكنيسة الإنجيلية في صفوف الشعب، وكان لها دورها الفاعل. ولم تتخاذل أو تضعف بسبب الهجمات التي طالت عديد من المنشآت الإنجيلية. ومن داخل مصر إلى خارجها، امتد عمل الكنيسة الإنجيلية في خدمة الوطن، وتمثلت ملامحه في العديد من مبادرات الدبلوماسية الشعبية التي ساهمت بشكل كبير في نقل الصورة الحقيقية لما يحدث داخل مصر من مواجهة للإرهاب، وتصحيح وجهة النظر الخارجية إزاء ثورة 30 يونيو، لذا انطلقت العديد من الحوارات بدءًا بالحوار العربي الأمريكي عام 2014، والحوار العربي الأوروبي.
مبادرات مجتمعية
1- استمرار النموذج
لقد قدمت الكنيسة الإنجيلية كما ذكرنا في البداية نماذج مجتمعية متميزة في مجال التعليم والصحة والعمل الاجتماعي بشكل عام عبر أكثر من قرن ونصف. إن أهمية هذه المبادرات المجتمعية تكمُن في النموذج. ففي وسط مجتمع متأثر بالفساد وغياب القدرة، يمكن للنموذج المسيحي الجيد أن يخلق مناخًا مختلفًا ويؤكد التواصل ويُدعم بناء الجسور. ففي الوقت الذي يدعو فيه البعض إلى استقصاء الآخر، يمكن لهذه المبادرات المجتمعية ذات النموذج المستنير السباحة ضد التيار وتأكيد الحضور الفعَّال.
2- تشجيع المجتمع المدني
ومع أن المجتمع المدني في مصر مترهل وضعيف، إلا أن تشجيع المجتمع المدني سوف يسهم إسهامًا كبيرًا في تحقيق الحضور على أرض الواقع.
إن المجتمع المدني الفاعل يساعد في تعدد الهوية من خلال الانتماءات المتعددة كما أنه يخلق أرضيات مشتركة جديدة من خلال العمل التطوعي، كذلك يساهم العمل النقابي الميداني في الممارسة الديمقراطية وهنا يمكن للتيارات المدنية المختلفة الإسهام في تعزيز فكرة الدولة المدنية وتحقيق التعددية والمواطنة. وهنا يتحقق الحضور في أعمق معانيه. ولأن الكنيسة جزءًا لا يتجزأ من المجتمع عليها أن تأخذ المبادرات وتعمل بجهد من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية والعمل التطوعي، والتأكيد على أهمية أن يكون الفرد مؤثرًا في مجتمعه الذي ينتمي إليه.
3- تحقيق الذات من خلال حضور الآخر
في ظل الدعاوى الاستقصائية والرغبة في فرز الآخر وتفريغه من حضوره وفاعليته، يجب على الكنيسة التأكيد على أهمية تحقيق الذات من خلال حضور الآخر وتفعيله وذلك من خلال المبادرات المجتمعية الجديدة والتي تؤكد مشاركة الجميع في التخطيط والتنفيذ والتقييم.
إن المبادرات المجتمعية الجديدة وغير التقليدية في مجال العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي والتي تضمن حضور الآخر بفاعلية هي الطريق المهم في صياغة حضور إيجابي للجميع. إنني لست هنا بصدد طرح نماذج لهذه المبادرات لكنني أرغب في تأكيد هذه الفكرة وهي أن المبادرات المجتمعية غير التقليدية الساعية نحو تحقيق الذات من خلال حضور الآخر سوف تلعب دورًا مهما في صياغة تفاعلات جديدة من شأنها تأكيد الحضور وبناء الجسور مع المجتمع.