الثلاثاء 25 يونيو 2024

كرازة البطريرك الأول ومدرسة الإسكندرية اللاهوتية

فن26-10-2020 | 20:09

بلغت الإمبراطورية الرومانية أقصى اتساعها قبيل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام), وخضعت لها غالبية أُمم العالم القديم, ثم يشأ الله أن يظهر في قرية صغيرة جانب مدينة بيت المقدس نبيًا من أُولي العزم؛ السيد المسيح (عليه السلام), ويصنع بمعجزاتهِ وحكمته وعبقريته حقبة تاريخية وإنسانية يمتد أثرها حتى اليوم، إذ زلزلت كلماته بلاط دولة الرومان العتيدة، وانطلق رسله المُختارين في شتى أركان الأرض يُبَشرون (يُكَرزون) بالمسيحية ويدحرون معاقل ومنطق الوثنية، ومنهم -الرُّسُل المختارون- كان "القديس مارمرقس الرسول" الذي أسس في الإسكندرية الكنيسة المرقسية المصرية، ليصبح بطريرك الكنيسة الأول والتاريخي لها، وقد اقترنت باسمه حتى الآن، ومن وقتها وبطريرك الأرثوذكس (البابا) ملقبًا بـ "بطريرك الكرازة المرقسية بالإسكندرية" انتسابًا إلى القديس مارمرقس الرسول، ومستمدًا قداسته الروحية من بشارته (كرازته) المباركة بدعوة المسيح في الإسكندرية . 


 الإسكندرية حاضرة الشرق القديم 


ساعد اتساع الدولة الرومانية - في الشرق والغرب - على قيام العديد من المدن الكبرى، كل واحدة منها بمثابة حاضرة مختلفة، وتتميز عن الأخرى في الدين والعقيدة والأفكار, مثل روما والإسكندرية ونابلس وبيت المقدس، ولكن القديس الجليل مارمرقس الرسول اختار مدينة الإسكندرية، لتكون ساحة لكرازته (بشارته)، لأن وقتها كانت الإسكندرية المدينة الثانية بعد روما من حيث الأهمية، واعتبرت حاضرة الشرق القديم؛ بخلاف أنها باب مِصر الأكبر, فهي - في الواقع - مفتاح الشرق الأدنى وإفريقيا جنوبًا وشمالًا، لِمَا فيها من أجناس وأعراق مختلفة، سواءً وافدة عليها أو متعايشة على أرضها بشكل مستقر مثل : المصريون، والأحباش، والنوبيون، واليهود، واليونانييون والأمازيغ (أهل الشمال الإفريقي والمغرب العربي حاليا)، وفي ذات الوقت كانت دعوة القديس مارمرقس الرسول في الإسكندرية بمثابة الطريق الأصعب، بل والمجازفة الأكثر خطورة في مواجهة بطش أباطرة الروم الوثنيين، ولكنه كان الأصوب في سبيل نشر الدعوة بشكل واسع ومؤثر. 


فلما غرس القديس بذور الدعوة بين الناس وغادر المدينة، ثم عاد إليها مرة أخرى بعد سنوات قليلة، وجد أن دعوة المسيح (عليه السلام) قد أثمرت وشاعت بين الناس، وعزف الكثيرون عن اتباع الوثنية؛ فأسس الكنيسة القبطية الأولى في منطقة "بولكيا"، ثم قام بعمل مؤثر آخر لا يقل أهمية عن تأسيس الكنيسة، هو إنشاء المدرسة اللاهوتية المسيحية الأولى. 


 مدرسة الإسكندرية اللاهوتية 


رأى القديس مارمرقس بنظرته الثاقبة أن الإسكندرية هي الأكثر تميزًا واختلافًا بين كُل المدن التي طاف يبشر فيها بالدعوة، إذ استأثرت بمدارس الحكمة والعلم، وتلاقى في أرضها حكماء الأرض وشتى العلماء والفلاسفة، فازدهرت الأفكار والعلوم الطبيعية والفلكية، وانعكس ذلك الزخم الفكري على السكان؛ فصاروا يُكثرون الحديث بينهم عن حقيقة الربوبية وعقائد الأديان والمذاهب الفلسفية، لذلك أدرك القديس المثَقّف أنه ليس من الكافي لتمام الدعوة وجود الكنيسة وحدها في مثل هذه المدينة الماكرة ذات الطابع الفلسفي والجدلي الدائم، وأنها - الكنيسة - لن تصمد بمفردها بين كل هذه التيارات الفكرية المتباينة، أو تستطيع الرد على كل الأفكار الوثنية المستندة إلى آراء فلسفية لها وجاهتها بين الناس، ولأن القديس المستنير يدرك أن العلم والإيمان يتكاملان ولا خلاف بينهما، إنما يحتاج كلاهما إلى حلقة وصل تكون بمثابة حقلا للترابط الفكري، فاهتدى لتأسيس المدرسة اللاهوتية، لتجمع بين الدين والعلم وتضفرهما معًا، لتُعَد وقتها مدرسة الإسكندرية اللاهوتية أول مدرسة من نوعها في العالم، إذ كانت تدرس علوم اللاهوت والدين إلى جانب الفلسفة والطبيعة والرياضة والفلك والموسيقى، ما كان يثبِّت من قناعات الدعوة المسيحية وتزيدها رسوخًا بين الأهالي المستنيرين، وقامت المدرسة بالفعل بمهمتها على أكمل وجه لتخلق بين أروقتها المبادئ الأساسية لعلم اللاهوت، القائم على دراسة الإلهيات دراسة منطقية، وقد اعتمد علماء اللاهوت المسيحيون على التحليل العقلاني لفهم المسيحية بشكل أوضح، ولكي يقارنوا بينها وبين الأديان أو التقاليد الأخرى، وللدفاع عنها في مواجهة النقد الوثني العنيف. 


وفي عهد القديس "إكليمندس السكندري" رئيس المدرسة المهم -قرابة عام ١٩٠م- تفوقت على كل المدارس المسيحية المناظرة لها في العالم حتى القرن الخامس الميلادي، بفضل القديس الذي نقلها نقلة نوعية لتضلعه في أمور الفلسفة اليونانية ودرايته باللغات الشرقية القديمة، لتكون قرائاته اللاهوتية اللبنة الأولى التي أسست للفلسفة المسيحية. ثم تتلمذ على يد "إكليمندس السكندري" في المدرسة اللاهوتية، العلاّمة "أوريجانوس" وخلفه في رئاسة المدرسة، ويعتبر الأب الحقيقي لعلم اللاهوت المسيحي، غير أن تلك الفترة التي كان فيها القديس الفيلسوف "أوريجانوس" رئيسا للمدرسة ويحقق فيها علم اللاهوت كان الاضطهاد الروماني للمسيحيين على أشده، بسبب انتشار المسيحية وذيوع الدعوة بشكل واسع بين الناس، وما زاد الرومان سخطًا أن المدرسة اللاهوتية تفوقت على المدرسة الوثنية في جميع مناظراتها العلمية، والنجاح في تقديم آرائهم الفكرية الصائبة المستندة إلى دعوة المسيح، وبسبب هروب غالبية أساتذة المدرسة اللاهوتية من غشامة حكّام الرومان، أغلقت أبوابها في وجه الطلاب، فكان "أوريجانوس" العَالِم اللاهوتي والمناضل؛ يستأجر سرا أماكن صغيرة في الإسكندرية ليواصل عمل المدرسة واستكمال رسالتها العلمية السامية والإيمانية الفارقة تجاه طلابها ولو بشكل جزئي، حتى انعقد سنة ٤٥١م، مجمع التوافق الكنسي (خلكيدون) وقد نجم عَنْه انشقاقٌ عقائدي أدّى إلى ابتعاد الكنائس المشرقيّة (القبطيّة والأرمنيّة والسريانيّة) عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة، انتهت تمامًا من بعده المدرسة اللاهوتية الأولى واختفت من الوجود، ولا سيّما بعد أن تم نقلها من الإسكندرية إلى إقليم بامفيليا في (تركيا). الواقع أن المدرسة اللاهوتية من أسباب القوة الحقيقية للكنيسة القبطية المصرية، وسر تميزها بين كنائس العالم وقتها، وكذلك وراء شهرة باباواتها وبطاركتها في العالم المسيحي بأسره حتى الآن، وما حدث بعد إغلاق المدرسة أن انتقل التراث العلمي اللاهوتي الكبير منعزلًا في الأديرة بوادي النطرون.  


 الكلية الإكليركية (اللاهوتية) الأرثوذكسية المعاصرة 


باختفاء المدرسة اللاهوتية الأولى التي أسسها القديس مارمرقس الرسول اختفى الوعظ الكنسي، ودام هذا الانقطاع رسميًا حوالي 1400 سنة ميلادية، ثم عاد البابا كيرلس الخامس وأنشأها للمرة الثانية عام 1875، ولم يُقبل عليها الكثير من الطلاب لأن الدراسة فيها كانت مقصورة على رهبان الأديرة وحدهم، وعقب عودة البابا     - كيرلس الخامس - من منفاه في دير البرماوس، أعيد افتتاحها مجددا في نوفمبر ١٨٩٣ تحت مسمى الكلية الإكليركية، ووافقت الكنيسة على أن يدرس فيها طلبة المدارس الكبرى إلى جانب رهبان الأديرة، وأسندت رئاستها إلى يوسف بك منقريوس، وللمرة الأولى لا يكون مقر المدرسة / الكلية الإكليركية في الإسكندرية، إذ افتتح مقرها في الفجالة بالقاهرة (مكان مدرسة البنات الآن) وفي عام 1914 نُقلت إلى "سراي مهمشة" في مدينة القاهرة أيضًا، حيث يدرس بها المُرَشَّحون والرجال والسيدات المؤهلون العديد من العلوم المسيحية كاللاهوت والتاريخ واللغة القبطية والفن القبطى بالإضافة إلى الترنيم والأيقنة (صنع الأيقونات) والموسيقى وصنع الأنسجة، وفي عهدِ البابا شنودة الثالث امتد نشاط الكلية الإكليريكية بشكل ملحوظ؛ بحيث أصبحت لها فروعًا داخل مصر في: الإسكندرية، طنطا، أسيوط (دير المحرق)، شبين الكوم، المنيا، البلينا (سوهاج)، في خارج مصر : سيدنى بأستراليا، جيرسى سيتى، لوس أنجيلوس بأمريكا, ستيفينج بإنجلترا .


ومن بعد الأزهر الشريف، يكون الأقباط الأرثوذكس أول من أقاموا المدارس الدينية في مصر ، وكلاهُما سبق الحكومة المصرية في إنشاء المدارس العامة، وكذلك حتى قبل تدشين أول جامعة أهليّة؛ فالجامعة المصرية أنشات عام ١٩٠٨م، ولا تزال الكلية الإكليركية تصنع لنفسها والكنيسة الأرثوذكسية المصرية، شخصية قوية ومؤثرة في العالم المسيحي بأسره؛ بما تقدمه من خدمات جليلة بشكل مستمر ومتزايد.

    الاكثر قراءة