الثلاثاء 2 يوليو 2024

الكنيسة صرح تربوي

فن26-10-2020 | 20:58

القارئ للتاريخ الإنساني على مدار عصوره المختلفة يدرك بسهولة مدى العلاقة الوثيقة التي تربط عنصري الدين والتربية معا، ويستنتج بسهولة تكاملهما لدرجة انصهارهما سويا في فترات زمنية كثيرة، وتقابلهما في علاقة متوازنة ومتكافئة في فترات أخرى، ومواجهتهما لبعضهما البعض في فترات اقل، ثم ازدادت وتيرتها مع ظهور الأيدولوجيات الفلسفية والسياسية الحديثة ابتداء من عصر النهضة خاصة تلك التي تتسم بمناهضة الأديان والتشكيك فيها.


وكان الدين دوماً عاملاً مهما وأساسياً في تربية الفرد ونشأته ليكون عنصراً نافعاً وصالحاً لمجتمعه وفي المقابل كانت التربية أداة ووسيلة فعالة في إرساء مبادئ الدين وتشريعاته في المجتمعات المختلفة وفي تحقيق الوفاق المجتمعي.


ومن هذا المنطلق تأتي أهمية التربية والدين في حياة الإنسان لما لهما من تأثير واضح في تناسق وتوافق الفرد مع مجتمعه، مما يدفعه ويحفزه لتنمية قدراته وطاقاته الهائلة في خدمة ذلك المجتمع، وبذلك يكون الإنسان مركز ومحور العملية التربوية؛ فبدون الإنسان لا معنى لوجود التربية وبدون التربية يصبح وجود الإنسان مشوها.


 وفي القرون الأولى من حياة الكنيسة، كان للمسيحية السبق الأول في الاهتمام بالنفس البشرية التي رفعها الكتاب المقدس لمنزلة كبيرة، وكان مفهومها عن التربية أوسع لأنها تضمنت بعدا جديدا، ألا وهو البعد الروحي.


ومما لا شك فيه أنه إذا اقتفينا أثر آباء البرية (الرهبان) لوجدناه مملوء بنماذج المرشدين الروحانيين الذين عرفوا جيدا طاقات وقصور الطبيعة البشرية، وأدركوا إمكانياتها وحدودها، فانتهجوا نهجاً تربوياً سابقا لعصرهم وجيلهم، فنجدهم قد أخذوا بأسباب العلم، وبالأساليب العلمية في التنشئة، فتحدثوا عن الوراثة والبيئة وعن إمكانية التربية ونمو الشخصية، ودور الأنشطة التربوية وأهدافها، وكأن بهم يقرأون فكر المعاصرين التربويين في القرن الواحد وعشرين، سباقين لجيلهم بنعمة الفهم والمشورة والتمييز.


وحينما نقرأ حياة وأعمال القديسين الأوائل معلمي البيعة وأعلامها، نشعر وكأنهم يحيون بيننا قريبين منا جدا بل وكأنهم في نفس المكان الذي نعيش فيه، لذلك اقتفاء أثارهم ودراسة فكرهم وتأمل أقوالهم، يجعل مجد الكنيسة مجددًا لا يشيخ، حيًا ومعاشًا في أذهان وقلوب البشرية، ومسطراً كجواهر مرصعة في خزانة التقليد الكنسي الحي، كامتداد الكتابات الرسولية، فقد اعتبر الآباء أن الرسولية هي أساس الكنيسة وأن الرسل هم أعمدة الكنيسة.. فصاروا هم آباء وأعمدة يحملون الكنيسة في قلوبهم وحياتهم.


ولقد امتلأت كتابات الآباء قداسة وهيبة وتعليمًا لاهوتيًا وسلوكيًا مسيحيًا إنجيليًا ونورًا وانتماءً كنسيًا وخلاصًا، ولعل كلمات هؤلاء الشيوخ وأعمالهم تبدو غريبة، أو أقله بعيدة عن واقعنا المعاصر، إلا إنها في الحقيقة عميقة الغور ولا تخلو من الحكم والخبرات والعمق والشمول الذي يمكن الاقتداء به والسير على نوره، فالعبرة ليست بالقشرة بقدر ما هو اللب والمغزى، فصنفت تلك الأقوال ضمن مجاميع، بعضها رتب بحسب الموضوع، وبعضها الآخر دون بحسب نسبته إلى أصحاب الأقوال. 


وهنا سوف نتناول آباء البرية (الرهبان) من منظور مختلف، ذلك هو المنظور التربوي، مستعينين في ذلك بما ورد في كتاب التربية عند آباء البرية للقمص أثناسيوس لنرى كيف كانوا مربيين، حيث انتهجوا نهجا تربويا متكاملا عملا وعلما، ممارسة وخبرة، بتنوع غني في المناهج التعليمية والطرق التربوية المتدرجة والمتنوعة التي تتناسب مع القامات والنفسيات المختلفة كل حسب استجابته وإمكانياته وقدراته الشخصية على النمو.


ولقد جمعت نظريات الآباء في التربية بين الفكر المنهجي (التنظير) وبين التلمذة العملية والطرق التعليمية (الممارسة)، فهم يوجهون، ويوعظون، ويديرون، ويعلمون كرواد وكسابقين في الأبوة والتربية، وكان الهدف العام تربية الإنسان خادم الرب من خلال التربية الروحية والخلقية ولكي تتم تربيته لابد من اكسابه مجموعة من القيم أهمها:


- الاهتمام بالحياة الآخرة.

- الاهتمام بالمسائل الروحية.

- المساوة بين البشر.

- العمل وتحقيق العدالة داخل المجتمع.


وأصل كلمة "تربية"، في اللغات المنبثقة من اللاتينية، يأتي من فعل "ducere"، أي "وجّه". فالإنسان دائما ما يحتاج الى أن يسترشد بالآخرين لتحسين قدراته. كما أن كلمة "تربية" تأتي أيضا من كلمة "educere" ما يعني "السحب" أو الاستخراج، والتي يقصد بها في المجال التربوي "استخراج الأفضل" من كل فرد، وتطوير قدراته، من هنا، "التوجيه" و"الاستخراج" يشكلان أساس المهمة التربوية.


وفي العصور المسيحية المبكرة قد دعي آباء الكنيسة إلى ضرورة التعليم لكل عضو في الكنيسة، إن كان طفلا أو معتنقا للمسيحية وذلك استنادا إلى تعاليم الكتاب المقدس، حيث كان هناك صراع فكري بين المسيحية والعالم الوثني دام لمدة ثلاث قرون، وكان على المسيحيين الأوائل أن يتكلموا اليونانية حرفيا ومجازيا ليستخدموه للدفاع عن المسيحية أمام الوثنيين  ويعبروا عن الرسالة الجديدة بمصطلحات يفهمها المفكرون المعاصرون لهم، وكان تعليم اللاهوت المسيحي وظهور المفكرين المسيحيين هو أحد نتائج هذا الصراع.


ويعد القديس يوستين الشهيد (استشهد عام 165م) واحد من أهم فلاسفة اليونان ومدافعي القرن الثاني عن الكنيسة، ومؤسس الفلسفة المسيحية، وتمثل كتاباته أول لقاء إيجابي للوحي المسيحي مع الفلسفة اليونانية ووضع أساس اللاهوتية، ونهج نهجه القديس كلمنضس السكندري (160-215 م) وتلميذه العلامة أوريجانوس (185-254 م)، وتمثل فكرهم في أن الفلاسفة بإمكانهم المساهمة في فهم الكتاب المقدس (الناحية العقائدية)، وأن الفلسفة يمكن استخدامها في الدفاع عن الإيمان (الناحية التربوية)، وقاموا باستخدام الشعارات اليونانية: "الفكر"، "الكلمة"، والتي تمكن الإنسان من فهم الحقائق الأساسية المتعلقة بالعالم، الزمان، الخلق، الحرية، تقارب الروح الإنسانية مع الروح الإلهية، والاعتراف بالخير والشر، وقد اتبع العديد من الكتاب الكنسيين اللاحقين زمنيا هذا المنهاج الفكري.


أما القديس يوحنا ذهبي الفم (347-411 م) أشهر آباء أنطاكية، كتب  "ستة خطابات عن الكهنوت"، وهو عمل عظيم للاهوت الرعوي الأرثوذكسي. قضى القديس أربع سنوات يكافح في البرية، ويعيش حياة الزهد تحت إشراف مرشد روحي من ذوي الخبرة. وهنا كتب ثلاثة كتب بعنوان، "ضد خصوم أولئك الذين ينجذبون إلى الحياة الرهبانية"، ومجموعة بعنوان "مقارنة بين الراهب والإمبراطور"(المعروف أيضًا باسم"مقارنة بين القوة الإمبراطورية والثروة والسماحة ، مع الحياة الرهبانية الحكيمة والمسيحية الحكيمة ")، وكلاهما يتميز بانعكاس عميق لجدارة الدعوة الرهبانية. ثم ظل بعد ذلك لمدة عامين مقيم في كهف في صمت تام، لكنه اضطر للعودة إلى أنطاكية لاستعادة صحته، و قام بتكريس السنوات التالية للعمل على كتابات لاهوتية جديدة بخصوص العناية الالهية، وقد أكسبته كلماته الملهمة اسم "الفم الذهبي" ("Chrysostom"). على مدى اثني عشر عامًا، فقام بكتابة كتب كثيرة في التفسير، وقام بالوعظ في الكنيسة،  وقد كان بارعا في ذلك مما أثار بعمق قلوب مستمعيه.


اما بالنسبة للآباء الكبادوك الثلاثة وهم: القديس باسيليوس (330-379)، المعلم المسكوني، الذي كان رجل عقيدة وعمل، وأخوه القديس إغريغور يوسالنيصي (335-385)، الذي كان فيلسوفا متصوفا، وصديقه القديس إغريغور يوسالنزينزي (330-390 م) الذي كان شاعراً نبيل النفس، فقد كان لإسهاماتهم في الفكر اللاهوتي ونشر الحياة الرهبانية أثرا دائما على الكنيسة الجامعة كلها.


يتضح مما سبق أن آباء الكنيسة الأوائل أدركوا فائدة ونفع الفلسفة والثقافة الكلاسيكية، وأيضا الحاجة للمعرفة العالمية غير المسيحية، إلا أن العائق أمامهم كان يتمثل في أن هذا النوع من المعرفة كان يقدم في مدارس غير مسيحية وذات طابع وثني في منهجها وموادها، مما اضطرهم إلى إلحاق أولادهم بهذه المدارس مع التحفظ على ما يقدمونه من ثقافة والاهتمام بالتوعية الحسنة تجاه الإيمان المسيحي، إلى أن ظهرت المدارس الرهبانية وبدأ فيها تعليم الكتابة والاختزال، قراءة المزامير وتعاليم الرسل، وتعليم أوليات المسيحية والترتيل.


ومنذ افتتاح هذه المدارس بدأ الأساقفة يتولون هم عملية التدريس ووضعها ضمن قائمة أعمالهم، فقد كان أوريجانوس أستاذا للنحو، وأناطوليوس صار أسقفا للأدوكية، والكاهن مالكيون كان مديرا لمدرسة في أنطاكية، مما يوضح اهتمام الكنيسة بالعملية التعليمية وسماحها لآبائهم بالعمل في التدريس، هذا فضلا عن أن كنائس الأمم البربرية السورية، أي غير اليونانية، قامت بتطوير نظامها التعليمي، فأنشئت المدرسة السريانية في أديسا، وبالمثل حدث مع كنائس أخري بالنسبة للغة الأثيوبية، واللغة الأرمنية والغريغورية، واللغة الجرمانية، ونلاحظ من ذلك مدى حرص الكنيسة – كمؤسسة تربوية – أن يكون أعضائها متعلمين، كما اهتمت بإيصال الثقافة الكلاسيكية إلى المواطن العادي.


خلال هذه الفترة ظهر مصطلح جديد أطلق عليه " التربية المسيحية " وكان القديس كلمنضس الروماني (96م) هو أول من استخدم هذا التعبير، والمقصود بها نوال معرفة عميقة ترقى فوق المعرفة العقلية، الشعورية والعلمية، بل هي معرفة "اختبارية" ل "استعلان الحق"، وهي تعني ايضاً (التداريب) والحياة الأخلاقية بحسب القوانين والوصايا المسيحية. 


وظهرت هذه التربية كرد فعل لمفاسد المجتمع الروماني الذي انتهى بالانحلال الأخلاقي والاجتماعي، وكانت تلك العصور الأولى تعرف بعصور التهذيب لأنها اهتمت بالتربية الأخلاقية، فكانت تربية قاسية جدا مهمتها خلاص الأجساد بالبعد عن ملذات الحياة وتخليص الأرواح من الشرور والاهتمام بالحياة الآخرة.


وتعتبر الأسرة أقدم مؤسسة تربوية في العصور المسيحية الأولى، وكان القديس باسيليوس، وذهبي الفم، يؤمنان بدور الوالدين في تقديم التربية الأولية للطفل خلال أعوامه الأولى، والعادات الأخلاقية الحسنة التي تيسر فيما بعد عملية تعليمه.


أما بالنسبة لدور الكنيسة فكان يرتكز على التعليم المنهجي القائم على الوعظ وتعلم الأوليات البسيطة في الإيمان والأخلاقيات المسيحية، وفيما بعد القرن الرابع بدأ الواعظون في شرح الأسرار المسيحية العميقة، وكانت تمتد فترة الوعظ ما بين 2-3 سنوات للشباب وأربع سنوات للأطفال.


وبجانب مدارس الواعظين كانت توجد مدارس تعليمية أخرى تقدم مستوى متقدم من التعليم اللاهوتي المسيحي ومن التعليم الكلاسيكي أيضا ومن أهمها:


مدرسة الإسكندرية: وهي من أشهر المؤسسات التعليمية في التراث المسيحي، وكانت تعرف باسم الديدسكاليون.

مدرسة أنطاكية: وهي ثاني أهم مدرسة أسسها لوسيان (240-312م) وقدمت للكنيسة مفسرين عظماء مثل يوحنا فم الذهب، كيرلس الأورشليمي، ورئيس الهراطقة آريوس.


مدرستي نصيبين وأديسا: ومدرسة أديسا من أشهر المدارس غير الناطقة باليونانية يروى أن من أسسها هو مار إفرآم السرياني عندما نقل مدرسته من نصيبين إلى أديسا، وكان يغلب عليها السمة الرهبانية، وكانت مناهجها تتضمن الدراسات الكتابية والتاريخية وتفسير وفلسفة يونانية وبلاغة.


ولقد أدرك الرواد الأوائل للرهبنة مثل الأنبا أنطونيوس والأنبا باخوميوس وغيرهما، حاجتهم إلى مرشد روحي، إذ عرفوا مدى صعوبة حياة الراهب وأنه مستحيل أن يتعلم المرء هذه الحياة بدون إرشاد أب معلم، أب مرشد ومربي ونموذجاً حياً لأولاده (التلاميذ) يقودهم، ويوعظهم، ويدربهم بمهارة، ويحلل أفكارهم ويدبر حياتهم بالطريقة التي يراها مثلى ومناسبة.


وختاماً فإن الأدب الآبائي يسلم بأن للتربية تأثيرها الكبير على شخصية الإنسان؛ فيقول كلمنضس السكندري إن التربية السليمة تقود إلى السماء، وكتاب "الأقوال" يذكر أن الكلمة الصالحة لها من القوة ما يجعل الشرير باراً.