السبت 28 سبتمبر 2024

عبد الناصر وكيرولس.. حكاية الزعيم والأنبا وبناء كنيسة مصر الكبرى

فن26-10-2020 | 21:08

نقل هيكل رغبة البابا لعبد الناصر لأن البابا كان محرجاً لأن يتكلم مع عبد الناصر مباشرة خشية من الحساسيات.


ساهمت الدولة بنصف مليون جنيه. نصفها نقداً ونصفها فى البناء.

قال عبد الناصر للبابا: علمت أولادى إن اللى بيتبرع للكنيسة زى اللى يتبرع للجامع.

ذهب عبد الناصر لافتتاح الكنيسة رغم وجود آلام فى قدميه.

عندما تنحى عبد الناصر، ذهب البابا إلى بيته يطلب منه البقاء.

كان عبد الناصر ينادى البابا: يا والدى.


 

ولدت فى قرية الضهرية، مركز إيتاى البارود، محافظة البحيرة. لا جديد فى العبارة السابقة. كتبتها آلاف المرات. وثمة إشارات فى رواياتى – وأعوذ بالله من الغرور عندما أكتب كلمة رواياتى – لقريتى الأم، أى القرية الكبرى. التى يتبعها عدد من القرى الصغيرة والعزب والكفور والنجوع. وكانت قريتى كبرى ليس بعدد سكانها ولا مدارسها. ولكن لأن كان فيها مساجد كثيرة وكنيسة واحدة.


وجود كنيسة فى قرية مسألة ليست معتادة. لا أقول نادرة. لأنه ليس لدىَّ أرقام للظاهرة. بيتنا فى الضهرية كان بجواره حارة كنا نسميها حارة النصارى، أى "المسيحيين". اكتشفت بعد أن كبرت أن التسمية فيها قدر غير عادى من التفرقة. ووراء حارتنا والحارة الأخرى. وبعد بيوت كثيرة توجد الكنيسة.


منعنى أبى – يرحمه الله رحمة واسعة - ومنعتنى أمى – يرحمها الله رحمة أوسع – من الذهاب إلى حيث توجد الكنيسة. كان لديهما أسبابهما التى لا أحب تدوينها الآن. فالزمن يأتى معه بالوعى والإدراك. ولكن لأن كل ممنوع مرغوب ذهبت خلسة ومن ورائهما إلى الكنيسة.


سنوات طوال مرت على الحادث. لكن رائحة زهرة ذقن الباشا. التى كانت شجرتها مزروعة على باب الكنيسة ما زالت فى أنفى حتى هذه اللحظة التى أكتب فيها هذا الكلام. أعيشها كلما تذكرت قريتى، وعدت إليها بذاكرة أصبحت مرهقة ومتعبة من كثرة التذكر. ولذلك أنظر لنفسى أحياناً على أننى بيت مهجور لا تسكنه إلا الذكريات القديمة. للكنيسة إذن حضور قوى فى وجدانى وخيالى وقبل كل هذا وبعده فى ذكرياتى. 


لن أكتب عن وجود الكنائس والإخوة والأشقاء المسيحيين فى رواياتى. فهذا دور يمكن أن يقوم به النقاد والباحثون والدارسون. لأن هذا ليس من حقى. ومن حق آخرين لم يقوموا به. ويبقى فى انتظار من يفعل ذلك.


تركت قريتى وجئت إلى القاهرة. وعاصرت بناء الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. والذى جرى كما تقول لنا كتب التاريخ أنه مع جلوسه على الكرسى المرقسى. أعلن البابا كيرولس السادس عن رغبته فى بناء كاتدرائية جديدة فى أرض الأنبا رويس بالعباسية. ولم يكن لديه الاعتمادات المالية الكافية. وكانت العلاقة بين الرئيس جمال عبد الناصر والبابا كيرولس السادس تتمع بطابع فريد.


يروى الأستاذ محمد حسنين هيكل، أنه تلقى دعوة شخصية من البابا كيرولس للقائه. فتوجه إليه وبصحبته الأنبا صمويل، "أسقف الخدمات العامة والاجتماعية". ففى هذا اللقاء تحدث البابا مع هيكل فى هذا الأمر. وأبدى له حرجه من الحديث مع الرئيس عبد الناصر مباشرة. حتى لا تكون فيه إثارة أية حساسيات. وعندما تحدث هيكل مع الرئيس أبدى تفهماً كاملاً. وهكذا قرر أن تساهم الدولة بنصف مليون جنيه فى بناء الكاتدرائية الجديدة. نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يدفع عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام. والذى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء.


تم وضع حجر الأساس ببناء الكاتدرائية فى 24 يوليو 1956، بحضور عبدالناصر والبابا. فى حفل الافتتاح ألقى عبد الناصر خطاباً تاريخياً قال فيه:


- أيها الإخوة: يسرنى أن أشترك معكم اليوم فى إرساء حجر الأساس للكاتدرائية الجديدة، فحينما تقابلت أخيراً مع البابا فى منزلى، فاتحته فى بناء الكاتدرائية، وأن الحكومة مستعدة للمساهمة فى الموضوع، ولم يكن القصد فعلاً المساهمة المادية. فالمساهمة المادية أمرها سهل، وأمرها يسير. ولكنى كنت أقصد الناحية المعنوية. إن هذه الثورة قامت أصلاً على المحبة. ولم تقم أبداً بأية حال من الأحوال على الكراهية والتعصب. هذه الثورة قامت وهى تدعو للمساواة وتكافؤ الفرص. لأنه بالمحبة والمساواة وتكافؤ الفرص نستطيع أن نبنى المجتمع الصحيح السليم الذى نريده. والذى نادت به الأديان.


تبرعات أبناء عبد الناصر


يروى الكاتب الصحفى المرحوم محمود فوزى، فى كتابه: البابا كيرولس السادس وعبد الناصر: أن البابا كيرولس، زار الرئيس عبد الناصر ذات يوم فى منزله، فجاء إليه أولاده، وكل منهم معه حصالته. ثم وقفوا أمامه وقال له الرئيس: أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى بيتبرع للكنيسة زى اللى يتبرع للجامع. والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى الكاتدرائية صمموا على المساهمة فيها. قالوا حنحوش قرشين، ولما ييجى البابا كيرولس حنقدمهم له. وأرجو ألا تكسفهم وخد منهم تبرعاتهم.


أخرج البابا كيرولس منديله ووضعه على حجره، ووضع أولاد عبد الناصر تبرعاتهم، ثم لفها وشكرهم وباركها.

سجل يا تاريخ


جاء حفل افتتاح الكاتدرائية فى صباح يوم الثلاثاء 25 يونيو 1968، حضره الزعيم جمال عبد الناصر، والبابا كيرولس السادس، والإمبراطور هيلاسلاسى، إمبراطور إثيوبيا الراحل. وأثناء صعود الرئيس والبابا سلالم الكاتدرائية صدرت أنَّة ألم خفيفة من عبد الناصر. فالتفت إليه البابا وسأله:


- ما بالك يا سيادة الرئيس؟ ولماذا تتألم؟ لعلنى أنا الذى يحق لىَ أن أتأوه. إذ ما زلت أشعر بألم فى ساقى إثر الجلطة التى أصابتنى العام الماضى.


رد عليه الرئيس:


- إننى أشعر بآلام فى ساقى أيضاً.


فرد عليه البابا:


- ولماذا لم تخبرنا بذلك. إننا كنا على استعداد لتأجيل الحفل حتى تتماثل سيادتكم للشفاء الكامل.


رد عليه الرئيس:


- لا، بل أنا مسرور هكذا.


على أن قصتهما معاً – عبد الناصر وكيرولس – لم تتوقف عند بناء الكاتدرائية. فعندما أعلن جمال عبد الناصر التنحى فى 8 يونيو 1967، توجه البابا كيرولس إلى منزله بمنشية البكرى بصحبة ثلاثة مطارنة ونحو خمسة عشر كاهناً. وعندما وجدوا طوفان البشر محيطاً بمنزل الرئيس، صدرت التعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة بفتح الطريق أمام سيارة البابا، وعندما دخل المنزل قال:


- أنا عايز أقابل الرئيس.


فأخبروا الرئيس برغبة البابا فى مقابلته. فتحدث إليه فى التليفون قائلاً:


- أنا عمرى ما اتأخرت عن مقابلتك فى بيتى فى أى وقت. لكنى عيان والدكاترة من حولى.


فقال له البابا:


- لكن أنا عاوز أسمع منك وعد واحد.


فرد عليه الرئيس:


- قل يا والدى.


فقال له البابا:


- الشعب يأمرك إنك ما تتنازلش.


فرد عليه الرئيس:


- وأنا عند الشعب وأمرك.


وعندما أعلن أنور السادات أن الرئيس قد نزل على إرادة الشعب. توجه قداسته صباح يوم 10 يونيو إلى القصر الجمهورى بالقبة. وكتب كلمة فى سجل الذكريات أعلن فيها عن فرحته بنزول عبد الناصر على إرادة الشعب والعودة إلى ممارسة مهامه كزعيم للأمة.


عند استشهاد جمال عبد الناصر، فى 28 سبتمبر 1970، أصدر قداسة البابا بياناً جاء فيه:


- إن الحزن الذى يخيم ثقيلاً على أمتنا كلها لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبد الناصر، إلى عالم البقاء والخلود. أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به. إن النبأ الأليم هز مشاعرنا جميعاً، ومشاعر الناس فى الشرق والغرب بصورة لم يسبق لها مثيل، ونحن لا نستطيع أن نصدق أن هذا الرجل الذى تجسدت فيه آمال المصريين يمكن أن يموت. إن جمال لم يمت ولن يموت، إنه صنع فى نحو 20 سنة من تاريخنا ما لم يصنعه أحد من قبله فى قرون. وسيظل تاريخ مصر وتاريخ الأمة العربية إلى عشرات الأجيال مرتبطاً باسم البطل المناضل الشجاع الذى أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على أن يحترموه ويهابوه ويشهدوا بأنه الزعيم الذى لا يملك أن ينكر عليه عظمته وحكمته أحد.


وفى 9 مارس 1971، توقف قلب البابا كيرولس السادس، بطريرك مصر والسودان والحبشة وجنوب إفريقيا. هكذا كان يوصف البطريرك الـ 116 للكنيسة الأرثوذوكسية.


أسرار العلاقة


ظل البحث عن أسرار العلاقة بين كيرولس وجمال، محل دراسات كثيرة. كتب أسامة عيد، الصحفى:

- إن للبابا كيرولس إنجازات كثيرة لا تحصى. منها بداية النهضة فى المهجر بأمريكا وكندا وأستراليا. وهذا يعتبر إنجازاً عظيماً لظروف مصر فى وقتها وما كانت تعانيه من حصار دولى بعد حرب 1956، ومع ذلك لم تتوقف رعايته يوماً واحداً.


وأضاف:


- كان البابا كيرولس داعماً للوطن بكل قوة، وربطته صداقة بالرئيس عبدالناصر، وصفت بالصداقة القوية، وبكى لرحيل عبدالناصر بشدة أمام الشعب، وداخل سرادق العزاء. مما يدل على قوة هذه العلاقة.


ويكتب:


- وربطت كيرولس علاقة أبوية مع الإمبراطور هيلاسلاسى، إمبراطور الحبشة الذى كان يحترمه ويعتبره والده الروحى. ويحسب له أنه كان إدارياً ونشيطاً، ولم يكن له حاشية معينة، وكان الأقرب إلى شعبه وعوضهم عن محنة البابا يوساب، والضغوط والمشاكل التى مرت بها الكنيسة فى عصره.


وكما أكتب عادة فى مثل هذه الموضوعات التى تتباكى على الماضى. أختم:


- رحم الله الجميع.