ليس هناك خيار آخر أمامنا سوى العلم، لكن..
ما العلم؟ وما المعرفة؟
كيف نفرق بين علم ينتفع به وعلم لا قيمة له؟ وكيف نعطي العالم حقه في أن نتعلم منه؟ وما قيمة العلم في بيئة لا تعترف به؟ وما قيمة بيئة لا علم فيها ولا معرفة؟!
منذ نيف من السنوات، كنت أجلس في شرفة بيت صديقي البروفسور محمود الشيخ في حي المنيل بالقاهرة على النيل، وعرج بنا الحديث نحو ضرورة تصحيح المفاهيم المتعلقة بالعلم والمعرفة والمنهج وعلاقة كل ذلك بالثقافة، وإذا به يذكر كتاب "الأدب الجاهلي لطه حسين" والذي صدر عام 1926 بعنوان "في الشعر الجاهلي"، ونظرًا لضغوط كثيرة كان أغلبها على غير حق، قام طه حسين بتغيير عنوان الكتاب إلى "في الأدب الجاهلي" (1927) ومن ثم أعاد صياغة أربعة أجزاء من الطبعة الأولى التي تسببت له في كثير من المصائب، التي حامت حول حياته وطاردته إلى أن أجبرته على تغيير بعض أجزاء هذا الكتاب (الرؤية واللعنة معًا).
الحقيقة ان اهتمامي الشخصي بكتاب طه حسين كان مبعثه أمر غريب يتعلق بما كتبه طه حسين نفسه، فإعجاب طه حسين بديكارت لا حدود له، وكيف لا وهو صاحب مذهب الشك، ولكن منذ متى كان مذهب الشك منهجًا يعتمد عليه عمل علمي؟ كان لابد أن يعتمد على منهج حقيقي، فالشك ليس منهجًا لبحث علمي، وإنما هو أقرب لطريقة للتفكير، وشتان بين الأمرين، لهذا انتبهت بشدة إلى ما قاله صديقي العزيز، وسرعان ما أكد فكرتي، فلا يمكن لطه حسين أن يعتمد مذهب الشك في تأليف كتاب ينقد فيه مدى تاريخانية الشعر الجاهلي، خاصة أن هناك من أشار إلى أن الشعر الجاهلي في جله قد يكون منحولاً، وهو ليس بالرأي الجديد، بل هذا ما صرح به ابن سلام الجمحي منذ مايزيد عن 1200 عام، ولكن شتان بين الرأي والحقيقة، فالحقيقة ليست مجرد رأي، وربما أحيانًا تكون الحقيقة مجرد رأي، شأنها شأن المستحيل، المستحيل يمكن أن يكون مجرد رأي، ويمكن للرأي المتعلق بالمستحيل أن يتحول لحقيقة، ولنأخذ على سبيل المثال حلم الصعود للقمر، إنها فكرة إنسانية بامتياز كان ينظر إليها عبر التاريخ الإنساني الممتد لأكثر من ستة ملايين عام، لكنها كانت مستحيلاً حتى جاء نيل أرمسترونج وسار على القمر عام 1969، إذن ليس هناك مستحيل مع الإرادة الانسانية، وهو موقف حداثي بامتياز أيضًا، يعتمد كلية على التطور العلمي وتراكم المعرفة.
ما علاقة ذلك إذن بطه حسين وكتاب الشعر الجاهلي؟ نعم، هذا هو مربط الفرس، هذه العلاقة هي بناء علمي، فلا أعتقد أن طه حسين الذي كان يملك فكرة كاملة توضح رؤيته في الشعر الجاهلي، كان في ذلك الوقت لايملك منهجا رصينًا لتحقيق ذلك، لأنه لم يفصح عن منهج علمي يتفق مع القضية المبحوث فيها، وهو أمر غريب هنا، فمن يجرؤ على انتقاد طه حسين؟!
لا يمكننى الادعاء بأن في هذا القول نقدًا، بل هو أمر أكبر من مسألة النقد، لأن ذلك ارتبط بأمرين، الأول هو أن نتسائل ما منهج طه حسين في الوصول لحقيقة انتحال الشعر الجاهلي؟ وهل كان يعرف كل من انتقده بأنه كان هناك منهجًا لذلك؟ وهل يعد مذهب ديكارت المنهج المناسب للاعتماد عليه في الوصول إلى حقيقة انتحال الشعر الجاهلي؟ هذا سؤال أول مركب، والسؤال الثاني كان معلقًا، هل هناك أي محاولة في تاريخ الإنسانية سابقة على طه حسين أشارت إلى شعر أمة من الأمم أو تراثها يمكن أن يكون منحولا أو هو منحول بالتأكيد؟ هذان السؤالان هما عبقرية هذا الكتاب، وهما أمران من الضخامة أن لا نتركهما يمران مرور الكرام، لقد تحدث الجميع من تلامذة طه حسين عن الرؤية، بينما هذا كتاب الجديد الذي يصدر قريبًا في المنهج، وكيفية تقصي الحقيقة، وهذا بلا شك أعظم الإضافات التي تعيد التوازن لنقد الشعر الجاهلي، ولا أنسى ما قاله أحد الكتاب العرب العظام وهو د. جمال شحيد لي شخصيًا في مكتبة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بدمشق عام 2007، متحدثًا عن طه حسين بأنه "كان الوحيد بيننا الذي يمتلك القدره على الرؤية"، رحمة الله عليهما.
أو دعني أقولها ببساطة، عبقرية البروفسور محمود الشيخ، هذا العالم المتخصص في اللغات الرومانسية، وفقه اللغات الرومانسية، ليس اسمًا شائعًا في العالم العربي، لأنه لا يدرس لدينا بل يدرس فقط في الجامعات الأوروبية، وهو علم يدرس مجموعة من اللغات هي تحديدًا الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية، أي اللغات المشتقة من اللغة اللاتينية، والتي يطلق عليها "اللغات الحديثة".
ميزة أن تتناول عملاً من وجهة نظر فقه اللغات الرومانسية، أو دراسة النص في مخطوط، وأعنى هنا الفيلولوجيا، تمكنك من أن تغوص في أشد القضايا حساسية بحثًا عن الحقيقة، خاصة إذا ارتبط ذلك بالتاريخ وتوافرت مخطوطات ووثائق ومراجع تمكنك من التعرف على الماضي بشكل جيد، وباتباع منهج لاخمان الذي أشار إليه البروفسور محمود الشيخ في ثنايا عمله، والمنهج هنا هو أهم قطعة في "بازل" قضية الشعر الجاهلي، إذ من المعروف والثابت علميًا وتاريخيًا أن العلم يسقط إذا سقط المنهج، فالمنهج هو الطريق الصحيح والمحدد المعالم ولا تشوبه شائبة للوصول للحقيقة، الحقيقة التي تبدأ بحدس.
ليس ذلك فقط، لابد أن تكون لك القدرة على القراءة بلغات متعددة، حتى يمكنك الوصول للحقيقة، خاصة في عمل أطرافه مترامية بين الإنجليزية والألمانية ثم عائلة اللغات الرومانسية، ناهيك عن العربية، التي تعمل على تكوين رؤية، ودون الرؤية فلا علم هناك، وهي القطعة الثانية في هذا "البازل"، وأنا من المؤمنين بأن العلم أيضًا موهبة، لا يمكن لأي إنسان أن يتبع المنهج فقط، فإذا كان بلا موهبة فلن يقدم كثيرًا، الموهبة هنا تمنح الرؤيا، وأظن أن شخصًا مثل محمود الشيخ الحاصل على أعلى الأوسمة في الجمهورية الإيطالية، ومن بين أعماله أهم نصين محققين وفقًا لمنهج لاخمان، هما "المنصوري في الطب باللغة الإيطالية القديمة" لأبي بكر الرازي و"كتاب الجراحة باللغة الأكسيتانية" للزهراوي، ويمكنكم مطالعة كتابين يتكون كل واحد منهما من عدة مجلدات لتتعرفوا على كم الجهد المبذول في عملية التحقيق، وإذا رجعنا لكل الكتب المحققة في الشرق سنجد أنه كان يشوبها شائبة ما، لأنها استندت لمناهج غير صحيحة ينقصها الاستناد العلمي والكثير من الأدوات، لذلك أغلبها – أغلب هذه الكتب - يحتاج إلى إعادة تحقيق وصبر وجلد، وهي صفات للباحث في مجال تحقيق النصوص والتراث.
إن إلمام الباحث المحقق للنصوص بأدواته يحتاج لمزيد من العناية من قبلنا في المؤسسات العلمية المعنية بتحقيق نصوص الجامعات في العالم العربي، فلم يحصل باحث عربي واحد في أي جامعة عربية على جائزة جديرة بالتنويه، يمكنكم أن تتخيلوا عدد العلماء وتلاميذهم، في كل الجامعات العربية، في مقابل جامعة واحدة مثل جامعة أوكسفورد الإنجليزية، التي يعد بها 40 عالمًا حاصلين على جائزة نوبل ، والعلماء الذين حصلوا على جوائز عربية مشكوك في صحة حصولهم على الجوائز لأسباب تتعلق بالمزاج العربي نفسه، المتعلق بالمحاباة وتفضيل الأصحاب والأصدقاء والمنتفعين ولا شأن للعلم بهذه القيم!
في تلك الفترة التي كان محمود الشيخ يفكر في كتاب طه حسين، وكانت مناقشاتنا مستمرة، تمكن من دعوتي إلى زيارة جامعة فلورنسا التي يعمل بها هناك، وكان نائبًا سابقا لرئيس الجامعة وأستاذًا لفقه اللغات الرومانسية وعضوًا بمجمع اللغة الإيطالية، في أثناء الزيارة، وجدت أن البيئة العلمية والتعليمية والقوانين الحاكمة لها والمعامل والمكتبات وغرف الأساتذة وإمكاناتهم التعليمية في كلية واحدة، يمكن أن تفوق ما لدى جامعة عندنا، ولم أجد فرقًا بين غرفة رئيس الجامعة وغرفة عضو هيئة التدريس، هذه الفروقات تؤكد وستظل تؤكد أن العلم هو آخر ما نفكر فيه، ولا أستثنى من ذلك سوى هؤلاء العلماء الذين يموتون دون أن يسمع أحد عنهم شيئًا، ولولا أعمال جمال حمدان مثلاً عن مصر ما عرفنا شيئا عنه، وبأنه مات محترقًا، وغيره الآلاف.
هكذا يصبح العلم لا خيار أمامنا آخر إلا به، مع الأخلاقيات والقوانين والبيئة، لا فضل لأحد على آخر إلا بعلمه.
ما يؤكد لي ذلك هو عمل محمود الشيخ نفسه في كتابه الذي الذي يصدر قريبًا عن واحدة من أهم دور النشر المصرية، إن كتابة هذا العمل تمت بين مارس 2020 ويونيو 2020، وهي فترة عصيبة على العالم في ظل انتشار جائحة كوفيد 19، وما تسببت عنه من كوارث في العالم ككل، ومع ذلك فقد أخرج من أدراجه ما اختزن سابقًا، واستطاع أن يوفر ما احتاجه لإنهاء عمله.
لا أريد أن أبتعد كثيرًا عن الحديث حول كتاب محمود الشيخ، هذا الرجل الذي تجاوز الثمانين، ومع ذلك فهو ممتلئ النشاط، متقد الفكر، يمتلك موهبة الرؤية العلمية السديدة، قليل الكلام، كثير الإنصات، يفكر دائمًا في الجديد الذي يمكن أن يقدمه للعلم ولنا في بلاده التي لم توضع بعد على الخريطة العلمية للعالم. كانت جولاتنا سويًا في حرم جامعة فلورنسا ولقاء بعض الأساتذة خلال فترة إقامتي هناك وحديثنا اليومي حول كتاب طه حسين مبعثًا على الكثير من الإثارة الفكرية.
يمتلئ الكتاب بالعديد من المفاجآت التي لو قرأها من هاجم طه حسين وطالب برأسه وحرقه وشنقه وسجنه، على كثرتهم، ومن دافع عنه وطالب بالرأفة به، على ندرتهم، لسكتوا جميعًا، ليس لأن طه حسين كان على خطأ أو على صواب، ولكن لأن المنهج كان أقل كثيرًا من الرؤية، لا يمكن التشكيك في رؤيا طه حسين، وأنه على الرغم من تمكنه من إثبات نحل الشعر الجاهلي إلا أن هذا الإثبات كان ناقصًا ومعيبًا.
هذا ما يمكن أن تكشف عنه قراءتك لهذا العمل الضخم، على قلة عدد صفحاته، دعونا نتسائل أولاً لماذا يمكن أن يكون العلم ناقصًا ومعيبًا؟!
العلم يحتاج إلى أمرين :
1- الرؤية
2- القدرة الفائقة على التمكن من المنهج
هذان الأمران هما ميزان أي علم وكل علم، والأدب يحتاج إلى أمرين:
1- الرؤية
2- القدرة الفائقة على التمكن من الكتابة
الفن يحتاج إلى أمرين :
1- الرؤية
2- القدرة الفائقة على التمكن من التشكيل
نعم هذان الأمران في ظنى المتواضع هما ميزان كل علم وأدب وفن، بقدر التمكن منهما بقدر ما يكون كل علم وكل فن وكل أدب متماسكًا أو ضعيفًا، وكلما كان التماسك قويًا كلما كان العمل عظيمًا وخالدًا.
في هذا الكتاب يعلمنا محمود الشيخ الفضيلتين، الرؤية أولاً، فبدون الرؤية لا قيمة للعمل العلمي، إن ما نسميه السببية أو بعبارة أبسط الفرض أو الأسئلة التي سنطرحها في الدراسة، تمثل الرؤية في أبسط أشكالها، والرؤية سلسلة من الأسئلة أو الفروض التي ستؤدى للوصول للحقيقة، الرؤية أيضًا هي القيمة الكلية للعمل وأهميته، وبدون رؤية واضحة وشفافة وسليمة يفقد العمل قيمته، والرؤية أيضًا هي القدرة على استشفاف ما بعد الحدود، نعم الرؤية هي كل ذلك، والتمكن من المنهج ثانيًا إلى حد لم أره في عمل علمي من قبل، أقولها وكلي خجل من كل ما قرأت في عالمنا العربي باللغة العربية، ولا أستثنى من ذلك إلا القلة النادرة.
يقال إن محبة العلم تبدأ في الصغر، هكذا كان محمود الشيخ حين سمع للمرة الأولى عن قضية الشعر الجاهلي، وهكذا ظلت الفكرة حبيسة صدره، حتى تمكن مؤخرًا من حل تشابكاتها.
إنه يمتلك أسلوبًا بسيطًا خادعًا، وقد تعلمنا من كل عالم صادق أن العلم كلما كان بسيطا كلما كان أكثر قدرة على الوصول لقلوب وعقول القراء.
تحضرني بهذه المناسبة ذكرى فيلم شاهدته منذ عدة سنوات بعنوان Travelers، وهو فيلم عن عالمة لغة تذهب لتحل معضلة تتعلق بغرباء أتوا من عالم آخر، وكما يقال بالإنجليزية Thus بمعنى هذا هو الأمر أو هكذا، لايمكنك أن تقدم علمًا جديرًا بالاحترام دون قدرات موسوعية، دون قدرة على لملمة ما يظنه الآخرون شتاتًا، فتحيله بقلمك إلى مجموع متساوي ومترابط ومنظم يؤدى لنتائج محددة.
هذا ما يجب أن نضعه في حسباننا ونحن نقرأ هذا العمل العلمي الرائد، والذي لو انتبهنا له جيدًا لأعدنا ترتيب أولوياتنا المنهجية ومنحنا تلامذتنا القدرة على تقديم رؤية جيدة من قاعدة تعتمد القراءة والتجربة العلمية والحوار مع الآخر، وهي عوامل ستساعدنا كثيرًا على إعادة البناء، وهو ما ليس لدينا خيار فيه، كما العلم تمامًا، لا خيار لنا في تتبعه.
لا أريد أن أزيد على ما كتبه محمود الشيخ، وكيف استطاع الخروج من حقل ألغام وضعه طه حسين، وكان على محمود الشيخ أن يزيلها جميعا لنتمكن من المرور.
هذا العمل العلمي ذو المتعة العقلية الخالصة والوثائقية الدؤوب والنصية المتفردة، يحتاج لعناية خاصة من القارئ، وأظن أن هذا الكتاب لو وُضع في إطاره الصحيح، فستخرج منه عشرات الرسائل العلمية في مجالات متعددة تتراوح بين التاريخ والأدب الشعبي والتراث وتحقيق النصوص بما يسمح بتجديد ضخم لكثير من القضايا العلمية بأكاديمياتنا العربية.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020