الخميس 30 مايو 2024

حسن حافظ يكتب: المماليك برؤية فرنسية.. دراما ثلاثة قرون من «صراع العروش»

فن27-10-2020 | 18:41

بحُلم أسطوريّ للسلطان الأيوبي الملك الصالح، في سيرة شعبية تُروى على مقاهي القاهرة ودمشق، يَدْلُف المؤرخ الفرنسي جوليان لوازو في كتابه "المماليك من القرن الثالث عشر حتى السادس عشر"، والذي صدرت ترجمته عن "منشورات الجمل" خلال العام الجاري، إلى عالم المماليك السحري، الذي كان محط أنظار العالم في العصور الوسطى. إذ يرصد لوازو تجربة مدهشة في التاريخ، حملت مجموعة من العبيد من وسط آسيا إلى قلب القاهرة، ليُعاد تربيتهم وتدريبهم على مهمة حكم مصر والشام والدفاع عنهما لنحو ثلاثة قرون.


ينطلق المؤرخ الفرنسي من السيرة الشعبية، وهي بنت الأسطورة، ليفك شفرة التاريخ، وهو ابن الوقائع والوثائق. يبدأ رواية قصة المماليك من قلب سيرة الظاهر بيبرس الشعبية، التي ظلت تُروى على مقاهي مدن مصر والشام حتى مطلع القرن العشرين. 


إذ حَلُمَ السلطان الأيوبي "الصالح نجم الدين" بعبد من المماليك اختارته العناية الإلهية ليحقق مستقبله العظيم في مصر، وذلك على يد السلطان الأيوبي الذي يجب أن يشتريه من أسواق العبيد تنفيذًا للمشيئة الإلهية. 


كانت هذه الرواية الشعبية ترجمة لواقعة اقتناء الصالح أيوب للكثير من المماليك الذين كون منهم فرقة عسكرية، وأسكنهم قلعة بجزيرة الروضة، فعُرفت باسم المماليك البحرية، قُدِّرَ لها أن تلعب دورًا كبيرًا في تاريخ مصر لعدة قرون.


في البداية، لم يهتم لوازو برصد التاريخ السياسي لدولة سلاطين المماليك (1250- 1517)، لذا يتأخر هذا السرد إلى الفصل الثالث. عوض ذلك يهتم برصد رواية تمتد فصولها عبر مساحة هائلة، تبدأ من وسط آسيا وتنتهي في مصر والشام، تتغير فصولها بين مساحة تتجاوز الألفي ميل، يحكي من خلالها - بأسلوب أدبي شيق - قصة تجارة العبيد التي كانت تحملهم إلى مصر عبر دروب ومحطات تجارية، يشارك فيها أهالي جنوة الإيطالية بسفنهم، والمغول بغزواتهم التي قهروا من خلالها أتراك القبجاق فوفروا الكثير من العبيد، والبيزنطيون الذين فتحوا حدودهم لانتقال التجارة المزدهرة من شمال البحر الأسود إلى حدود دولة المماليك.


ينقلنا لوازو إلى عالم المماليك الداخلي بعد استقرارهم في القاهرة، معتمدًا على ترسانة ضخمة من المصادر والمراجع، لإعادة رسم صورة تنبض بالحياة لعالم المماليك الصغار، عندما يتم شراؤهم من قبل سيدهم الجديد الذي هو أحد أمراء المماليك. 


يتلقف الأخير جنود المستقبل، ويمنحهم أسماءً وألقابًا، والأهم أن يمنحهم أسرة ينتمون إليها، فتتحول علاقتهم مع سيدهم الجديد إلى علاقة أب بأبنائه، وهي خطوة أساسية لدمجهم في المجتمع العسكري، هذه العلاقة تكون أكثر أهمية من علاقة الأمير المملوكي بأولاده الحقيقيين، فأولاد المماليك لا يدخلون في الطبقة العسكرية ويُطلق عليهم "أولاد الناس".


تبدأ عملية تأهيل المماليك الصغار، الذين تتراوح أعمارهم بين التاسعة والرابعة عشرة، عبر تلقينهم مبادئ الإسلام لطمس أصولهم الوثنية، إذ يتم جلب أحد المعلمين من المدارس المنتشرة في فضاء القاهرة، لتولي عملية تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم. 


وكانت توضع بين أيديهم عدة مؤلفات تتضمن معارف العصر من قصص الأنبياء وحياة النبي محمد، ومجموعات حديث وعظية، ودواوين شعر ديني، فضلا عن كتب التاريخ، "هكذا كان جنود المستقبل يتلقون في مقتبل عمرهم تدريبًا حقيقيًّا على القراءة والكتابة، يدخلهم بلا مشقة في ثقافة محيطهم الجديد".


وعند سن البلوغ يبدأ المملوك الصغير التدريب العسكري، يتعرف على مختلف أنواع فنون القتال، كان المماليك في عصرهم حماة الإسلام، وأشهر الفرسان، ولهم سمعة عالمية في استخدام كل أنواع الأسلحة المعروفة وقتذاك، الأمر الذي مكنهم من التصدي للخطريْن المغولي والصليبي بنجاح باهر، لذا لم يكن غريبًا أن يتعلم المماليك الصغار فنون الفروسية التي تشمل "ثقافة حرب حقيقية"، وكانت ذروة التدريب هي امتطاء فرس بلا سرج، وإصابة الهدف من فوق حصان منطلق العنان، بعدها وفي احتفالية مهيبة يحصل المملوك على شهادة تأهيله وعتقه الرسمي، لينضم للجيش المملوكي رسميًّا.


يستعرض المؤلف تعاقب 50 سلطانًا بين عامي 1250 و1517، في إيقاع أسرع من مختلف عروش ذلك الزمن، فمثلًا تولى عرش فرنسا 16 ملكًا، بداية من العام 1226، لويس التاسع (الذي وقع في أسر المماليك بعد هزيمته في المنصورة)، حتى فرانسوا الأول العام 1515، عشية سقوط السلطنة، مُستعرضًا التفسيرات المختلفة لهذا الإيقاع السريع، ليصل في النهاية إلى الكشف عن التوتر الدائم في بنية السلطة، بين إرادة السلطان الفردية بنقل عرشه إلى ذريته من بعده، وبين تمسك المماليك الجماعي لنقل أمجادهم العسكرية إلى جنود مثلهم مروا بنفس مراحل تدريبهم. 


من هنا يبدو واضحًا سبب فشل السلاطين العظام - بدايةً من بيبرس ونهاية بقايتباي - في تأمين السلطة لأولادهم، وباستثناء قلاوون الذي نجح في توريث السلطنة لثلاثة أجيال من ذريته.


دراما الصراع على العرش كانت دامية وحافلة بالتفاصيل والمؤامرات، هناك 13 سلطانًا تُوُفُّوا وفاة طبيعية من أصل خمسين سلطانًا، باستثناء السلطان قانصوه الغوري فهو السلطان المملوكي الوحيد الذي قُتِلَ في ساحة المعركة، أمّا بقية السلاطين - وعددهم 36 سلطانا – فقد كانت نهاياتهم مأساوية، إذْ كان يتم خلعهم على إثر اتفاق بين كبار الأمراء صانعي الملوك، وكانت الآلية التي تحكم عصر المماليك هي أن "المُلك عقيم"، والتي تحطمت عليها رغبة سلاطين دولة المماليك الجراكسة (الثانية)، في نقل السلطنة إلى أولادهم، فلم يختلف مصير أبناء السلاطين - شيخ وططر وبرسباي وجقمق وإينال وقايتباي - الذين راحوا ضحية الصراع بين كبار قادة فرق المماليك. 


يخصص جوليان لوازو بقية فصول الكتاب لاستعراض بعض جوانب حياة المماليك، وكيف عاش أبناء هذه الطبقة، وحاولوا صنع هوية مميزة عن طريق عادات وأزياء مميزة، فضلًا عن مشاركة السلاطين والأمراء في عملية التشييد والتوسع الهائلين اللذين عرفتهما القاهرة، خصوصا في عصر السلطان الناصر محمد في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، لافتًا إلى سعي المماليك نحو ترسيخ جذورهم في التربة المصرية عبر آلية الأوقاف، التي أراد منها أمراء المماليك "وسيلةً ومكانًا للاستقرار".


في تحليله النهائي لدولة المماليك، ينتهي المؤرخ الفرنسي إلى أنهم لم يسعوا للبحث عن شرعية تمحو وقوعهم تحت نير العبودية، بل كانوا يبحثون عن مواطنة أصلية. 


فكان تاريخ المماليك هو تاريخ ذلك السعي الحثيث طوال قرون ثلاثة لأجيال من بضعة آلاف من الرجال. ربما من هذا التحليل نفهم إصرار السلاطين والأمراء على تخليد ذكراهم بأعمال إنشائية ضخمة، كانت على ما يبدو محاولة إنسانية لزرع جذور هؤلاء الرجال الذين فقدوا في الغالب أي صلة بأصولهم البعيدة.


يتعهد لوازو في مقدمة كتابه بأنه لن يقدم "إعادة تركيب لتاريخ السلطنة المملوكية، ولا لعرض لوحة شاملة للعصر المملوكي"، بل يقصر مهمته على "حكاية تجربة سياسية فريدة"، فتاريخ المماليك يفرض نفسه تلقائيًّا لمن يريد اكتشاف آثار مرورهم على مصر وسوريا، وهي مهمة نجح فيها المؤرخ الفرنسي إلى أبعد حد، بأسلوب شيق يشد القارئ منذ البداية، والذي نجحت مترجمة الكتاب "روز مخلوف" في نقله إلى العربية بكثير من التوفيق.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 47 - أغسطس 2020