الأربعاء 15 مايو 2024

"المفاتيح معلقة بأرجل النعوش" قصة مقاومتنا لأجداد كورونا

فن27-10-2020 | 20:49

كورونا يوقف عجلة الزمن :


فيروس ضئيل ضرب العالم شرقه وغربه، وغاص في رئات الأغنياء قبل الضعفاء، والسادة قبل العبيد، فإذا بالجبابرة يعجزون عن لقف أنفاسهم إلا بمعونة أجهزة وأنابيب، وإذا بالموت يتخطفهم بلا اعتراف بمراكزهم.


ويقف الزمن عاجزا بكل تقنياته وعلومه، لا يفلح في الحصول على ترياق ينقذ الرجال، الجميع يرفعون رءوسهم إلى السماء التي نسوها أو تناسوها، ويسرى اللغط واقتراح الأدوية الشعبية والأطعمة الشافية في كل وسائل التواصل والإعلام، وهكذا رجعنا إلى الوراء نلتمس النجاة بالماضي وتجاربه، وطفت على السطح ذكريات أجداد كورونا من الطاعون والكوليرا.


في كتابه " الأوبئة والتاريخ " يقول شلدون واتس: من أهم الطرق في دراسة الجائحات المعدية، تقارير الرحالة وكتبهم، وكذلك كتب المؤرخين والأعمال الأدبية، والمذكرات، وسجلات المستشفيات، كما أن الكتب الدينية تعتبر أيضا من المصادر المهمة في دراسة الأوبئة وطرق مقاومتها.


وبناء على هذا فسوف نتبع تلك الخطة الجيدة لنبحث عن تاريخ وجغرافية ومنطقية وأدبيات مقاومة الجائحات القديمة، قبل أن تولد ابنتهن الأخيرة .


تحت رحمة الحيرة:


تقول الباحثة ليلى السيد في كتابها" الأمراض والأوبئة وآثارها على المجتمع المصري"، إن مصر عانت كثيرا من خلال الحكم المملوكي و العثماني، فلم تنل أي اهتمام في شأن الصحة، ولم تلق العناية الكاملة من حكامها، فانتشرت الأمراض التي كان أبرزها الرمد والجدري والدوسنتاريا والاستسقاء، كما شهدت مصر الأوبئة الفتاكة التي حصدت أرواح الآلاف، بالإضافة إلى المجاعات ونقص النيل وسيطرة الخرافات والدجل على أذهان المواطنين، كما كانت شوارع القاهرة ومنازلها مستنقع الأمراض، فنظافة الشوارع كانت توكل إلى السكان دون أي اهتمام من الحكومة، مما ضاعف من انتشار الأوبئة، ويقول حلمي محروس إسماعيل في كتابه "حالة مصر الاجتماعية في القرن الثامن عشر ": لم يكن بمصر في هذا الوقت طب ولا أطباء، وعاش الناس تحت رحمة المنجمين والحلاقين، والخرافات، فالجدري كان مرضا قاتلا يؤدى غالبا إلى العمى، ومع ذلك لم يكن له علاج ناجع، واضطر المصابون به أن يخضعوا للوصفات الشعبية ومنها، إعطاء المريض بعض العسل والسكر لمدة ستة أيام، وفى اليوم السابع يأكل سمكا مملحا، ولا يغسل عينيه أبدا حتى لو امتلأتا قيحا.


أما الرمد الذي كان نتيجة هبوب الرياح، فقد أتلف عددا هائلا من الأعين، فاقتصر علاجه على الششم والتوتيا الزرقاء ولبن المراضع وبذور الكتان المختلطة بالعسل . 


ويتحدث الجبرتي في العصر المملوكي عن داء استفحل واستسلم له الناس دون أدنى مقاومة :" ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب، وفشا بين الناس حتى الأطفال، وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام، وقد يزيد على ذلك أو ينقص لاختلاف الأمزجة، وهو يحدث وجعا في الركب والمفاصل والأطراف، ويوقف حركة الأصابع ويترك بعض الورم، ويبقى أثره أكثر من شهر، ويأتي الإنسان على غفلة فيسخن البدن ويضربه على ركبه ودماغه، وهذا من الحوادث العجيبة".


 ومن طريف ما يرويه ابن الأثير في الكامل، أن الناس أصابهم وجع كثير في حلوقهم، في الموصل وما والاها من البلاد، مات منه كثيرون، فشاع أن امرأة من الجن يقال لها " أم عنقود" مات ابنها " عنقود"، وكل من لا يعمل له مأتمٌ أصابه هذا المرض، فأقيمت المآتم وصار الناس يقولون: يا أم عنقود أعذرينا، مات عنقود وما درينا.


    وقائع الموت الأسود :


يقول ابن إياس في يوميات جمادى الآخرة 833 هجرية" ومات من الأعيان ما لا يحصى عددهم من كبار وصغار مماليك وجوار وغرباء، وقد تزايد أمر الطاعون حتى انتهت عدة من يموت في كل يوم من الناس، إلى نحو أربعة وعشرين ألف إنسان".


تمضى الرواية فتخبرنا أن السلطان جمع القضاة الأربعة ومشايخ الإسلام، ولم يجمع الأطباء وأهل العلم الدنيوي، ماذا قال القضاة؟ قالوا : يا مولانا لا تهتم، فإن بمصر أربعة وعشرين ألف حكر، فلو مات كل يوم واحد من كل حكر ، ما تأثرت له مصر.


قال السلطان :  أنا أخرج بالناس إلى الصحراء، مثلما نفعل في صلاة الاستسقاء.


اعترض القضاة والعلماء وأظهروا الأعين الحمراء وقالوا:


- ما فعل هذا أحد  من السلف، وقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وجعله رحمة للمؤمنين، فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبا، يعلم أنه ما يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد.


ثم إن بعض القضاة قالوا للسلطان : ينبغي أن تمنع المظالم ويكثر الناس من الدعاء والاستغفار، وتبطل المكوس لعل الله يرفع هذا الوباء. بينما قال البعض الآخر: إنما يظهر الطاعون في قوم إذا فشا فيهم الزنا، وإن النساء كثر خروجهن إلى الطرقات.


مراحل العلاج العجيب :


ما زلنا نعيش مع ابن إياس في سفره الممتع " بدائع الزهور في وقائع الدهور"، ونتأمل كيف عالج حاكم مصر المملوكي ذلك الغول الرهيب.


نادى في القاهرة أن يتوب الناس من ذنوبهم، ويصوموا ثلاثة أيام متتالية.


فيما يخص خروج النساء، نادى لمنع خروجهن في حظر نوعى، وجعل العساكر يتبعونهن ويضربون من يجدوها، فوقف الحال وقل البيع والشراء، ومنعت المرأة من السير خلف جنازة زوجها أو ولدها، وكانت الغاسلة  تأخذ ورقة من المحتسب، تشبكها في عصابتها حتى يعلم أنها غاسلة وتترك.


ثم إن بعض الأعاجم ذكروا للسلطان أن في بلادهم حين يقع الطاعون، يجمعون من السادة الأشراف من اسمه محمد، أربعين شريفا، ولا بد أن يكونوا شرفاء من ناحية الأب والأم، فيدعون الله يوم الجمعة بعد العصر على سطح الجامع الأزهر.


تعليق المفاتيح :


تزايد المرض وكثر الموت، فكان إذا دخل الدار يفنيها من أهلها، فيعلق الجيران مفاتيح الدار في رجل النعش، إشارة إلى خراب البيت. وقيل في ذلك :


قد نقض الطاعون بيت الورى

                          وأهلك الوالد والوالدة

كم منزل كالشمع سكانه

                     أطفأهم في نفخة واحدة


ويصف بعض الرحالة  مراحل تطور الداء فيقولون "إن المريض يمر بثلاث مراحل يتغير فيها لون جسده، وهى الأحمر والأصفر والأزرق، فاللونان الأولان يشفى فيهما المريض، أما إذا وصل إلى اللون الأزرق فإنه يموت، فكان الناس يسألون أهل المريض :


 إيش لونه؟


واستمرت الكلمة حتى الآن تستخدم للسؤال عن الصحة.


وورد في كتاب " تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب : أتى الطاعون الجارف على أهل دار، فلم يشك أحد من الجيران في وجود أحياء، فبعد أن دفنوا الموتى اتفقوا على سد الباب، حتى لا يدخل لصوص أو طامعون، لم ينتبهوا لوجود طفل رضيع يحبو بداخل الدار، وبعد شهور ظهر بعض الورثة وقاموا بفتح الباب، ولشد ما كانت دهشتهم عندما شاهدوا الطفل يلعب مع جرو كلبة كانت لأهله الراحلين، حين زالت الصدمة أدركوا أنه لما رأى الجرو يرضع فعل مثله لما جاع، ومكنته الكلبة من لبنها.


وظلت مصر ترقد مستسلمة كالذبيحة، لم ينفعها قول العلماء ولا القضاة ولا الأعاجم، ولم يعد أحد يجد مقبرة لمواراة عزيز لديه، فاشترك الناس في المقبرة الواحدة، يوارون فيها رجالا أو نساء لم يتقابلوا في الدنيا، فجمعهم الطاعون في مكان واحد.


وينهى ابن إياس المأساة بقوله : بعدما شبع الوباء وارتوى وأفنى الخلق، ارتفع في ليلة واحدة كأنه لم يكن.

الكوليرا ورواية اليوم السادس لأندريه شديد 


وفد هذا الوباء لمصر عام 1831، وأدى لوفاة الكثير من المواطنين، حيث ضربت الكوليرا مصر عشر مرات في تاريخها الحديث.

وقدمت شديد رؤيتها لهذه الكوارث من خلال روايتها المتفردة 

" اليوم السادس"، التي نشرت عام 1960، ولا تزال تطبع حتى اليوم، كوثيقة عميقة ومؤثرة، رغم أنها اعتمدت الأسلوب الأدبي والخيالات البعيدة عن الواقع.


تبدأ الرواية برغبة صبيحة جدة الطفل حسن الذي يعتبر بطلا حقيقيا في الرواية، في زيارة قريتها بالصعيد، لكن ابن أختها صالح يطلب منها أن تتخلى عن ما عزمت عليه، بسبب تفشى الكوليرا في قريتها وموت أعزاء تعرفهم، أقربهم أختها:


"أنت في القاهرة آمنة مطمئنة، فلماذا تذهبين هناك؟.. إن الكوليرا في الأرياف قد صالت وجالت.. وإن ما ستشاهدينه لن يكون مثار بهجة بالنسبة لك".


تصمم الجدة على الذهاب وتلحق بجنازة أختها، وتلقى نظرات ولهى على مشاهد العدم ورائحة الفناء، لكنها تتماسك وتحاول التحلي بالأمل، يصاب حفيدها حسن بالمرض ويسقط أمام عينيها، تحاول علاجه متيقنة مما يشاع بأن مريض الكوليرا إذا مر عليه ستة أيام ووفرت له سبل الرعاية فسوف يشفى.


لكن حسن يموت وكذلك مدرسه الذي كان مثله الأعلى، ومع ذلك تعتقد أنه حي وموجود في كل مكان، ويقول لها أحد رفاق المركب الذي تستقله : 


"أنت على حق يا أم حسن، فطفلك حي".


إنه أمل الإنسان في أحلك الظروف، وإنه الأدب الخالد الذي يجسد محنة البشر وقدرتهم على الصمود.


عود على بدء :

والآن نعود إلى لحظتنا الراهنة، فنجد تشابها لا بأس به، بين ما جرى عبر التاريخ، وبين ما يجرى اليوم في مواجهة كورونا،هل تغيرنا كثيرا ؟


لا أعتقد، بل إن مقولة لا جديد تحت الشمس، تثبت صحتها خاصة فيما نفعله ونقوله.


فرغم العلم والتكنولوجيا، لا يزال الكثيرون يتفننون في قهر الوباء بأشرطة مصورة لأدعية واستغاثات، والقليل ممن يقدرون المسئولية، يقترحون أطعمة وأشربة وأعشابا ما أنزل الله بها من سلطان، والدول العظمى تصرخ بالشكوى، لكنها تهمس بالتوصل إلى علاج، لا يعرف أحد هل تتكتم، ثم تخرج علينا ذات صباح أو مساء بعقار باهظ الثمن، يعوضها عن الكساد والتوقف؟


ساعتها لن يناله إلا الأغنياء، وسيظل الفقراء ردحا طويلا من الزمن يتداوون بالاعتذار إلى الجنية أم عنقود.


    Dr.Radwa
    Egypt Air