الملاحظ أن موضوع تجديد الخطاب الديني له تاريخ طويل من التناول يمتد لقرون عديدة، فكل دعاوى التجديد الحالية ليست حديثة كما يتبادر إلى أذهان الكثيرين. فالصحابة أنفسهم جددوا في فكرهم الديني، وكذلك فعل التابعون وتابعو التابعين لإدراكهم الواعي وفهمهم العميق بمقاصد الشريعة والغرض من التشريعات التي ترسخ علاقة الإنسان بالخالق -سبحانه وتعالى- من ناحية، وتنظم علاقة الأفراد ببعضهم البعض داخل المجتمع، طبقا لمقتضيات العصر الذي يعيشون فيه من ناحية أخرى. لذلك نجد أن كل فترة زمنية تحدث صحوة من قبل بعض المفكرين، وعلماء العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلماء العلوم الشرعية تطالب بضرورة تجديد الخطاب الديني، يتناول فيها كل منهم الموضوع من زاوية معينة من خلال جهود فردية لم تثمر عن شيء في الغالب، بل وربما تولد شعورا لدى هؤلاء العلماء والمفكرين أن الأمور لا تتعدى حدود المطالبة بالتجديد وتبرير أهميته. فكثير من الندوات والمؤتمرات التي أجريت، واستغرقت ساعات طويلة من النقاشات، ونتج عنها العديد من التوصيات الوجيهة والعملية لم تتمخض عنها نتائج ملموسة على أرض الواقع يدركها المجتمع ويشعر بها، ويعي أهميتها.
هذا مع مراعاة التيار المناهض لكل هذه المحاولات والذي يسعى دوما لإجهاضها في مهدها بشتى السبل الممكنة حتى لا تخرج لحيز النور، والذي يؤكد أن مطالبات التجديد ليست أكثر من قضايا جدلية بعيدة كل البعد عن الواقع المعيش، ولن تعود على المجتمع بالنفع لأنها ليست من أولوياته. فهو يستخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة لتحقيق هدفه.
وقد جاء المؤتمر العالمي الذي نظمه الأزهر الشريف في نهاية شهر يناير الماضي بعنوان "التجديد في الفكر الإسلامي" ليعيد الاهتمام بموضوع التجديد، ويلقي الضوء على أهميته. وكانت الجلسة التي عنيت بدور المؤسسات التعليمية هي الأكثر إثارة للجدل بين كل جلسات المؤتمر، والتي قدم فيها الدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة وأستاذ فلسفة الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة رؤيته التنويرية، ودعا فيها إلى الدخول لعصر ديني جديد وتأسيس خطاب ديني جديد، وتغيير طرق التفكير التقليدية والخرافية إلى طرق التفكير الإبداعية والنقدية، وقد ترتب على عرض رؤيته، وحدوث مناظرة بينه وبين الدكتور الطيب شيخ الأزهر فيما قاله ورده عليه، جدلا واسعا في مختلف الأوساط العلمية والإعلامية وفي مواقع التواصل الاجتماعي ما بين مؤيد ومعارض، ومتقبل ورافض، مدرك لأهمية التجديد وقيمته، وغير واع به.
وبصرف النظر عما جرى في المؤتمر، فإنني أرى أن الدكتور الخشت قدم رؤية متكاملة للتجديد المأمول والدخول إلى عصر ديني جديد، ربما لم يستوعبها الكثيرون ممن حضروا المؤتمر أو تابعوا أحداثه لاحقا. فالخشت صاحب مدرسة فكرية تتبنى العقلانية النقدية منهجا للتفكيروالبحث، وأسس في الوقت نفسه رؤية جديدة للعالم والحياة والمستقبل على أسس عقلانية وروحية معا. ويرى أن المشكلة ليست فى الإسلام، بل فى عقول المسلمين وحالة الجمود الفقهى والفكرى التى يعيشون فيها منذ أكثر من سبعة قرون. لقد اختلط المقدس والبشرى فى التراث الإسلامى، واضطربت المرجعيات وأساليب الاستدلال؛ ولذلك من غير الممكن تأسيس عصر دينى جديد دون تفكيك العقل الدينى وتحليله للتمييز بين المقدس والبشرى فى الإسلام، فهذه مقدمة من بين مقدمات عديدة من أجل تكوين خطاب دينى جديد يتراجع فيه لاهوت العصور الوسطى الذى كان يحتكر فيه المتعصبون الحقيقة الواحدة والنهائية.
ويرى الخشت أن الدخول إلى عصر دينى جديد يقتضى مجموعة من المهام العاجلة، مثل: تفكيك الخطاب الدينى، وتفكيك العقل المغلق، ونقد العقل العقلى، وفك جمود الفكر الإنسانى الدينى المتصلب والمتقنع بأقنعة دينية؛ حتى يمكن كشفه أمام نفسه وأمام العالم. وليس هذا التفكيك للدين نفسه وإنما للبنية العقلية المغلقة والفكر الإنسانى الدينى الذى نشأ حول "الدين الإلهى الخالص وعملية التفكيك".
يجب أن نمر بمجموعة من المراحل، تبدأ الأولى: بالشك المنهجى، وتليها المرحلة الثانية والتي يتم فيها التمييز بين المقدس والبشرى فى الإسلام. أما المرحلة الثالثة، فتتمثل في إزاحة كل "المرجعيات الوهمية" التى تكونت فى "قاع التراث". وبعد التفكيك يأتى التأسيس، وأهم أركانه: تغيير طرق تفكير المسلمين، وتعليم جديد منتج لعقول مفتوحة، وأسلوب حياة وطريقة عمل جديدة، وتغيير رؤية العالم، تجديد المسلمين، وتأسيس مرجعيات جديدة، والعودة إلى الإسلام الحر "الإسلام المنسى"، وأخيرا نظام حكم يستوعب سنن التاريخ.
ولن يتحقق كل هذا دون توظيف مجموعة من الآليات لتحقيق حلول قصيرة ومتوسطة المدى تشمل التعليم، والإعلام، والثقافة، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة؛ وذلك لـصناعة عقول مفتوحة على الإنسانية فى ضوء العودة إلى المنابع الصافية: القرآن والسنة الصحيحة، وتغيير المرجعيات التقليدية، وتأسيس فقه جديد، وتفسير جديد، وعلم حديث جديد، وإزاحة كل "المرجعيات الوهمية" التى تكونت فى "قاع تراثٍ" صُنع لغير عصرنا. ومن دون هذا لن نستطيع صناعة تاريخ جديد نخرج فيه من هذه الدائرة المقيتة لكهنوت صنعه بشر بعد اكتمال الدين، وتلقفه مقلدون أصحاب عقول مغلقة ونفوس ضيقة لا تستوعب رحابة العالم ولا رحابة الدين.
والرسالة المهمة التي نخرج بها مما قدمه الدكتور الخشت في محاضرته في المؤتمر، أو كثير من أطروحاته السابقة وثيقة الصلة، هي لفت الانتباه بشدة إلى أن الدعوة لتجديد الخطاب الديني أصبحت مطلبا مجتمعيا، وليست رفاهية، ولا موضوعا للخلاف والجدال الذي لا يحقق شيئا أكثر من الشقاق غير المبرر بين أبناء الوطن، في ظل الهجمة الشرسة للتطرف والإرهاب التي تهدف للنيل من أمن واستقرار وطننا الغالي، يدفع ضريبته خيرة شبابنا من أبطال الجيش والشرطة، الذين يضحون بدمائهم الزكية من أجل أن يبقى الوطن مرفوع الهامات. فمنذ فترة ليست بالقصيرة طالب الرئيس عبدالفتاح السيسي الجهات المعنية ومنها الأزهر الشريف بمحاولة تجديد الخطاب ولم تحدث الاستجابة المأمولة، وتم تشكيل المجلس الأعلى للإرهاب للنهوض بمثل هذا الدور، إضافة إلى العديد من الدعوات من أصحاب الفكر المستنير لتحقيق هذا الهدف المأمول من باحثي وعلماء العلوم الشرعية والاجتماعية والإنسانية، والتي لم تسفر هي الأخرى عن تحقيق شيء. هذا رغم الحاجة المجتمعية الشديدة لتجديد الخطاب الديني، ليس لمواجهة مشكلة التطرف والإرهاب فقط كأهم مشكلات وطننا، ولكن لمواجهة العديد من المشكلات الأخرى وثيقة الصلة مثل مشكلات الأسرة والزواج والطلاق والمخدرات وغيرها.
فقد كان هذا الوقت هو الأفضل لتحريك المياه الراكدة من خلال الدعوة الرصينة التي قدمها الدكتور الخشت لتأسيس عصر ديني جديد، والإشارة إلى أن التجديد لا يأتي غالبا من داخل المؤسسات التقليدية. وقد أدى ذلك لحدوث صحوة حقيقية مازالت آثارها مستمرة وممتدة، وسيتواصل اتساع نطاقها بمرور الوقت، وسيتسع نطاق التجاوب معها من أهل الفكر المستنير من أجل الصالح العام، والخروج من الدوائر الضيقة والمنغلقة في التفكير إلى سياق أرحب من النظر لهذا الموضوع وحسن معالجته، وتناوله بمنظور متكامل، لا اجتزاء ما يريده البعض، إما لعرقلته بشكل مباشر من خلال الرفض غير المبرر الذي لا يستند لأي أسس عقلانية، وإما للتسويف والإساءة لأصحاب الفكر المستنير وتشويه صورتهم لإرهابهم للتوقف عن دعواتهم الإصلاحية، ومحاولاتهم التجديدية. وقد كان الدكتور الخشت واعيا بمترتبات طرحه لأفكاره، وإنه يعوم ضد التيار، وإنه سيتعرض للكثير من المقاومة لصعوبة تقبل الآخرين التغيير والتجاوب مع مقتضياته، لكن إيمان الرجل برسالته التي يسعى لتحقيقها منذ سنوات عديدة لن يثنيه عن مواصلة جهوده البناءة في الانتقال لعصر ديني جديد وتجديد الخطاب الديني.
والخطوة الأولى لتحقيق هذا المطلب المجتمعي لتجديد الخطاب الديني تتطلب مراعاة عدة جوانب مهمة: منها اثنان سلبيان يجب التخلص منهما، واثنان إيجابيان يجب تعزيزهما وترسيخهما. ففيما يتعلق بالجانبين السلبيين تبرز أولا محاولة التخلص من الاتجاهات التعصبية بمظاهرها العديدة لدى علماء الدين لفكرهم وآرائهم. والتي تنطوي على الأحكام المسبقة والمتسرعة التي لا أساس لها من الصحة، وتحدث بدون وجود الدلائل الموضوعية على صحتها. والتحيز ضد الآخر، وما يرتبط به من مشاعر سلبية تظهر في عدم تقبله، ورفض كل ما يقول. والتوجه السلوكي العدائي، وتصنيف أصحاب الآراء المخالفة لهم: من ليس معنا فهو ضدنا. ومن لا يناصرنا فهو عدونا. فبمجرد أن يقول الشخص رأيه يتم تصنيفه فورا في فئتين لا ثالثة لهما، فهو إما متدين محافظ متمسك بدينه، وإما علماني ليبرالي متحرر يريد هدم الدين والإساءة له.
ويتمثل الجانب الثاني في التخلص من الأفكار والمعتقدات والموروثات القديمة والبالية، والتي تتمثل في أن محاولات التجديد إساءة للدين الإسلامي وقيمه الرصينة، وأن أصحابها خارجون عن الملة، وأنهم يتبنون رسالة الغرب في تهميش الإسلام وتبني القيم الغربية المنحرفة، وأنهم يتبنون العلمانية والليبرالية منهجا لهم، وأنهم ينفذون أجندة الدولة في تهميش الإسلام في حياتنا، وأن كل ما يقدمونه يتنافى مع ثوابت الدين الراسخة، وأن تراثنا مستقر فلماذا العبث به والتقليل من شأنه، ومحاولة تغريبه، وأن دعاوى تجديد الخطاب الديني بدعة، ومن ثم عدم القدرة على التمييز بين توجهات الملحدين ومنحرفي الفكر والعقيدة ودعاوى التجديد، وهو الاتجاه السائد لدى الكثيرين الذين لا يفهمون منطق التجديد ولا يعون أهدافه، بل ولا حتى معناه.
ويحتاج هذا الأمر إلى برنامج منظم يشمله الخطاب الديني لتغيير هذه الاتجاهات التعصبية وكل ما يرتبط بها من معتقدات وأفكار جامدة تعوق التلقي الفعال لرسالة التجديد، وتقتنع بجدواه، وتتقبل أهدافه الإيجابية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين بأية صورة من الصور. ويأتي بعد ذلك ترسيخ الجانبين الإيجابيين اللذين تربطهما علاقة وثيقة ببعضهما البعض، وهما حسن التعامل مع الآخر وآداب الحوار، وحسن إدارة الخلاف. وقد رسخ الإسلام آداب الحوار وإدارة الخلاف بين مختلف الأطراف في ضوء مجموعة من القيم الرصينة التي ينبغي مراعاتها، وأهمها حسن الاستماع للطرف الآخر وعدم مقاطعته، حتى ينتهي من عرض وجهة نظره بصرف النظر عن تقبلها من عدمه، وعدم رفع الصوت في مقابل المتحدث، وعدم التشبث بالرأي، واحترام الرأي المخالف وعدم تسفيهه والتقليل من قيمته، وحسن الظن بالطرف الآخر، والأدب مع المخالف، وعدم الإنكار عليه رأيه، وعدم معاتبته عليه أو نهيه عن العمل بهذا الرأي بما يبرز المشاعر العدائية التي تثير الوجدان، وعدم الإيحاء لمتابعي الحوار أن هناك خصومة مع طرف الحوار حتى لا تتكون صورة بأن هذا الطرف عدو ولا بد من النيل منه حتى يحدث الانتصار الذي يسعد الأنصار، ويقلل من قيمة الآخر ومكانته.
والخلاصة أن ما قدمه الدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه "نحو تأسيس عصر ديني جديد" يمثل رؤية شاملة، وبرنامجا متكاملا لما نأمل القيام به. وأعتقد أن تبنيه ووضع استرايجية العمل الخاصة بتجديد الخطاب الديني ستوفر جهودا كبيرة لأن هذا البرنامج يشمل الجانبين النظري والتطبيقي، بخطوات ومراحل محددة، ومفاهيم إجرائية تتميز بالوضوح، وخالية من التداخل والغموض الذي يكتنف بعض المحاولات الأخرى، وبه الآليات العملية محددة الخطوات التي تساعد على حسن تطبيقها بسهولة ويسر، وباتساق بين الجميع الذين يطبقونها.