تبدأ أحداث مسلسل أرابيسك بعد هجوم جيوش الأتراك العثمانلية فى الأناضول على الأراضى المصرية، واحتلالها سنة ١٥١٧م بزعامة سليم شاه (سليم الأول)، بعد هزيمة السلطان قنصوة الغورى في معركة مرج دابق، وإعدام طومان باى علي باب زويلة، واختطاف الفنانين والصنايعية المصريين، لترصد تلك البداية قصة اغتصاب المفردات الثقافية المصرية، ومحاولات تشويه هويتها منذ ذلك التاريخ.
حمل مسلسل "أرابيسك" الذي أنتجه التلفزيون المصري عام 1994 مجموعة من القيم الفنية والفكرية لا يمكن تجاوزها، والتي صنعت أثرًا كواحد من أهم كلاسيكيات الدراما المصرية التي كتبها أسامة أنور عكاشة، وأخرجها جمال عبد الحميد في أول تجربة إخراجية له في الدراما التليفزيونية، والتي تطرقت لتأثير الغزو التركي على الهوية والثقافة المصريتين.
البداية تتشكل مع زلزال الغزو العثماني والاستيلاء علي البلاد وتخريبها وإطفاء شعلتها ومحو الشخصية المصرية، والنهاية بزلزال مصر 1992 الذي أطاح بفيلا الدكتور برهان التي شكلت رمزًا لمحاولة التعرف وتحديد ملامح الهوية المصرية وإعادة بناءها بالرجوع إلي حقيقتها وفلسفة تكوينها، إذ يروي المسلسل قصة فنان الأرابيسك المصري "حسن" الذي تعرض لبعض الأحداث أفقدته توازنه فأهمل عمله وورشته وأدمن صحبة رفاق السوء والمخدرات، إلا أنه في نفس الوقت كان أمينا على إرثه الثقافي والفني الذي ورث مهارته من أجداده، وفي ظل الإحباط والتشظي جاءت له فرصة عمره بتصميم تحف وزخارف معمارية في فيلا دكتور في الطاقة النووية، كان يعمل في أمريكا، وعاد ليستقر في مصر.
شارك الفنان صلاح السعدني بطولة المسلسل هدى سلطان، أبو بكر عزت، كرم مطاوع، هشام سليم، هالة صدقي، حسن حسني وسهير المرشدي، وكان بداية المشوار الفني لوجوه جديدة مثل جيهان فاضل، محمد رياض، ومحمد شرف، صنعت كلمات الشاعر سيد حجاب وألحان وموسيقى عمار الشريعي شخصية فريدة وأصيلة للمسلسل، كما وجد التيتر بصوت حسن فؤاد مكانًا متميزًا وسط الأعمال الخالدة.
الغزو التركي
يرصد الكاتب أسامة أنور عكاشة من خلال دراما المسلسل بدء اختفاء الفنان الصنايعي المصري، فعلى لسان حسن أرابيسك (صلاح السعدني) تروى بدايات الاستلاب: "لما دخل السلطان سليم الأول مصر، لمّ أحسن العمال والصنايعية في كل طوايف المعمار وسفرهم على تركيا علشان يبنوا له جوامع وخانات وحمامات، علشان يخلوا إسطنبول أحلى من مصر المحروسة، أو على الأقل زيها، وكان جدي عبد الرحمن النعماني من الناس اللي راحوا هناك ، بس راح مارجعش!.".
ويربط الكاتب ما بين تشويه الهوية المصرية والغزو العثماني لمصر، والذي يراه أعنف وأسوأ أنواع الغزاة الذين مروا على البلاد، واغتصبوا مفرداتها الثقافية بغرض إضعافها، واقتباس ملامح حضارتها الفريدة التي لا تخفي علي إنسان، فالفنان المصري عند عكاشة هو من صنع كرسي السلطان العثماني الذي أدخل بدوره الصنعة والفن المصري في متاهات، نشاهد نتائجها في ملامح شخصية الحارة والفنان المصري.
يؤكد عكاشة كلام (حسن أرابيسك – صلاح السعدني) على لسان (وفائي - حسن حسني) قائلا: "مظبوط يا حسن، ودي أكبر جريمة ارتكبها السلطان سليم والسلاطين اللي بعده، جردوا مصر من كل فنانينها اللي عملوا التحف العظيمة في عصر المماليك، وشحنوهم على تركيا، كانوا زي سرب الجراد اللي بيحط على أرض خضرا يمسحها ومايسيبش فيها عود أخضر، وده الفرق بين المماليك والتراكوة، المماليك استقروا في مصر، واعتبروها بلدهم، وابتدوا يبنوا ويشجعوا الفنانين والصنايعية، والحقيقة كانوا بيسابقوا بعض وكل واحد فيهم عاوز يعمل حاجة جميلة باسمه، عشان كدا سابوا لنا كنز في العمارة وفنون النقش والزخرفة لغاية النهاردة مالية مصر."
ملامح الفنان المصري عند عكاشة
جسد الفنان الموهوب صلاح السعدني شخصية "حسن أرابيسك" بوعى وواقعية وحضور لاينسى، بالرغم أن الدور فى البداية كان مكتوب للفنان عادل إمام، الذي طلب إجراء تعديلات على الشخصية رفضها أسامة أنور عكاشة، فاعتذر الزعيم عن العمل، نجح السعدني في ترجمة ملامح فنان الأرابيسك المصري في الواقع الحديث الذي يسيطر عليه الاحباط والكسل، يتعاطى المخدرات ويتهرب من مسئولياته، يرفض مواجهة الواقع ولا يملك الكثير من أدواته، إلا أنه لا يزال إنسان مصري أصيل، يحمل صفات الشهامة والمحبة، كما أنه شديد الحساسية تجاه إرثه الثقافي والفني الذي توارثه، ربما تصل به البلادة إلى مراحل متطورة، لكنه على مدار الأحداث يتخذ مسارًا أكثر جدية وينتهز فرصة أخرى من الزمن لإثبات وجوده، تنتهي الأحداث بزلزال مصر ١٩٩٢ الذي يتسبب في هدم حلم حياته بصناعة تحفة فنية مصرية خالدة، لكن ربما تكون هذه النتيجة الحتمية لفروع لن تصل للسماء لأن أصلها مشوه غير ثابت، ملامح الحارة المصرية عند عكاشة واضحة لكنها مشوهة، تعبر عن أطماع وتدخلات غزاة متعددين، كان الغازي فيما مضى واحدا، الآن صارت الحارة ملعبا للكثيرين، كما صارت الشخصية المصرية نفسها حاضنة لكثير من الغرابة والشر، صفات حسن أرابيسك السلبية ربما يتشارك فيها كثير من الفنانين والموهوبين المصريين عند عكاشة، والنتيجة انتشار كل ما هو رخيص غير أصيل.
والأرابيسك فن إسلامي عربي أصيل في العمارة الإسلامية، يعود تاريخه لأكثر من ألف عام، وقد ظهر فنانو الأرابيسك العرب في مصر والشام، وانتشر في أوروبا بين القرنين ال15 وال16 الميلاديين، وأخذه الفرس والأندلسيين عن العرب المسلمين، ويعتمد على الزخارف بالأشكال الهندسية التجريدية لنباتات وزهور وثمار وغيرها والتي توحي بالاستمرارية والخلود، وقد صمم فنانو الأرابيسك تراثًا عريضًا من التحف الفنية في كثير من القصور والمساجد والأعمدة والمشربيات والنوافذ والأبواب والأثاث.
الشر شرَّق وغرَّب
"الشر شرَّق وغرَّب داخل لحوشنا، حوشوا لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا، حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا، وتغشنا المرايات تشوش وشوشنا، وتهيل تراب ع الهالة والهيلمان"، في كلمات سيد حجاب التي توافق الحقيقة التاريخية بتعدد غزاة مصر، شرقا وغربا، صعوبة تصور انتهاء تلك الشرور التي صارت أكثر شراسة ومكر، صارت الحارة المصرية الحديثة في المسلسل أكثر تعقيدا، بين التآمر لاغتيال عالم مصري قرر الاستقرار في بلده، وبين محاولات أخري لصباغة الشخصية المصرية بألوان قاتمة من التطرف أو الانهيار الأخلاقي، وثالثة لسيطرة الرأسمالية العالمية علي الذوق والسوق المصري، بإغراقه بكل ماهو أجنبي رخيص غير أصيل، وغيرها من المحاولات الجديدة القديمة للفتك بالشخصية المصرية التي وجه لها حجاب عدة خطابات في أشعار المسلسل منها "دنياك سكك، حافظ علي مسلكك، وامسك في نفسك لا العلل تمسكك، وتقع ف خية تملكك، أهلك يا تهلك دا انت بالناس تكون".
ملامح الحارة المصرية المعاصرة
صنع عكاشة شبكة اجتماعية بمجموعة كبيرة ومتنوعة من النماذج المصرية التي تسكن قاهرة المعز، عائلة أرابيسك والجيران وشبكة المعارف وصولا إلى أجهزة ومؤسسات الدولة، حتى التطرق إلى خارج مصر بين رؤية المصريين للعالم، وعلاقاتهم بالأجانب، ورؤية العالم لهم، إذا تأملنا الشخصيات مع فلسفة الديكور وملاحظة العلاقة بينهم، التأثير الكبير للمناظر وخلفيات المشاهد على العناصر الفنية كافة، تشكيل شخصية العمل الفريدة، وتأكيد فكرة المقارنة المستمرة بين الشخصيات. أماكن الشخصيات نفسها تعبر بشكل كبير عن خلفياتهم الثقافية والإجتماعية.
منزل أسرة حسن من الحجارة القديمة والأثاث على الطراز المصري -بشكل أساسي مصنوع من الأرابيسك- خلفية حسن في الورشة المبنية من الحجارة على حائطها بالخط العربي آية الكرسي وصورة تكريمه في الجيش، و تنتشر بشكل أساسي قطع الديكور في عالم كل شخصية للتمييز والمقارنة، منزل ومحل أقمشة عمه، منزل صهره السابق الممزوج برائحة ولون الخليج، ومنزل وورشة (رمضان الخضري – المنتصر بالله) وأثر الحداثة والذوق الأجنبي على صناعة الأثاث، عالم المحروسة الفاطمية نفسه في الحارة وأنماط شخصياتها التي لا تنسى بين (عدولة – سهير المرشدي) وعلاقتها بالأسطى (عمارة – أبو بكرعزت) وأخواتها البنات، المحامي البسيط (مصطفى بطاطا – محمد متولى)، العجلاتي الفنان (حسن الأسمر)، صحبة القهوة، وسامبو المنحرف (محمد شرف)، تجار السوق (عتوقة – عادل أمين) و(توحيدة – هالة صدقي) ونظره على تجارة الآثار، شباب الحارة بين مكافحين وطموحين وصنايعية إلى جانب ظواهر دخيلة صنعت من بعضهم متطرفين أو منحرفين، والانتقال خارج الحارة ينقلنا إلى عوالم أخرى مثل عالم عائلة (الدكتور برهان – كرم مطاوع) وشبكته الكبيرة التي تمتد إلى الجانب المظلم من الغرب، وعالم مهندس الديكور الموهوب (شريف ظاظا – شوقي شامخ) وتكامل دائرة الفن الأصيل عنده، حيث يلعب كمركز ووسيط مثالي للفنانين الحقيقيين وأعمالهم الفنية الأصيلة.
كما أفسح أسامة أنور عكاشة لنفسه مكانًا وسط شخصيات المسلسل بملاحظة خطاب شخصية الفنان المثقف وفائي، التي كانت صوت عكاشة أو صوت الراوي، كما كان يفعل نجيب محفوظ في كثير من أعماله، من المشاهد الأساسية التي لا تنسى حوار (وفائي – حسن حسني) مع الدكتور (برهان – كرم مطاوع) عن الهوية المصرية وتكوينها وفكرة محاكمة الوطن، يلوم (وفائي - حسن حسني) على (الدكتور برهان - كرم مطاوع) كثرة شكواه وتذمره من أحوال البلاد، ويشرح فلسفته فيمن يقدر وطنه حسب مقارنته بالبلاد الأخرى، لا بحسب المسؤولية والدعم أو التعاطف على الأقل.
كانت فلسفة (وفائي – حسني – عكاشة) في ملامح الهوية المصرية؛ أنها لم تتماهى مع هويات الغزاة -وما أكثرهم- بل تشربت من الغازي مايتماشي مع مكونها الأصيل الذي يمتد لآلاف السنين، والذي -في الغالب- شكلت مصر جزء كبير منه وصدرته إلي كثير من الأمم، فاستعادت ما لها ولفظت ما يتنافى معها، تؤثر على الغازي قبل أن يؤثر فيها، ربما أصابها كثير من أمراض العولمة والحداثة وتعدد أقنعة الاستعمار الثقافي، ربما تشوه المشهد الإجتماعي في ظل توحش وإعلاء قيم الرأسمالية العالمية، لكنها لاتزال سبيكة فريدة، شديدة التناغم، تكوينها أصلي وأصيل، ولا يوجد لها مثيل.