الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

الاحتلال العثماني والتدليس الاصطلاحي

  • 1-11-2020 | 20:31

طباعة

من الأمور المقيتة لدى من يدعون التأريخ من الإسلاميين ما أسميه بـ "التدليس الاصطلاحي"، ومنه اعتبارهم "الاحتلال" العثماني لمصر "فتحًا" عثمانيًا. وهذا الرأي منهم فساد في الدين والدنيا معا. بداية لأن هذا التخليط الاصطلاحي الذي يمارسونه قصدًا يدنس معنى كلمة "الفتح" في بعدها الديني. حيث أن للكلمة معنى محددًا ولا يكاد ينطبق إلا على ما حدث في القرن الهجري الأول. وأما غير ذلك فالأفضل أن نسميه ودون تردد "احتلالا." 

والمعني الحقيقي لكلمة "فتح" كما أفهمه هو ما ذكره أبو بكر الصديق عندما قال لجيش أسامة: "قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا، ولا تغِلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلا لمأكلةٍ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئاً بعد شىء فاذكروا اسم الله عليها.." (تاريخ الطبري 3/113). 

فأي أخذ لأي بلد يحدث فيه خلاف هذا فليس بفتح وإنما احتلال. فالتحريق وقتل الأطفال والنساء والشيوخ ليس من الإسلام في شيء، وتهديد الأديرة والكنائس ومن فيها ليس من الإسلام في شيء، والأنفة من أكل المسيحيين واليهود ليس من الإسلام في شيء، لا في حرب ولا في سلم، والنهب حتى لو قلّ ليس من الإسلام في شيء. 

ومما يدلسون به أيضًا قولهم أن مصر إن لم يحتلها العثمانيون كان من الممكن أن تقع في يد الإسبان أو البرتغالين. فهذا تدليس آخر فمن ناحية يبدو وكأنهم يريدون منا أن نشكر الاحتلال العثماني على احتلاله لبلدنا لأنه أنقذها من احتلال آخر. وهو الأمر الذي لم يكن ليكون حقيقيًا أبدًا. وأقل ما يقال فيه أنه جهل بالسياسة العالمية آنذاك. فنحن نعرف تاريخيا أن التنافس بين الإسبان والبرتغاليين على استعمار العالم الجديد كاد أن يتحول لصراع مسلح بينهما. وهنا تدخلت البابوية بقوة لمنع الصراع بينهما. وانتهى ذلك بإبرام "معاهدة تورديسيلاس" سنة 1493م. ويقال أن البابا إسكندر السادس أمسك بالخريطة ورسم عليها خطاً رأسياً يحدد به نفوذ كل من الدولتين الكاثوليكيتين. وكان الخط يمر تقريباً في وسط البرازيل الحالية. وقد أعطت المعاهدة للبرتغال كل من البرازيل والقارة الإفريقية وجنوب غرب آسيا حتى الهند، وتركت البقية لإسبانيا. وبالتالي لم يكن لإسبانيا أي دور في البحار العربية والهندية، ومن ثّم لم تشكل أي خطر على مصر المملوكية، التي كانت تقع في منطقة النفوذ المزعومة للبرتغال. 

وبعد معاهدة تورديسيلاس بدأ البرتغاليون يستكشفون منطقة نفوذهم! فكان ما نسميه الآن بعصر الاكتشافات الجغرافية، عصر ماجلان وأمريكو فوسبوتشي وفاسكو دي جاما الذي قام سنة 1498م – ربما بمساعدة عربية - بالدوران حول رأس الرجاء الصالح والوصول إلى مدينة "كالكوتا" في الهند الحقيقية مما شكل تحولاً في الاقتصاد العالمي كما نعرف. 

وعندما تقرأ الكتب التي دارت حول إمبراطورية البرتغال التجارية تجد أن البرتغاليين لم يقوموا باحتلال أي دولة، ولكن فقط قواعد عسكرية محصنة يمكن الدفاع عنها بقوة قليلة نسبيًا عند نقاط تلاقي المواصلات التجارية المهمة. وكانت هذه القواعد توجد في الغالب فى شبه الجزر والجزر القريبة من الشواطئ. وقد امتنعت مثل هذه الحاميات عن التغلغل في داخل البلاد التي وجدت في أطرافها. 

وكما يقول المؤرخ أولفيرا ماركيز في كتابه "تاريخ البرتغال" (ص151): أن البرتغاليين كانوا واعين بأنهم ليسوا في حالة تمكنهم من استعمار مناطق واسعة وتحمل التكاليف العالية للسيطرة عليها. وفي مقابل ذلك كانوا يهدفون إلى السيطرة على البحار سيطرة اقتصادية مؤثرة، من خلال قواعدهم العسكرية تلك، وربط هذا كله بالسلطة السياسية البرتغالية في شكل منطقة نفوذ لها. وانطلاقًا من هذه القواعد المحصنة ومن السيطرة على طرق التجارة وأسواقها الكبرى يعقد البرتغاليون صلاتهم مع الحكام المحليين قرب قواعدهم العسكرية، ويبذلون جهدهم كي يكسبوا تأييد هؤلاء الحكام للنشاطات التجارية البرتغالية. 

ووجدت في كتاب "إمبراطوريات" لهرفريد مونكلر (ص 82) أن هذه الخطة البرتغالية وضعت في بداية القرن السادس عشر على يد فرانسيسكو دي الميدا (نائب الملك البرتغالي) الذي رأى أن نظام القواعد العسكرية هو الشكل المناسب للبرتغال الصغيرة ذات القوة والإمكانيات المحدودة. وقد نص في خطته تلك على ضرورة التمركز العسكري المستمر لمجموعة من سفن الأسطول البرتغالي في المحيط الهندي لتخدم بوصفها "قوة تدخل سريع" بين القواعد والنقاط الاستراتيجية التي تخضع للبرتغال. وبهذه الطريقة كان يمكن للقوة البرتغالية المتوفرة أن تركز سريعًا على التعامل مع أي تهديد. 

وبسبب هذه الإمكانيات المحدودة لم يكن يعيش على طول الشاطئ الإفريقي في منتصف القرن السادس عشر أكثر من ثلاث مئات من البرتغاليين وأعوانهم من الأوروبيين. وكانت إقامتهم في المحيط الهندي فقط لأجل تقوية نقاط تمركزهم والحفاظ عليها. فالبرتغال كانت إذن أضعف من أن تتدخل في مناطق إفريقية لا دول فيها، فما بالك بالتدخل في إمبراطورية ضخمة مثل دولة المماليك التي كانت تحكم مصر والشام والحجاز وتسيطر على البحر الأحمر. 

ومن الحوادث التي تدل على مدى ضعف البرتغال آنذاك في مواجهة مصر المملوكية أن البرتغال أرادت في سنة 1505م أن توجه ضربة لنفوذ مصر الذي يمنعها من التمركز في البحر الأحمر فأرسلت قبطانًا يسمى ألفونسو ألبوكرك إلى الحبشة ليتفق مع ملكها على تحويل مياه النيل حتى لا تصل إلى مصر. ولكن عندما دخل ألبوكرك بسفنه إلى البحر الأحمر علم بوجود الأسطول المصري قرب الحبشة فانسحب القبطان البرتغالي خوفاً، ولكن الأسطول المصري فطن إليه فطارده من البحر الأحمر إلى "سواكن" ثم إلى "عدن" ثم ظل يطارده حتى لحق به بالقرب من الهند فاشتبك معه وألحق به هزيمة كبرى عام 1508. أي أن الأسطول المصري ظل يطارد أسطول ألبوكرك البرتغالي مدة ثلاث سنوات ثم فتك به في المحيط الهندي! 

فلم تكن هناك أية خطورة حقيقة من البرتغال على مصر المملوكية. وفي المرة الوحيدة التي فكروا فيها في المس بأحد مصادر قوة مصر تمت مطاردتهم والفتك بهم. أما الخطورة الحقيقية على مصر المملوكية فلم تكن تأتي إلا من قِبل العثمانيين. وهذا ما كانت تعرفه مصر المملوكية جيدًا. وكانت هذه المعرفة، كما قال ابن خلدون تمثل وسواسًا ملازمًا للمماليك. وقد حقق العثمانيون ظنونهم، بل أسوأ منها، فلم يكتفوا بهزيمة مصر المملوكية، بل قاموا باحتلالها وتحويلها من دولة كبرى مستقلة لمجرد ولاية تابعة لهم، وبدأوا في نهبها من أول يوم. 

وقد أقام سليم الأول بمصر نحو ثمانية أشهر تنقل خلالها بين الأقاليم المصرية ينهب ما فيها وينقله إلى إسطنبول. وكانت السفن تأتيه فارغة وتذهب محملة بالنفائس والذخائر والمخطوطات القيمة والنادرة. وكان الرجل للحقيقة منظماً في عملية النهب والسلب. فكان ينتقل بين مدن الأقاليم وينهبها بترتيب ونظام مذهل، قصراً بعد قصر ومكتبة بعد أخرى. ولذا استغرق النهب ثمانية أشهر كاملة. 

ولأنه كمستعمر يهمه مواصلة السيطرة على مصر، لا نهضتها، اهتم قبل عودته إلى إسطنبول بوضع نظام يكفل بقاء مصر ولاية عثمانية ويمنع استقلالها. فقام بتتريك الإدارة في مصر مما أضعف لغة البلاد ودمر ثقافتها اللغوية والأدبية. وجعل مقاليد حكم مصر لثلاث سلطات تراقب كل منها الأخرى، وهي: الوالي، وجيش الحامية، والمماليك الذين ساعدوه في احتلال مصر والشام، ولذا أخذ معه إبان عودته إلى إسطنبول كل من تشكك فيه من المماليك ذوي النفوذ، لأنه لم يأمن بقائهم في مصر. كما أخذ معه ألفًا من أكابر الحرفيين ورؤساء الصناعات المصريين. أي أنه قام حرفيًا بتجريف مصر ثقافيًا وبشريًا وسياسيًا. وهذا بالضبط ما فعله ويفعله كل محتل غشوم! 

 

    الاكثر قراءة