الثلاثاء 28 مايو 2024

التنشئة الثقافية للشباب : الثقافة بين الصناعة والاستيراد

فن2-11-2020 | 18:58

على نهج جيرمى بنتام - الإنجليزي مؤسس الفكر النفعى -  استكمل أبحاثه جون واطسون الأمريكى، مؤسس المدرسة السلوكية وأحد رواد الدعاية والإعلان فى العالم، منهجه حول سيكولوجية الاستمالة، فكان يُحدّث زملاءه فى العمل قائلاً "أنتم لا تبيعون منتجًا على الإطلاق ولكن تسعون إلى إنتاج استجابة سيكولوجية، والمنتج ليس إلا وسيلة للقيام بذلك إلى جانب الحملة الإعلانية" .

أما المستهلكون، ففى المستطاع تكييفهم للقيام بأي شيء إذا صممت العوامل البيئية بالطريقة الصحيحة، وحذر واطسون من السعي وراء رغبات وانفعالات المستهلك الموجودة بالفعل بل ينبغى تفجير رغبات وانفعالات جديدة. 

وبعد عدة سنوات اعتمد العالم منهج العولمة الثقافية لإذابة الثقافات والهُويات الخاصة والمميزة للمجتمعات بهُوية واحدة عالمية تضمن على مر الزمان التبعية للأقوى وتمحى كل أوهام الاستقلال للمجتمعات.

كان قدر العالم أن يستقي من مصر القديمة الحضارة والعلوم والآداب والفلك والكثير، كنا منارة حضارية حقة، ثم انتقل العلم بعد ذلك إلى أوروبا ومكث هناك الكثير من الزمن ثم إلى العالم الأمريكى بعد أن كان قدرنا أن نتفرغ للدفاع عن أنفسنا ضد الغزوات المتتالية وأطماع الاستعمار الشرقية منها والغربية، فحدثت الفجوة التى تبدلت معها الأدوار، وبعد أن كنا صناع الحضارات والعلوم أصبحنا متلقين ومستوردين.

وتسللت إلى مصر مختلف الثقافات التى أعادت ترتيب القيم المجتمعية بشكل يتناسب، مع مورد الثقافة وليس مع مستخدمها، فموردو الثقافات على مستوى العالم هم أصحاب اليد العليا اقتصاديًا وعلميًا وفنيًا، حتى وإن كنا بارعين فى بعض المجالات كيفًا، ولكن همْ  كمًا، سابقون.

فحين نجلب من الخارج بعضًا من المنتجات فقد أحضرنا معها بعضًا من الثقافة، والتى أشار إليها  عميد الأدب العربى  الدكتور طه حسين فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر عام 1938 قائلاً نصًا:

"إن حياتنا المادية أوروبية خالصة فى الطبقات الراقية ،وتختلف قربًا وبعدًا من الحياة الأوروبية باختلاف قدرة الأفراد وحظوظهم من سعة ذات اليد، وإن المثل الأعلى للمصرى فى حياته المادية إنما هو للأوروبى فى حياته المادية، نتخذ من زينة الحياة ومظاهرها ومرافق الحياة وأدواتها،ما يتخذون، نفعل ذلك عن عمد أو غير عمد، غير متخيرين، ولا محتطاين، ولا مميزين بين، ما يُلائم وما لا يُلائم، ولكننا ماضون فيه على كل حال.. ونستطيع القول : إن مقياس رقى الأفراد والجماعات فى الحياة المادية، إنما هو حظنا من الأخذ بأسباب الحياة الأوروبية" .

ونخلص من هذا:

إن الأسرة المصرية قد أصابها الخلل نتيجة الإصابة المباشرة لقيمها ومبادئها، واستجابت لعناصر التهيئة الذهنية السلبية، وأصبحت فى أتم استعداد لتلقى ما هو أخطر من ذلك "الحرب النفسية والشائعات".

ورصدت  الدراما والسينما المصرية على مر العصور التغّيرات الاجتماعية حتى أنها رصدت ما يسمى بإعادة ترتيب القيم الاجتماعية، وعلى سبيل المثال أفلام "سواق الأتوبيس، أهل القمة ، انتبهوا أيها السادة"،  محاولة منها إنذار المجتمع بما آل إليه من أوضاع ثقافية وقيمية ولكن، كانت الرحايا أقوى وأعنف مما كنا ندرك ومما كنا نستطيع، وانهالت علينا ثقافة العولمة لتأتى على الأخضر واليابس، وأصابتنا بما يسمى بالشراهة الاستهلاكية، ثم شراهة التحزب والتكتل، التى أدت بنا إلى التطرف فى المعاملات اليومية، إلى أن أصابت الهُوية المصرية إصابات بالغة.

ولكن ما لم يُرصد إلا قريبًا وتحديدًا فى آخر ثمانية أعوام أن الحرب النفسية والشائعات قد تسللت وتمكنت من أوصال الثقافة، بل والعادات والتقاليد والطقوس أيضًا.

 القوة الناعمة أو العولمة الثقافية والتى أضحت أحد أهم أدوات المستعمر الحديث، كل فعل يتسلل إلى القلب أو العقل ويُحدث تأثيرًا فى الحال أو تراكميًا، وكان صاحب السبق فى استخدام القوة الناعمة بوجهها العنيف أو المدمر الفيلسوف الصينى العسكرى صن تزو  /496 ق.م. حين قال :

"الانتصار في المعارك ليس هو النجاح التام، إنما النجاح التام أن تكسر مقاومة العدو بدون قتال، بمعنى، إذا قَدرت أن تجعل عدوك يقاتل نفسه وينتحر بيديه فهذا قمة النصر، ولكن كيف للإنسان أن يقاتل نفسه وكيف للمجتمع أن ينتحر؟

فكما تتسلل القوة الناعمة بصحبة التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية  إلى المنازل والمنابر الإعلامية والمؤسسات التربوية والتعليمية ، تتسلل معها الحرب النفسية، والتى فى اعتقادى، أنها الوجه الآخر من القوة الناعمة .

فكما للحرية حقٌ علينا، كما للأخلاق والواجب حقٌ أيضًا، وكما للشفافية الإعلامية حقٌ علينا، فالحقيقة والحرص عليها حقٌ أيضًا، فلا يصح أن يكون رصد انحطاط الذوق العام تحت مظلة الإبداع المبرر الأخلاقى لحرية التعبير؛ فالإبداع إنما خُلق ليفرز جمالًا وقدوة حسنة، وكذا المؤسسات التربوية والتعليمية والدينية، إذا لم تفرز لنا مواطنًا صالحًا، فهي تصيب الهُوية المصرية بعَطَبٍ شديد يستلزم لاستنهاضها مجهودًا شاقًا مخلصًا يبدأ بتصحيح المسار الثقافى فى كل حقوله انتهاء بمشروع قومى لتكوين قدوة معاصرة، فالقدوة من يقود الجيل إلى مصيره .

ولكن، كيف لنا أن نُحد من الاستسلام والاستغراق فى براثن الحرب النفسية التى تسللت إلينا وأدت إلى اندثار الهُوية المصرية عن طريق التشكيك والتسفيه منها واتهام المواطن على طول الخط بـ"الرجعية وعدم التطور"، وكيف نقضى على أحد أهم الظواهر الاجتماعية القاتلة وهى "الشائعة"، كيف لنا أن نسحق دورتها الاجتماعية، ونصيب مطلقها ومروجها باليأس، كيف لنا أن نسيطر عليها ونكبح خورازمية انتشارها اللعينة، المحصنة بوسائل  التواصل  الاجتماعى فى أحد أخطر عصور كوكب الأرض وهو عصر الفضاء الرقمي .

كيف يمكن أن نقنع أحدهم ألا يتأثر بأصدقائه وأقرانه، بل حتى ذويـــه، فى ترديد ما لم يحط به علما، وأن يتخلى عن عملية  المسايرة وهو خائف من أن يصبح وحيدًا منبوذًا .

الأمر جلل، ولكن الحل فى المتناول، بل قد شرعت الدولة المصرية فى وضع بعض الحلول محل التنفيذ وأخرى فى انتظار المواطن أن يقوم بدوره تجاه أسرته وعمله ووطنه، أذكر منها: تحجيم الشراهة الاستهلاكية وإعادة ضبط منافذ الإنفاق، إعادة  توجيهه لأمور ذات أولوية، أصبح المنتج المصرى من ضمن اختيارات المواطن بعد أن كان لا قبول له .

وهنا تجدر الإشارة إلى أحد أهم نتائج أبحاث إيفان بافلوف، العالم الروسى الشهير، وهى إذا استطعنا تغيير بيئة الإنسان يمكن تغيير طبيعته الذاتية، ويجب ألا ننسى أن مراحل الاستعمار ثم الانفتاح ثم العولمة كانت لتغيير البيئة المحيطة لتمرير الثقافات السالبة للهُوية المصرية، فما كان من الدولة إلا إعادة البيئة لما كانت عليه من قبل عصور التمهيد الذهني .

تفعيل دور الإعلام الإيجابى الصادق الوطنى سواء المقروء أو المسموع أو حتى قى مواقع التواصل الاجتماعى مع وضع منهجية لتصحيح المعلومات المزيفة والأخبار الكاذبة بشكل مستمر، أحد أهم الخطوات التى اتخذتها الدولة لمقاومة الحرب النفسية والشائعات.

ولا بد من وضع نسق متكامل، للتخطيط لرفع مستوى وعي وفهم الأفراد والمجتمع منذ الصغر، أى وضع استراتيجية تبدأ من الطفل لنحميه مما يحيط به من مخاطر ناعمة وتهديدات داخلية وخارجية، ويكون بتعاون مكون من خبراء فى القوة الناعمة من "وزارات التربية والتعليم والتعليم العالى والثقافة"، وتكنولوحيا المعلومات وقطاع الإعلام بكل مكوناته والمؤسسات الدينية والاجتماعية بإطار زمنى محدد ومهمة محددة و مخرجات قابلة للتنفيذ؛ واستنهاض الغرائز الإنسانية الحميدة بتوجيه رسائل توعوية مدروسة موحدة للحد من ترديد الشائعات وتعزيز الفرز النقدى والتماسك الاجتماعى والتهذيب الخُلقُي.

تربية أولادنا على القيم والمبادئ الحقة الرسالة التى كلفنا بها الله سبحانه وتعالى لضمان استمرار الحياة فى سلام وتطور، قول الحق، حب الآخر، الانتماء لقيم يفتفدها الكثير من أطياف المجتمع نحتاج لعودتها، فهى الضامن للحفاظ على الأمن القومى داخليًا وخارجيًا.

إذا كان قدرنا الدائم خوض الحروب، فلنسلح أبناءنا بالانتماء والثقافة وحب الآخر.