ذكرتنى تعزية صادقة وواجبة ، بذلتها على
البعد ، بشريط ساخن من الذكريات ، وبخواطر متدفقة حول مكانة الأم ، ومحبتها
المتغلغلة المستقرة فى الأعماق ، لا تبارح قلوب فلذات كبدها لحظة من ليل أو نهار ،
مهما تقدمت بهم الأعمار ، أو توفرت لهم
أسباب ومقومات الحياة ، أو دانت لهم الدنيا وأقبلت عليهم أسباب الرفعة والمجد .
لا حصر للعبارات ولا للمشاهد ولا للوصايا
التى تشيد بمكانة ومنزلة الأم ، ودور الأمومة ، وما من أحدٍ إلاَّ واطلع على شئ من
ذلك قلّ أو كثر ، وما من سَوِىّ إلا وعرف ويعرف لأمه مكانتها وتستقر محبته لها فى
وجدانه وفى أعمق أعماقه .. محبة الأم محبة خاصة ، لا تدانيها ولا تعدلها أى محبة
لمخلوق ، فهى من « محبة الله » ، ولا غرو
فإن الأم هى جسر الحياة التى أرادها الله ، وجعل لها أسبابًا ، تنمو جميعها
وتتلاحق فى
رحم الأم ، ثم فى قلبها وفى كل ذرة من كيانها .
هى التى تتلقى البذرة ، فتحتضنها ، وتكفل
لها كل أسباب الحياة ، صَوّر القرآن المجيد ذلك أبلغ تصوير فى أكثر من آية من
آياته ، فقال تعالى فى سورة القيامة : « أَيَحْسَبُ
الإْنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى »
( القيامة 36 - 38 ) ، وأوضح القرآن أطوار
هذا الخلق فى رحم الأم ، فقال عز وجل فى سورة المؤمنون : «
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإْنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا
ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » (
المؤمنون 12 - 14 ) ، وفى
سورة غافر : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً
ثُمَّ ِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن
يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى
أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ »
( غافر 67 ، 68 ) ، وردد القرآن المجيد هذا البيان فى الآية
الخامسة من سورة الحج ، موضحا أن الخالق البارئ يقر فى « الأرحام » ما يشاء إلى
أجل يسمى ثم يخرجه طفلاً ، ويقول جل شأنه فى سورة فاطر : « وَاللَّهُ خَلَقَكُم
مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ
مِنْ أُنثَى وَلاّ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ
يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ » (
فاطر 11) .
لم يقرن الخالق البارئ عملية الخلق ، إلاَّ
بالأم .. ففى رحمها تتوالد وتتنامى مكونات ومقومات الحياة إلى أن يستوى المخلوق
خلقًا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين .. ومعها وبعطائها الفياض تتواصل أسباب
الحياة ، ومقومات النشأة ، ومعالم التربية والتعليم والتهذيب ، والطباع والقيم
والأخلاق .. هى التى تستقبل المولود ، وتسهر على رعايته آناء الليل وأطراف النهار
، وترضعه وتهدهده ، وتحتضنه وترعاه وتكفله
، وتتحمل عنه
متاعبه ، وتخُفف آلامه إنْ مرض أو توجع ، وتسهر الليالى إلى جواره ، وتعطيه من
حنانها وحبها وعواطفها ، وتحميه من أن يمسه أى مكروه ، وتراقب نموه ، وتفرح بفطامه
حينما يبلغه ، وتواصل رعايته وتنشئته ، وتواليه وهو يكبر أمامها يوما بعد يوم ،
طفلاً ثم صبيَّا ، ولا ينقطع مددها له ولا حنوها عليه بعد أن يشب عن الطوق ، نداؤه
لها أحلى نداء تسمعه أذناها ويستقر فى قلبها ، ولا تكف يومًا عن إعطائه الحب ومنحه
مفاتيحه ، ولا يكف
مولود ـ ذكرًا كان أو
أنثى ـ عن استقبال
هذا المدد المعطاء المستمر والتواصل معه ، ولا عن الاستمتاع بتلقى دفقات حنان الأم
وعطفها وحدبها ورعايتها ، لتزداد فى قلبه محبة الأم وتكبر مع الأيام ، ولتصير هذه
المحبة ـ محبة الأم ـ من محبة الله ، واهب الحياة .
الأم التى سمع الله صوتها
من فوق سبع سموات
يتحاكى العالمون بموقف لأمير المؤمنين عمر
بن الخطاب ، حين ترك من حوله ووقف ينصت لسيدة هرمة فى صبر طويل دون أن يتعجلها ،
وسمعوها تقول له وهو منصت باهتمام بالغ :« يا عمر ، لقد كنت تُدْعى عُمَيْرًا ، ثم
قيل لك عمر ، ثم قيل لك أمير
المؤمنين . فاتق الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن الحساب
خاف العذاب ! » ومضت السيدة تبث إليه كل ما تريد ، وهو يستمع إليها منصتًا فى
صبر وترحيب ..
يومها قال أمير المؤمنين عمر ، لمن تعجبوا
من طول وقوفه لها وصبره على عظتها ، إنها « خولة
بنت ثعلبة » ، ولو حبسته إلى آخر النهار لصدع ، وقال لهم : « لقد سمع الله قولها من فوق سبع سموات ! أيسمع الله قولها
ولا يسمعه عمر ؟! »
بشأن وفاء هذه السيدة العظيمة بأمومتها ،
نزلت سورة « المجادلة » ، بفتح الدال
أو بكسرها ، وسميت بذلك نسبةً إليها وإلى موقفها ، حين ذهبت إلى الرسول تستفتيه فى أمر « الظهار » الذى ألقاه عليها زوجها الشيخ ، ابن عمها وأبو أولادها .
وكان الظهار لا يزال معدودًا من الطلاق منذ أيام الجاهلية ، فلما أجابها عليه
السلام بأنها قد صارت محرمةً عليه ، ولا حل لمشكلتها ، ظلت تحاوره وتناقشه ، ثم
تعود إليه لتحاوره ، وتقول : اللهم إنى أشكو إليك !! ، وتبلغ فى محاورتها حد أن
تقول لنبى المرحمة : « يا رسول الله ، أيوحى إليك
فى كل شئ ويُطوى عنك هذا ؟! » ثم
تقول دفاعًا عن حق أولادها
الصغار : « وأولادنا يا رسول الله ؟! إنهم إن ضمهم
إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلىّ
جاعوا !! »
ما
برحت هذه الأم الرءوم على جدالها ، حتى نزلت الآيات الأولى لسورة
« المجادلة » ، تقول فى مستهلها : « قَدْ
سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ » .. (المجادلة 1 ) وتتابعت آيات السورة التى
نزل بها الوحى تسن أحكام الظهار ، وتفرض له كفارة ، ساهمت ذات الأم الرءوم فى
توفير أسبابها لتحمى أولادها من الجوع أو الضياع ، ولتصون عمارة حياة الأسرة .
الأم أم
مهما شب أولادها عن الطوق
وتوفرت لهم أسباب ومقومات الحياة !
لازلت أذكر يوم
تلقيت نبأ رحيل أمى رحمها الله , لم أكن أتصور حتى تلك اللحظة ما يمكن أن يكون أشد
وقعًا علىّ من وفاة أبى رحمه الله الذى كنت أجله وأعشقه وأهيم به حبًّا واحتراما ,
وقد رحل من سنوات بعيدة ونحن لا نزال فى أشد الحاجة إليه للتعامل مع أسباب الحياة
, بيد أنى شعرت بنصل خنجر حاد يستقر فى صدرى حين تلقيت نبأ أمى , وكان بعد أن مضت
السنون واستوت لنا مقومات الحياة , فأدركت لحظتها أن لا شئ يعدل فقد الأم , وأن
فقدها هو اليتم الحقيقى , مهما كبرنا وتقدم بنا العمر , وأن محبتها هى بالفعل من
محبة الله , لا تعادلها أى محبة أخرى !
كنت أجلس
يوما إلى أبى الروحى وأستاذى المرحوم الدكتور محمد عبد الله محمد , وقد بلغ
التسعين من عمره , أتلو عليه بعضًا من أشعاره التى نجحت ـ بعد تحفظ شديد منه ـ
فى نشرها فى ديوانيه « العارف » و « الطريق
» ، فجرت عيناى فى ديوان « الطريق »
على أبيات من قصيدته « كعك العيد » , يتذكر
فيها كيف كانوا يلتفون حول أمه قبل يوم العيد لتجهيز الكعك , وأثناء التلاوة التى
كنت مستغرقًا فيها , حانت منى التفاتة إلى الشيخ المهيب الذى فارقت أمه دنيا الناس
من نحو ثمانين عاما , فإذا به تجرى دموعه سخينة مدرارة وقد أشجته الذكريات وحنينه
إلى أمه . توقفت عن التلاوة مبهوتا , مأخوذًا بجلال اللحظة , لا تفارقنى دلالة كيف
بقيت محبة الأم عامرة ثمانين عاما فى قلب الابن الذى بلغ الآن سن التسعين , دون أن
تخفت ذكراها وإجلالها من صفحة وعيه !
ومالنا نذهب
بعيدًا . لقد سمعنا أحاديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام فى مكانة وإجلال
الأم , ونذكر له قوله لسائل : أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك , ونذكر قوله لمن ذهب
يطرح عليه أن أمه قد شاخت وهرمت , وأنه تسليةً لها يحملها على كتفيه ويجول بها فى
صحن الدار , وتبول عليه , فهل هو بذلك قد أدى حقها عليه ؟ ولكن كلمات الرسول أتته
تقول إنها كانت تؤدى له ذلك وهى تتمنى له أن يعيش , وإنه يؤدى ما يؤديه لها وربما
فى قرارة نفسه يتمنى أن تموت !
ولكنى لا
أنسى موقفًا للرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام , هو آية على محبة الأم وجيشان العاطفة
نحوها , رغم تقدم العمر , بل وحمل رسالة النبوة , والاضطلاع بأعبائها الجسيمة ,
كانت أمه قد تركته وحيدًا من سنين بعيدة يتيمًا فى بادية الجزيرة بين مكة ويثرب ,
ورقدت حيث صعدت روحها إلى بارئها وهى تقول : « كل حى ميت , وكل جديد بال , وكل
كبير يفنى . وأنا ميتة وذكرى باق , فقد ولدت طهرًا وتركت خيرًا .. » , وبعد سنوات
وأحداث , لا يصرف النبى عليه السلام عن عاطفته لأمه صارف , فلا يكاد يمر
« بالأبواء » حيث دفنت , حتى يقطع مسيره ،
ويزور قبرها ، وهناك غلبته عاطفته فبكى وأبكى من حوله ! وروت السيدة عائشة رضى
الله عنها , أنهم بحجة الوداع , مَرَّ عليه الصلاة والسلام على قبر أمه وهو باك
حزين مغتم , فبكت لبكائه عليه السلام .
تواصل الينابيع
مع الأم
وإليها , حية أو لدى الرفيق الأعلى , يتواصل تدفق ينابيع رحمتها وحنانها وعطفها
ومحبتها وعطائها , ويتواصل الإحساس بحرارة هذه الينابيع لدى كل مولود , منذ أن
يولد إلى أن يفارق .. يحمل كل منا هذه المشاعر معه , ومخزون ذكريات ما تلقاه
أو لا يزال يتلقاه من أمه ..
لازلت رغم
مَرّ السنين , أعزى نفسى فى أمى يوم أعزى أحدًا فى أمه , فالأمومة معنًى وشعور
فياض , وعاطفة جياشة ناشبة فى أعمق أعماق كل منّا .. نتعزى فى رحيلها بما يتعزى به
المؤمنون .. لله ما أعطى , ولله ما أخذ , وإنا لله وإنا إليه راجعون .
العزاء هو
فى ذكرها , وفى الترحم عليها , والدعاء لها .. أن نستعيد مشاهد حنانها الوارف ,
وعطاءها الممدود , وحضنها الدافئ , وكتفها الذى طالما أعطتنا إياه لتساندنا
وتقوينا , ودعاءها لنا فى وقت الشدائد , وفى الأحزان والأفراح .
ستمضى السنون
على الرحيل , كما مضت على كل رحيل لأمًّ سلف , ولكن تبقى معانى الأمومة حية نابضة
, ويبقى حنانها وعطفها عائشًا فى الوجدان , تهفو إليه الأفئدة فى كل حين , وتشتاق
إليه فى أوقات الشدة , وتتنادى به فى أوقات البهجة والسرور .. فمن يفرح لفرحك أو
يكابد شدتك إلاَّ الأم التى حملتك وولدتك وأرضعتك وهدهدتك وكفلتك وربتك وفرحت لكل
يوم جديد يزدان به عمرك ؟!
شعرت وأشعر
وأنا أواسى فى رحيل كل أم ، بمدى الألم المعتلج فى صدر مولودها , والوحشة التى
يستشعرها بفقدها , والصبر الجميل الذى يتعزى به .. فهو شعور مشترك نحسه جميعا
عرفانًا بحق الأم , ومعنى وعطاء الأمومة ..
رحم الله كل
أم بحق ما بذلت وجهدت وأعطت , وأنزلها منازل الصديقين والأبرار والصالحين ,
وأسكنها معهم فى جنات النعيم , فى الفردوس الأعلى , فى مقعد صدق
عند مليك مقتدر .