بقلم – د. عباس شومان
أشرت في مقالة سابقة إلى أن الطلاق البدعي هو أن يطلق الزوج زوجته في أثناء حيضها، ومثله النفاس الذي يكون بعد الولادة، أو في طُهر جامعها فيه، وهذا يتنافى مع ضوابط الطلاق الصحيح التي منها أن يكون الطلاق في حال طُهر المرأة الذي لم يحدث فيه جماع، ومن ثم فإن أراد الزوج أن يطلق زوجته فعليه التأكد من أمرين: أنها ليست حائضًا، وأنها منذ طهرت من حيضها لم يعاشرها معاشرة الأزواج، ما لم تكن حاملًا؛ فله عندئذ أن يطلقها متى أراد من غير تربص، وهذا القدر متفق عليه بين الفقهاء؛ لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ»
والمراد هو طلاق المرأة في طُهر لم يجامعها فيه زوجها؛ حيث تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية بعد أن رفع إليه سيدنا عمر بن الخطاب ما فعله ابنه عبد الله - رضي الله عنهما – وهو تطليقه زوجته في أثناء حيضها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: «مُره فليراجعها وليمسكها حتى تطهر ثم تحيض، فإن طهرت؛ فإن شاء طلَّق وإن شاء أمسك»، ثم تلا الآية وقال: «تلك العدة التي أمر الله بها».
ومع اتفاق الفقهاء على بدعية طلاق الزوجة في أثناء الحيض أو في الطهر الذي حدث فيه جماع ما لم تكن حاملًا؛ وذلك لمخالفته الوارد شرعًا في وقت التطليق، إلا أنهم اختلفوا في حكم الاعتداد بهذا التطليق؛ حيث يرى جمهورهم أن هذا الطلاق معتد به مع إثم فاعله، وتحتسب الطلقة في هذه الحال من التطليقات الثلاث التي يملكها على الزوجة، واحتجوا على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسيدنا عمر: «مُره فليراجعها»؛ حيث إن الأمر بالرجعة يدل على أنها قد طُلقت بالفعل، فلا رجعة إلا بعد طلاق، ولأن الإثم لا يُبطل أثر الفعل، فالصلاة في الدار المغصوبة أو الثوب المسروق صحيحة إذا استوفت شروطها وأركانها، لكن يأثم المصلي في هذه الحال للغصب والسرقة. وقد ذهب بعض فقهاء الحنابلة إلى القول بعدم الاعتداد بهذا الطلاق البدعي؛ لأنه طلاق يتنافى مع ما شرعه الله، فالمشروع في الطلاق بلا خلاف أن يكون مرة بعد مرة ثم يكون التسريح في الثالثة؛ لقول الله تعالى: «الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»، وشُرط في جميعها أن تكون في طُهر خالص، وهذا الطلاق الذي وقع في أثناء حيض الزوجة أو في طُهر جامعها فيه زوجها فَقَدَ هذا الشرط، فكان بدعيًّا مردودًا على فاعله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وهذا نص واضح يدل على بطلان البدعة وعدم ترتب أثر عليها، ومن ثم فهذا الطلاق باطل، والباطل لا أثر له في شريعتنا، فضلًا عن أن هذا الطلاق المتفق على بدعيته لو اعتُد به واحتُسبت إحدى الطلقات من عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته؛ لكان هو والطلاق السني الذي وافق ضوابط الشرع سواء في ترتب الأثر، وليس من قواعد شرعنا الحنيف تساوي الباطل والصحيح في الآثار المترتبة عليهما، بل هما على النقيض. واستدل أصحاب هذا الرأي المهدر للطلاق البدعي بما رُوي عن عبد الله بن عمر حين طلق امرأته وهي حائض، قال: «فردَّها عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرها شيئًا»، وقال: «إذا طهرت فليطلق أو ليمسك»، وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»، ومع أن أكثر الروايات الواردة في تطليق عبد الله بن عمر لزوجته وهي حائض ليس فيها زيادة: «ولم يرها شيئًا»، إلا أن هذه الزيادة تضعف الاستدلال بالروايات الأخرى، فإن لم يمكن الجمع بينها تساقطت ويعول على غيرها في الاحتجاج.
وما ذهب إليه القائلون بعدم الاعتداد بالطلاق البدعي هو الأولى في الاعتبار والأقرب لموافقة مقاصد التشريع؛ حيث كره شرعنا الطلاق على عمومه لما فيه من هدم الزوجية وتفرق شمل الأسر، ولأن هذا الطلاق البدعي خالف ضوابط الشرع المعتبرة في إيقاع الطلاق فكان باطلًا، وحيث إنه تصرف غير مشروع كان هو والعدم سواء، ومن ثم لا يتساوى مع الطلاق المشروع في الأثر وهو حصول الطلاق، فضلًا عن أنه لا يترتب حرج على القول بعدم الاعتداد به وبقاء الزوجة على ذمة الزوج، بخلاف عكسه، فالزوج إن كان مصرًّا على الطلاق فبإمكانه إيقاعه في طُهر زوجته طهرًا خالصًا، أما الاعتداد بالطلاق البدعي فهو يضيع إحدى الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته إن كانت الطلقة رجعية، وينهي الزوجية تمامًا إن كانت الثالثة، وقد حرصت شريعتنا على نفي الحرج عن المكلفين، يقول تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، بالإضافة إلى أن القول بوقوع الطلاق في الحيض فيه ضرر بالطرفين؛ فهو يفوت على الزوجين طلقة من دون تحقيق المقصود منها وهو الفرقة؛ حيث وجبت الرجعة على الفور بعده من دون الاستفادة بتربص فترة العدة التي شُرعت لاستبراء الرحم والتأكد من إرادة الفرقة وإنهاء الزوجية في حال ترك الزوجة تَبين بانتهاء عدتها، أو العدول عن الفرقة واستئناف الزوجية قبل انتهاء العدة من دون حاجة إلى عقد، أو استئناف الزوجية بعدها بعقد جديد إن كانت الطلقة رجعية، فإذا طلق الزوج زوجته طلقة شرعية لإنفاذ مراده من التطليق الذي لم يتحقق في المرة الأولى البدعية للأمر برجعتها مع احتسابها طلقة، ثم استأنفا الزوجية بعد ذلك؛ لم يبقَ للزوج إلا طلقة واحدة فقط بدلًا من طلقتين، ومن ثم كان على الفقهاء إما اعتبار الطلقة البدعية طلقة صحيحة وترك الزوجة تعتد بلا إلزام للزوج برجعتها، وإما إبطال هذه الطلقة، ولمَّا دل الشرع على خلاف الفرض الأول وهو اعتبارها طلقة صحيحة دون إلزام بالرجعة - حيث أُمر سيدنا عبد الله بإعادة زوجته واستئناف الزوجية - يكون إبطال هذا الطلاق وعدم الاعتداد به هو المتعين مع إثم فاعله. وهذا الإثم الذي ارتُكب بالتطليق في الحيض لا يرتفع بالرجعة بل بالاستغفار، وإنما كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجعة - التي هي حق خالص للمطلق - لبيان حكم القول الذي صدر عن سيدنا عبد الله وتصحيح ظنه بأنه قد طلق زوجته، ويؤيد ذلك أن النبي لم يسأل سيدنا عمر عما إذا كان ابنه عبد الله قد طلق زوجته قبل ذلك، ولو كانت الطلقة البدعية معتبرة لوجب أن يسأله قبل أن يأمره برجعتها؛ وذلك لأن الرجعة غير ممكنة شرعًا بعد الطلقة الثالثة، فدل عدم سؤاله على أنها ليست الرجعة التي تكون بعد طلاق.
والقول باعتبار وقوع الطلاق البدعي قياسًا على اعتبار الصلاة في الدار المغصوبة أو الثوب المسروق لا يعول عليه، فهو قياس فاسد؛ حيث إن الصلاة ليس من شروطها ملكية المكان أو الثوب الذي تؤدَّى فيه، وإنما المطلوب ستر العورة وطهارة البدن والثوب والمكان وغير ذلك من شروط صحة الصلاة، ومن ثم يمكن الفصل بين المحرم وأثره والصحيح وأثره، فتعتبر الصلاة مكتملة الشروط والأركان صحيحة، ويعتبر غصب الدار أو سرقة الثوب محرمًا ويأثم فاعله، وهذا بخلاف الطلاق البدعي؛ فالخلل فيه يتمثل في الشروط التي لا يصح الطلاق من دونها، والطلاق البدعي ليس فيه شيء مشروع يمكن تصحيحه. ومن الضروري الإشارة هنا إلى الفرق بين الطلاق البدعي والطلاق ثلاثًا بلفظ واحد من جهة السبب في عدم الاعتداد بالطلاق ثلاثًا بلفظ واحد، وهو أنه بدعة - وهذا أحد الآراء التي عرضناها في مقالة سابقة وقلنا بضعفها - وذلك أن البدعة في الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد – كما بينا هناك - تكون في الطلقة الثانية والثالثة، أما الأولى فلا إشكال فيها ولذلك اعتُبرت طلقة صحيحة، وهو ما يعني أنه أمكن رد البدعة وفصلها عن المشروع، أما الطلاق البدعي فكله بدعة، ومن ثم وجب إبطاله كله والحكم ببقاء الزوجة على عصمة زوجها، واعتبار الطلقة الواقعة في هذه الحال من اللغو الذي لا أثر له.