الأربعاء 29 مايو 2024

المعذبون فى الأرض.. طه حسين ينتصر للفقراء والمهمشين

فن16-11-2020 | 02:07

طه حسين من يستطيع أن يضاهيه في معاناته منذ الصغر، فرغم علته استطاع أن يكون الدليل الذى يهتدى بخطاه المبصرون، دون خوف أو مواربة تمرد على العُرف والسائد والقوالب الثابتة الجامدة، حتى الأشكال الأدبية تمرد عليها واستخدمها للسخرية من قواعد النقاد وأصولهم المبتذلة على حد وصفه، فانتهك الحدود المتعارف عليها للأنواع الأدبية في زمنه، ليشكل هوية جديدة لأعماله الأدبية ومؤلفاته النقدية.


استطاع طه حسين أن ينتصر للفقراء والمهمشين في كل مكان وزمان، فمن قلب المعاناة كتب"دعاء الكروان"، و"الأيام"، "حديث الأربعاء"، والمجموعة القصصية "المعذبون فى الأرض" ليخلق ملحمة تُبصر المصريين بحقائق أمورهم فى وقت استشرى فيه الفقر والجهل والطبقية، فقدم شخوصًا، وأماكن، وأحداث بصور مختلفة ولكن تجتمع فى يوتقة واحدة من المعاناة والتهميش والموت كمدًا. 


تأتى المجموعة القصصية "المعذبون فى الأرض" في 11 قصة التى صدرت فى طبعتها الأولى في 10 أكتوبر عام 1947، عن دار المعارف وسنتطرق بالحديث عن القصة الأولى منها والتي جاءت بعنوان "صالح"، والتي عكست هذه المجموعة القصصية القصيرة نكبة المجتمع المصرى فى حقبة الأربعنيات من القرن العشرين، فقد مثلت معاناة المهمشين من المجتمع بشتى أشكالهم سواء الفقراء منهم أو المعدمين أو المرضى وكيف أن الحياة أنهكتهم ليعيشون أعمارهم اليائسة على حافة الهاوية، فكانت بمثابة الثورة على الأوضاع الإجتماعية وحالة التخمة التى كان ينعم بها الأثرياء والأغنياء فى ظل إنتفاء وجود الطبقة المعدمة الفقيرة ، والتى كانت بمثابة التبشير لثورة 1952. 


وأشار الأديب العالمي فى مفتتح مجموعته القصصية إلى العدل الغائب فيقول "إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل, وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل, إلى أولئك وهؤلاء جميعا, أسوق هذا الحديث… إلى الذين يجدون ما لا ينفقون, وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون, يساق هذا الحديث" نلاحظ فى قصة " صالح " أن الراوى كانت لدية الحرية المطلقة دائمًا إزاء أحداث القصة وتوجيهها كيفما يشاء، ولا ينفلت القارئ من زمام أمره فيشتته لتخيب توقعاته أو تصيب كما يرتأى له، فيبدأ بتوجيه الخطاب إلى مخاطب غير محدد فيلقى عليه التساؤلات والتأملات التى تحوم بعقله.


ونلاحظ أيضًا أن راوى القصة لدى طه حسين يهرب من القصة، فينفى صفة القص ليؤكد صفة الحديث وهذا كان من أهم صفات الشكل الأدبى الذى ينحاز له . "صالح" إحدى الأرواح المعذبة التى تعيش فى الريف الذى يعد مرتعًا للفقراء الذى ينتمى إليهم، واستطاع "حسين" أن يرسم ملامح الشخصية بشيء يشى بنهايته المحتومة حيث الموت انتحارًا تحت عجلات القطار، كان كما وصفه " ثوبه ممزق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغى ،كأنه أسمال قد وصل بعضها ببعض وصلاً ما، وغلقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقًا ما، لتستر منه ما تستطيع، ولم يحدد "حسين" عن قصد المكان والزمن الفعلى للأحداث فهى قصة أو حديث صالح لكل زمان ومكان، و"صالح "، لم يكن الفقير المعذب الوحيد فى ذاك الزمان أو ما تلاه من عقود وسنون، ولكنه اشتد فى وصف " صالح بن الحاج على" بالكلب عندما طلبت والدة الصبى صديقه بأن يستدعيه إلى تناول العشاء معه فهى تعلم جيدًا شظف العيش الذى يحياه فكان " حسين" قاسيًا فى وصف فقر"صالح "المدقع فيقول " قال الصبى : أريد أن تبقى لنتعشى معًا، ولم يقل صالح شيئًا، وإنما تحول إلى رفيقه، وسعى فى إثره هادئًا مطرقًا كأنه الكلب يتبع صاحبه إذا دعاه ". 


لم يخبرنا "حسين" عن الصبى فى بدايه حديثه ، فلا نعرف اسمه أو موطنه أو بيئته أو أسرته الميسورة الحال ومن عسى أن يكون فى قصة صالح الفقير فقد حاول "حسين" ألا يخضع قصته لقواعد الفن القصصى فيكون القارئ على معرفة بالمكان وزمان وقوع الأحداث، واستبيان شخصيات الناس الذين يدورون فى فلك حديثه فيقول " لا أٌقبل من القارئ مهما ترتقع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أحب أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلام يخرط له فأمليه ثمم أذيعه،فمن شاء أن يقرأه فليقرأه.


ويعقد طه حسين مقارنة بين ماهية وجود الصبيين إحداهما صالح والأخر "أمين " كما أشار إليه فيرى أن صالح لم يوجد قط فى أنحاء مصر ويبرر قوله بأن " إذا أسرف الشيئ فى الوجود فهو غير موجود، سواء أرضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم ترض"، فهو غير موجود لأنه لا يحظى بالحياة كما ينعم بها صديقه الصبى المترف فلا ينام جائعًا، ولا ينتظر عشاؤه، فمن حقه أن يتناول طعامه فى وقت، وأن يأخذخ قسطه الوافر من النوم وأن لاتتعرض صحته إلى ما يؤذيها، فهكذا يكون الإنسان موجودًا إذا توافرت أبسط حقوقه من مأكل وملبس وشراب ونومًا هنيئًا هادئًا، حيث حياة تليق بطفولته وبكينونته وبإنسانيته التى فضلها الله على سائر كائناته ، لأن تكون أحد المعذبون فى الأرض. لم يكن " صالحًا " يتيمًا بل كان يعيش فى كنف أبيه وزوجته، بينما أمه قد طُلقت من أبيه لسوء أخلاقها، فكانت لا ترضى عن شيء ولا ترضى بشيء، فافترقت عن وليدها بعد عامين من ولادته ليعيش ف كنف أبيه، وقسوة زوجته التى ضربته ونهرته عندما رأته يرفل فى ثوبه الجديد الذى أعطته له أم الصبى، فلمع فى عينها وعلمت أن ذاك الثوب لم يخلق لصالح بل لابنها محمود، فضربته إلى الحد الذى أعجزه عن الذهاب إلى الكُتاب ،وجعله ينزوى فى أحد أركان البيت مريضًا مهملاً حتى إن استطاع أن يمشى على قدميه مرة أخرى. 


تنتهى تلك القصة بموت صالح وأخيه ، فصالح يموت رغم أنفاسه المتلاحقة فى ذلك العالم البائس، بينما أخيه سعيد يأكله القطار أما ناظريه، بينما أمين بعد تقدمه فى السن مازال يتسأل كما كان صغيرًا عن الفقر وماهيته، ولما اختار صالح وأسرته دون حياته الوثيرة ولكن هذه المرة يرى أن صالح قد أكله الفقر كما أكل القطار أخيه، فيقول "مازلت أرى تلك الجثة قد ألقى عليها ثوب غليظ، ولكنى أنظر إلى وجهها، فلا أرى وجه سعيد، وإنما أرى وجه صالح، ومع ذلك فلم أر صالحًا حين أكله القطار".