الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

محمود السعدني.. ساخر في زُمرة الصحفيين (ملف)

  • 20-11-2020 | 16:18

طباعة

لا يُمكن الحديث عن أولئك الذين التقطوا الضحكة من قلب المأساة إلا وكان لزامًا أن يُذكر اسم محمود السعدني، الذي قضى عُمرًا كاملًا بين الصحافة والمعتقلات، وشهد سنوات صعبة من التضييق والمنع لكتاباته سواء داخل مصر أو خارجها؛ لكنه طالما احتفظ بضحكته الساخرة، وحديثه الذي يُثير غضب السلطات بينما يُفجّر الضحكات من العامة، الذين اعتادوا أن يقرأوا كلماته فيشعرون بأن هذا ما كانوا يودون قوله، ويندهشون من قدرة ذلك الرجل على السخرية، لكنه كان يُجيب تلك التساؤلات الحائرة بأن "الموهبة مسألة لا يستطيع أحد أن يختارها"، وكذلك "تستطيع أن تكون ضابطًا أو بحارًا، ولكنك لا تستطيع أن يكون دمك خفيف، والسبب في ذلك منذ الميلاد أبوك وأمك". 


تميّزت كتابات هذا الساخر العظيم بالنقد اللاذع والسخرية الشديدة من كل شيء وكل شخص، وجاءت مذكراته التي حملت عنوان "الولد الشقي" كواحدة من أروع ما كتب من أدب السيرة الذاتية في الأدب العربي، وقد تم نشرها في سلسلة كتب في الفترة من نهاية الستينات وحتى منتصف التسعينات، وحملت عناوين فرعية متعددة، منها "طفولته وصباه في الجيزة"، "قصة بداياته مع الصحافة"، "الولد الشقي في السجن"، "الولد الشقي في المنفى"، و"الطريق إلى زمش" وهو الجزء الأشهر الذي دوّن فيه ذكرياته عن أول فترة قضاها في السجن في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. 


كذلك للساخر الكبير العديد من الكتب التي تناولت مواضيع متنوعه منها "مسافر على الرصيف" الذي حكى فيه عن بعض الشخصيات الأدبية والفنية التي عرفها، "السعلوكي في بلاد الإفريكي" وكان رحلات إلى إفريقيا، الموكوس في بلد الفلوس" عن رحلته إلى لندن، "رحلات أبن عطوطه" عن رحلات متنوعة، "حمار من الشرق" وحمل وصف ساخر للوطن العربي، ورواية "قهوة كتكوت". 

وفي ذكرى ميلاد الرجل الذي صار علامة فارقة في تاريخ الكتابة الساخرة في مصر، والذي يُمكن القول بأنه قد أسس مدرسة ساخرة عبر كتاباته المتنوعة التي أثارت غضب أنظمة العربية في حقبتي الستينيات والسبعينيات، تستعيد "الهلال اليوم" في السطور التالية بعضًا من صفحات حياة "الولد الشقي" الذي كان يومًا واحدًا من كُتّابها، والذي حفر بقلمه ما تظل الأجيال الحالية شغوفة لقراءته، ليتأكد لنا ما قاله عن نفسه ذات يوم "أعيش صحفيًا وأموت صحفيًا، وسأحشر يوم القيامة في زمرة الصحفيين". 


ساخر بالقطعة 

بدأ السعدني، المولود في مثل هذا اليوم من عام 1928 بالجيزة، العمل بالصحافة فور تخرجه في أربعينات القرن الماضي، وكأغلب حديثي التخرج منذ بدأت الصحافة الاحترافية حتى الآن، بدأ يكتب في بعض الصحف والمجلات الصغيرة، ثُم انتقل للعمل في مجلة "الكشكول" التي كان يُصدرها الراحل مأمون الشناوي، وظل واحدًا من كُتّابها حتى تم إغلاقها؛ هكذا اضطر الشاب الموهوب للعودة إلى العمل كصحفي بالقطعة في جريدة "المصري"، والتي كانت تُمثّل لسان حال حزب الوفد في ذلك الوقت، وعمل في "دار الهلال"؛ ثم لم يلبث أن أصدر مجلة هزلية بالتعاون مع رسام الكاريكاتير الشهير طوغان، ولكن جرعة السخرية العالية التي كانا يضعاها في الكتابة والرسوم كانت أقوى مما يتحمله القصر الملكي وسلطات الاحتلال الإنجليزي، لذلك تم إغلاقها بعد إصدار أعداد قليلة، وظل على هذا الحال حتى قيام ثورة يوليو 1952. 


ابن يوليو 

أيّد السعدني حركة الضباط الأحرار منذ قيامها، والتي كانت تصفها الصحف في البداية بـ"حركة الجيش المُباركة"، ثم عادت لتصفها بـ"ثورة يوليو"؛ وانتقل للعمل صحفيًا في جريدة الجمهورية، التي أصدرها مجلس قيادة الثورة، وعهد أعضاء المجلس إلى زميلهم أنور السادات، الذي كانت له تجربة صحفية بدوره وقت خروجه من الجيش، برئاسة تحريرها لتكون لسان حال الثورة؛ واستمر السعدني في العمل فيها حتى بعد رحيل السادات الذي انتقل لتولي رئاسة البرلمان، بينما تولي كامل الشناوي مسؤولية تحرير الجريدة؛ ولكن سُرعان ما تم الاستغناء عن خدمات السعدني مع العديد من زملائه منهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي. 

لم يأبه السعدني كثيرًا بتلك العثرة المهنية، كان دائما يعتمد على أسلوبه الساخر، وكان يقول "خفة الدم لا أحد يختارها، لكن ممكن تعمدها ومن تعمدها نهار أبوه أسود ويروح في ستين داهية، لأنها موهبة من عند الله، وأنا لا أتعمد شيئًا، وسلوكي في الحياة واحد، وأترك الحكم للناس"؛ لذلك انتقل للعمل مُديرًا لتحرير مجلة روز اليوسف الأسبوعية إبان تولي الراحل إحسان عبد القدوس رئاسة التحرير، وكانت لا تزال حينها مملوكة للسيدة فاطمة اليوسف والدة إحسان، قبل أن يتم تأميمها فيما بعد. 

ورغم تأييده للثورة، لكن علاقة السعدني بدأت تسوء تدريجيًا مع نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إبان زيارة عمل له إلى سوريا قبيل الوحدة بين البلدين، فعندما كان هناك طلب منه أعضاء في الحزب الشيوعي السوري توصيل رسالة مُغلقة للرئيس عبد الناصر، وعند عودته قام بتسليمها إلى السادات دون أن يعلم محتواها؛ وكانت الرسالة تحتوي تهديدًا لعبد الناصر، فتم إلقاء القبض عليه وإلقاؤه في السجن عامين تقريبًا، وبعد الإفراج عاد للعمل في روز اليوسف التي خضعت للتأميم، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير؛ وانضم إلى التنظيم الطليعي والذي كان هو التنظيم السياسي الوحيد آنذاك، والذي كان له في تلك الفترة نفوذ كبير؛ لكن السعدني في العموم كان له رأيًا في من يتولون السلطة، عبّر عنه بقوله "نحن لا نحب حكامنا ولا نختارهم، ولكنهم يحطون على رءوسنا كما المصيبة، وينزلون بنا كما الكارثة، ويجلسون في الكراسى كما المآسى، ولا فكاك منهم إلا بعمك المنقذ عزرائيل".  


سجين السادات 

بعد وفاة الرئيس عبدالناصر في سبتمبر 1970، شهدت البلاد صراع السلطة الشهير بين الرئيس السادات وعدد من مسئولي النظام، والذي انتهى باستقالة هؤلاء واعتقال الرئيس الجديد لهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب، وهو ما أبرزته عناوين الصحف في تلك الفترة فيما عُرف بثورة التصحيح في مايو 1971، ولحظه العاثر المعتاد، كان اسم السعدني ضمن القائمة التي تم اعتقالها، وتمت محاكمته أمام محكمة الثورة التي أدانته وحكمت بسجنه؛ وفي تلك الفترة حاول الرئيس الليبي السابق معمر القذافي التوسط له عند الرئيس السادات، إلا أن السادات رفض قائلًا أن السعدني قد أطلق النكات عليه وعلى أهل بيته "ويجب أن يتم تأديبه ولكني لن أفرط في عقابه"، ليقضي الساخر الكبير عامين آخرين في السجن حتى تم الإفراج عنه بقرار من الرئيس، الذي أصدر كذلك قرار جمهوري بفصله من عمله في مجلة صباح الخير، ومنعه من الكتابة، ومنع ظهور اسمه في أية جريدة مصرية "حتى في صفحة الوفيات"، عندها قرر السعدني مغادرة مصر والبحث عن عمل في الخارج.  


الخروج 

كانت أولى محطات الساخر الخارج من سجون السادات في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث استطاع السعدني الحصول على عمل بصعوبة في جريدة السفير؛ بل وقَبِل أن يتقاضى أجرًا يقل عن راتب الصحفي المبتدئ بسبب أن أصحاب الصحف اللبنانية كانوا يخشون غضب الرئيس السادات، لكنه سُرعان ما غادر العاصمة اللبنانية قبل اندلاع الحرب الأهلية، وكانت واحدة من المرات القليلة التي لا يقوده حظه إلى التورط في مأساة كهذه، لكنه توجه إلى ليبيا للقاء الرئيس القذافي، والذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت، لكنه رفض ذلك خوفًا من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين، والذين سيرفضون تواجده الذي يُشّكل تهديدًا لتجارتهم؛ ورغم تلك الفرصة الكبيرة ماديًا إلا أن السعدني لم يستطع أن يكبح لجام لسانه، وتحدث بسخرية كعادته، وبدون قصد، عن جريدة القذافي الأثيرة "الفجر الجديد" عندما عرض عليه القذافي الكتابة فيها، واصفًا إياها بالـ"الفقر الجديد"، عندها لم يُبد القذافي حماسًا كبيرًا لإصدار مجلة "23 يوليو" التي اقترح السعدني إصدارها في العاصمة البريطانية لندن، بل وسخر من فكرة إصدارها هناك، وكذلك لم يرق له إصدار مجلة ساخرة؛ لينتهي اللقاء الذي سافر السعدني بعده إلى أبو ظبي عام 1976. يقول السعدني عن تجربة الخروج: "نحن في الواقع لا نخرج من بلادنا ونعيش في الخارج، ولكننا نهاجر إلى الخارج ونعيش في بلادنا، نطبخ طعامنا الذي تعودنا عليه، ونتحدث في نفس المواضيع الخاصة ببلادنا". هكذا كانت مصر هي همه الأول، رغم قبوله العرض الذي تقدم به عبيد المزروعي بديلًا عن العمل مسؤولًا بالمسرح المدرسي الإماراتي، وهو إدارة تحرير جريدة "الفجر" الإماراتية، والذي كان بدوره مقامرة سياسية جازف بها المزروعي، خاصة أن السعدني وضع شروطًا مهنية قاسية كان أهمها عدم التدخل في عمله، وهو الشرط الذي تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد الجريدة من الأسواق بسبب عنوان أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي؛ وكانت إيران في ذلك الوقت تطالب بالإمارات مُعتبر إياها من ملحقيات إيران، ولم تنسى السفارة الإيرانية للسعدني الشعار الذي وضعه للجريدة "جريدة الفجر.. جريدة العرب في الخليج العربي" ليطلب مسؤوليها صراحة حذف صفة العربي عن الخليج لأنه "خليج فارس" حسب قولهم. في تلك الفترة أيضًا تعاقد السعدني مع منير عامر الصحفي بمجلة صباح الخير ليتولى وظيفة سكرتير التحرير، فأدخلا إلى صحافة الإمارات مدرسة روزاليوسف الصحفية بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية، والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار، ومع الوقت ازدادت الضغوط الإيرانية على حكومة الإمارت، ليضطر السعدني مرة أخرى إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت، حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحفي أحمد الجار الله، وعادت الضغوط تلاحقه هناك أيضًا، فغادر إلى العراق ليواجه ضغوط جديدة بشكل مختلف، عن طريق ممارسات الموظفين العراقيين العاملين في شئون مصر بالمخابرات العراقية، والذين مارسوا ضغوطًا كبيرة عليه لإخضاعه، فكان قراره بعد لقاء مع صدام حسين، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس العراقي في تلك الفترة، بمغادرة العراق إلى لندن. 

رغم كل هذا كان يقول: "رغم الظلام الذي اكتنف حياتي، ورغم البؤس الذي كان دليلي وخليلي، إلا أنني لست آسفًا على شيء، فلقد كانت تلك الأيام هي حياتي، ومن عين تلك الأيام، ومن رحيق تلك الليالي خرج إلى الوجود ذلك الشيء الذي هو أنا". 

بعد وصوله إلى عاصمة الضباب، عادت فكرة مجلة 23 يوليو تلح مرة أخرى على ذهن السعدني؛ ولكنه هذه المرة استطاع تنفيذها بتمويل غير مُعلن من حاكم الشارقة، بالاشتراك مع محمود نور الدين ضابط المخابرات المصري السابق الذي انشق على الرئيس السادات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وتعاون فيها مع فهمي حسين مدير تحرير روز اليوسف الأسبق ورئيس تحرير وكالة الأنباء الفلسطينية، وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين، وكانت أول مجلة عربية تصدر هناك، وحققت نجاحًا كبيرًا في الوطن العربي، وكان يتم تهريبها إلى مصر سرًا، والتزمت المجلة بالأفكار الناصرية.  

كان السعدني يتوقع أن تلقى المجلة دعمًا من الأنظمة العربية ولكن ذلك لم يحدث، بل تمت مُحاصرتها ماليًا من أنظمة العراق وليبيا وسوريا، حتى أنه سخر من ذلك قائلًا "كان يجب على أن أرفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم". لذلك سرعان ما توقفت المجلة، ولكن السعدني بقى هذه المرة في لندن ولم يُغادرها، حتى تم اغتيال الرئيس أنور السادات في حادث المنصة الشهير؛ عندها عاد إلى مصر، واستقبله الرئيس الجديد حسني مبارك في القصر الجمهوري، ليطوي بذلك صفحة طويلة من الخلاف مع النظام؛ وظل بالقاهرة حتى رحل عن عالمنا في مايو 2010 عن عمر ناهز الثانية والثمانين عامًا إثر أزمة قلبية حادة.

    الاكثر قراءة