من غنى قبل الآخر "أحبه مهما أشوف منه".. فيروز أم عبد الوهاب؟
فيروز ترفض غناء "ضي القناديل" وعبد الحليم يوافق
هل نصب الأخوان رحباني شركا للأستاذ في مهرجان الأرز؟
عبد الوهاب يعمل كورس خلف فيروز في سهار
عبد الوهاب ومنصور رحباني يتشاركان في تأليف مذهب "حي على الفلاح"
أربعة أعمال في عام واحد أعقبها قطيعة مع صوت فيروز
سر قصيدة الأخطل الصغير التي لحنها عبد الوهاب لفيروز لم تخرج إلى النور
عبد الوهاب لحن قصيدة نزار قباني "كلمات " لفيروز قبل ماجدة الرومي
منذ طفولتهم جميعا وقع الثلاثة فيروز وعاصي ومنصور في عشق فن محمد عبد الوهاب هي كانت تستمع إليه من راديو الجيران وهما من خلال فونوغراف والدهما في فوار انطلياس، كان عبد الوهاب امتدادا لمشروع سيد درويش الموسيقي وتلميذه النجيب وترك فن كليهما –درويش وعبد الوهاب - أثرا كبيرا في نتاج الاخوين رحباني الفني وأثمر تعاونهما مع عبد الوهاب فيما بعد في تقديم عشر أغنيات ومقطوعة موسيقية.
إنه الموسيقار المصري الوحيد الذي سمح له الأخوان رحباني بالتلحين لصوت فيروز أعترافا منهما بأستاذيته في الوقت الذي أبعدا فيه صوت فيروز عن ألحان بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل وآخرين، سعيا إلى محمد عبد الوهاب ليضع ألحانا لفيروز وقبل أن يحدث ذلك عبرت فيروز بطريقتها والأخوان رحباني بطريقتهما عن إعجابهم وتقديرهم لفن محمد عبد الوهاب.
غنت فيروز في بدايتها وقبل أن تلتقي بالأخوين رحباني حوالي عام 1950 أغنية "أحبك مهما أشوف منك ومهما الناس تقول عنك" من كلمات فتحي قورة وألحان حليم الرومي التي يعتقد كثر بأنها وضعت محاكاة لأغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة "أحبه مهما أشوف منه" غير أن العكس هو الصحيح وهذه قصة مدهشة نوعا ما نشرتها مجلة الشبكة في العدد رقم 1220 بتاريخ 23 يوليو 1979 على لسان ملحن الأغنية حليم الرومي الذي أكد أنه قدم لحنه أولا وقبل عامين من تقديم محمد عبد الوهاب لأغنية "أحبه مهما اشوف منه" من كلمات الشاعر حسين السيد في فيلم " رصاصة في القلب" للمخرج محمد كريم عام 1944.
يقول الرومي "في عام 1942 لحنت أغنية من كلمات فتحي قورة مطلعها يقول "أحبك مهما أشوف منك ومهما الناس تقول عنك" غنتها مطربة ناشئة وقتها اسمها روز عوض في محطة "الشرق الأدني" للإذاعة العربية والأغنية من نغم البياتي أعجبت بها المطربة المرحومة ماري جبران فطلبت السماح لها بإنشادها وغنتها عام 1944 في إذاعة الشرق الأدني، ثم في مسارح دمشق، وفي عام 1950 وبعد اكتشافي لفيروز أعطيتها اللحن وغنته وسجلته على أسطوانة وجهها الأول يحمل لحن "أحبك " والثاني "ياحمام يامروح بلدك" من شعر فتحي قورة أيضا لصالح شركة بيضا عام 1952 تقاضت عنها فيروز مائة ليرة لبنانية، هي الأسطوانة الأولى لفيروز في عالم الغناء "انتهى كلام الموسيقار حليم الرومي".
جفنه علم الغزل أغنية وذكرى
بعد نحو عامين قدم الثالوث فيروز وعاصي ومنصور تحية الي محمد عبد الوهاب من خلال أغنية "جفنه علم الغزل" تحية منهم للأغنية البديعة التي قدمها عبد الوهاب عام 1933 في فيلم "الوردة البيضاء" من شعر الأخطل الصغير، غناها عبد الوهاب على إيقاع الرومبا بينما غنتها فيروز على إيقاع البوليرو، تقول كلمات الأغنية التي كتبها ولحنها الأخوان رحباني وبالكاد تتجاوز الدقيقتان: "جفنه علّم الغزل / أغنية وذكرى تملأ قلبي سحرا / وتنثر الألوان / جفنه علّم الغزل / أنشودة هنية ونفحة شجية / من عهدنا الريّان /غنيتها لحبيبي في روعة اللقاء/ غنــيتها لحبيبي فهّزه الغـــناء /جفنه علّم الغزل / نداء عمر لاهي وطيب حب زاهي / في نعيم من الأمل".
كان هذا قبل أن يتعرف الأخوان رحباني إلى محمد عبد الوهاب عرفهما عليه المحامي والشاعر عبد الله الخوري نجل الأخطل الصغير وزوج شقيقتهما سلوى، وعبد الله هو من عرفهما أيضا على سعيد عقل وعبد الوهاب وغيرهم من الكبار ممن ارتبطوا بصداقة مع والده الشاعر بشارة الخوري.
يقول منصور الرحباني عن ذلك التعارف في كتاب "طريق النحل" للشاعر هنري زغيب: "كنا سعداء حين جاء صهرنا عبدالله الخوري يود تعرفينا إلى عبدالوهاب.
كان اللقاء الأول معه في فندق "عالية" الكبير، لم يكن يعرف أعمالنا فأسمعناه بعضها، بدا فوراً شديد الإعجاب والتقط منها المعالم التي قالت جديداً، خرجنا من تلك الجلسة الأولى شاعرين أننا بتنا صديقين له، بعد ذاك، توالت الزيارات المتبادلة بيننا وبينه، كنا كلما ذهبنا الى مصر يستضيفنا في منزله، وكلما وصل إلى بيروت بالباخرة إجمالاً لانه يخاف ركوب الطائرة، وهي عادة أخذها على الأرجح من أحمد شوقي كان يتصل بنا مستفسراً بلهفة عن جديدنا الفني يريد سماعه، فنجتمع وندعوه إلى بيوتنا ومكتبنا.
وغير مرة قال لنا، في حضور جمع من الصحافيين والفنانين: "من دون عاصي ومنصور، ما كان أمكن الفن اللبناني أن يكون بالمستوى الذي هو عليه".
في عام 1961 اقترح عاصي ومنصور على عبد الوهاب إعادة تسجيل عملين قديمين له بتوزيع جديد لهما وغناء فيروز وذلك بعد أن أبدى إعجابه الشديد بتوزيعهما لأعمال سيد درويش التي غنتها فيروز "زروني كل سنة مرة" و"الحلوة دي " و"طلعت يامحلا نورها "، وهكذا خرج الي النور عملين من تلك الاعمال التي أحبها الولدين عاصي ومنصور عندما استمعا اليها من فونوغراف والدهما وهما : "خايف أقول اللي في قلبي" للشاعر احمد عبد المجيد و"ياجارة الوادي " لأمير الشعراء أحمد شوقي ،وقد غنت فيروز بيت شعر من القصيدة كان لحنه عبد الوهاب في العشرينات وعند تسجيل القصيدة إكتشف انه لابد له من اختصار مدتها لتلائم السعه الزمنية للاسطوانة الماستر التي كان يسجل عليها فتم استبعاد البيت الذي تم اعادته للقصيدة عند تسجيل فيروز لها وهو :" ضحكت الي وجوهها وعيونها ووجدت في أنفاسها رياك ".
وأعلن وقتها أيضا أن فيروز ستغني أغنيتي "مريت على بيت الحبايب" و"جفنه علم الغزل" من قديم محمد عبد الوهاب بتوزيع جديد للأخوين رحباني لكن الفكرة لم تأخذ حيز التنفيذ للأسف .
صاغ عبد الوهاب لحنا جديدا لفيروز من كلمات الاخوين رحباني " إسهار بعد إسهار" أجوا ئه ليست بعيده عن اللون الرحباني ، خلال تسجيل الأغنية وقف عبد الوهاب يردد خلف فيروز مع الكورس الي كان يضم أيضا شقيقتها هدى ، عبد الوهاب الحريص على نجاح عمله لا يتواني عن القيام بدور الكورس في سبيل ذلك .
وقعت فيروز والأخوان رحباني اتفاقا على ان تكون الاغنيات الثلاث من إنتاج شركتة "صوت الفن" التي يمتكلها عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ومجدي العمروسي.
كتب الناقد الموسيقي إلياس سحاب حول هذا التعاون الوهابي الفيروزي في كتابة "الموسيقا العربية في القرن العشرين " يقول :" فإذا وصلنا أخيرًا إلى تجربة صوت فيروز مع عبقري القرن العشرين في الموسيقى العربية محمد عبدالوهاب، فإننا نحمد الله أنها بلغت ثلاثة ألحان، اقتنصتها من عبقرية عبدالوهاب في عز تألقها في عقد الستينيات، عندما اعتزل الغناء، وتفرغ لتوزيع نتاج عبقريته الموسيقية على أهم وأجمل الحناجر العربية النسائية والرجالية، في لحنه الأول لفيروز "سهار بعد سهار" مارس عبدالوهاب تجربة فريدة معها، فصاغ لها لحنًا يتجاور فيه الأسلوب الرحباني، مع الأسلوب الوهابي، استنادًا إلى تجربة اللحن الرحباني الشهير " نحنا والقمر جيران"
ضي القناديل بين فيروز وحليم
وكان مقررا أن تسجل فيروز لحنا جديدا لعبد الوهاب مع الاغنيات الثلاث هو "ضي القناديل" غير أنها اعترضت على غنائها في سابقة فريدة من نوعها في مسيرة الفنانة الكبيرة خصوصا وأن عاصي زوجها هو الذي كتب النص وبالتأكيد عاصي يعرف جيدا ما يلق بفيروز ، لقد كان إعتراضها حسب ما نشر الصحفي الراجل جورج ابراهيم الخوري رئيس تحرير مجلة "الشبكة" وأحد الاصدقاء المقربين للاسرة الرحبانية ، حسب ماورد في كتابه "حكايتي مع عبد الوهاب" أن فيروز اعترضت على تقديمها رغم اعجابها الكبير بلحن الموسيقار:" قالت فيروز انها بعدما راجعت كلمات الاغنية وجدت انها لاتتفق والشخصية المحترمة التي رسمتها لنفسها في اغانيها أن شارع الضباب وضو القناديل والمصابيح الملونة والارصفة السوداء والمواعيد الجميلة انما هي أجواء بنت ليل اذا صح التعبير لذلك ترى ان انسحابها من هذه الاغنية أضمن لكرامتها " .
وحاول عبد الوهاب إثناء فيروز بالتراجع عن قرارها بقوله لها: "أن زعمك بان جوا الاغنية لا يليق بشخصيتك فاسمحي لي ان ارد بالقول ان المطربة الحقيقة هي التي تمثل الاغنية ولا تعيش فصول حكايتها وقد غنت ام كلثوم قصائد مضمخة بالعشق والوله والاشتياق ولم يتهمها احد بانها هي حكاية الاغنية، والكثيرات من المطربات يقبن ما لايفعلن بل يصورن ببراعة الصوت مايريد الشاعر ان يقوله والشاعر في "شارع الضباب " هو زوجك عاصي الرحباني".
غير أن فيروز تمسكت برأيها ،وفي القاهرة أسمع عبد الوهاب الاغنية لعبد الحليم حافظ الذي ابدي رغبته في غنائها وبالفعل سجلت الاغنية في صيغتها النهائية عام 1963 وبعد تمصير النص الغنائي في بيروت تحت اشراف الاخوين رحباني وتوزيعهما . وكان النص الاصلي للأغنية يقول باللهجة اللبنانية كما نشرة جورج الخوري:"
ضو القناديل بالشارع الطويل /فكرني يا حبيبي بالموعد الجميل / بليالي سهرناها وسهروا القناديل / يا شارع الضباب شو مشيتك أنا / مرة بالعذاب ومرة بالهنا / تعباني بحبي اسأل على دربي / بفراغ الليل، وبطريقو قلبي / وضو الفناديل وتحت المصابيح، ضايع وجريح / أخو ما إلو ويا لفتة سريعة من العين الوجيعة / تلف الشبابيك والسما الوسيعة وضو القناديل".
هناك رأي آخر يقول أن لحن عبد الوهاب للأغنية لم يعجب عاصي الرحباني لذلك اختلق هذه القصة ليبعد اللحن عن حنجرة فيروز، فعاصي هو من كتب كلمات الأغنية وهو أدرى شخص في العالم بالأجواء الفنية التي تليق بفيروز فهو أصلا من إخترع تلك الأجواء، على كل حال عرض عبد الوهاب اللحن على عبد الحليم حافظ ووافق حليم على غنائه بعد قيام الأخوين رحباني بتمصير كلمات الأغنية ووزع اللحن الأخوان رحباني وسجل في بيروت في ستديو بعلبك ،في مطلع عام 1963 تحت إشرافهما وقيادتهما للفرقة الموسيقية وبمشاركة كورس الفرقة الشعبية اللبنانية.
لم تتأثر علاقة عبد الوهاب بالأخوين رحباني ولا بفيروز بسبب الموقف ففي العام التالي 1964 طلب عبد الوهاب من الاخوين توزيع أغنية "سنة حلوة ياجميل" التي لحنها لصباح من كلمات الشاعر اللبناني محمد على فتوح لتغنيها في فيلم "فاتنة الجماهير" للمخرج محمد سلمان ، ويتداول عشاق عبد الوهاب عبر شبكة الانترنت تسجيلا نادرا له مقتنص من تسجيلات الاذاعة المصرية يؤدي الاغنية على العود كشريط تحفيظ للمطربة وللموزعين يحذرهما فيه من التشديد على كلمة "يو" بالانجليزية في قول صباح :"ياحياتي أي لاف يو ماتقولي أي لاف يو" ، لان الرقابة في مصر قد تمنع الاغنية في الاذاعة المصرية بسبب ذلك وهو يؤكد لهما "صدقوني انا عارف كويس ازاي بيفكروا "، في تلميح منه لما حدث له مع أغنية صباح " من سحر عيونك ياه" التي منعتها الاذاعة المصرية بسبب طريقة غناء صباح لكلمة "ياااه" .
أربعة أغنيات في عام واحد
طوال عقد الستينات من القرن الماضي كان عبد الوهاب يصطاف سنويا في لبنان وظل على عادته حتى منتصف السبعينات تقريبا وقبل نشوب الحرب الاهلية اللبنانية ، وكانت افضل جلساته تلك التي كان يمضيها مع الاخوين رحباني في مكتبهما في بدارو في بيروت او في منزل عاصي وفيروز او منزل منصور ، كان شغوفا بسماع جديدهما ومعجبا به وكانا هما مهتمان بأبداء رأيه فيما يقدمان ويسمعانه كل جديد لاخذ مشورته ليستفيدا من خبرته الفريدة حسب تعبير منصور الرحباني .
في صيف عام 1967 كان عبد الوهاب كعادته في بيروت في الوقت الذي نشبت فيه الحرب وحدثت النكسة ، وقطعت السبل بعبد الوهاب بسبب الحرب فلم يتمكن من العودة الي القاهرة كان يريد أن يعبر غنائيا عما يجيش في صدرة ولم يجد في بيروت خيرا منهما عاصي ومنصور طلب عبد الوهاب منهما وضع كلمات لأغنية وطنية ، وشارك عبد الوهاب منصور الرحباني في وضع كلمات مذهب الأغنية التي حملت عنوان "حي على الفلاح" كما يؤكد إلياس سحاب ، وتولي منصور توزيع اللحن موسيقا على غرار توزيعاته الموسيقية في مسرحية "ايام فخر الدين" التي ابدى عبد الوهاب إعجابه الشديد بها ووزع منصور الاغنية من مقام الصبا على الآلات النحاسية كما فعل في "فخر الدين" كأفضل مايكون وسجل عبد الوهاب الأغنية بصوته في ستديو بعلبك في الثامن والعشرين من يوليو في ذلك العام وشارك أعضاء الفرقة الشعبية اللبنانية في القيام بدور الكورس خلف الأستاذ.
في نوفمبر من العام نفسه وضع الأخوان رحباني كلمات أغنية جديدة للأستاذ حملت عنوان "الغد الكبير" أو "سواعد من بلادي" وقام عبد الوهاب بتلحينها ووزعها الاخوين رحباني وسجلها عبد الوهاب بصوته في ستديو بعلبك وبمشاركة نفس الكورس .
كمين لمحمد عبد الوهاب في مهرجان الأرز!
وبين العملين طلبا الأخوان رحباني من الموسيقار الكبير تلحين قصيدتين لفيروز الأولى هي " سكن الليل" من شعر جبران خليل جبران ، قدمتها في مهرجانات الأرز الدولية في السابع عشر من أغسطس ذلك العام 1967، عند تقديم عروض المسرحية الغنائية "هالة والملك" ، والقصيدة الثانية هي "مر بي" من شعر سعيد عقل قدمتها في خريف العام نفسه في معرض دمشق الدولي أيضا عند اعادة تقديم مسرحية "هالة والملك" هناك.
وهما من أجمل ما غنت فيروز ، ورغم الفتور الذي استقبلت به "سكن الليل" بسبب تقديم الاخوين رحباني لعملها الكبير "زهرة المدائن" قبل قصيدة عبد الوهاب في مهرجان الأرز فاستقبلت بحفاوة وحماس شديد من الجمهور ، بالتأكيد لكون القدس كانت قد سقطت في يد الصهاينة قبل أقل من ثلاثة أشهر ،وبدا وكأن عبد الوهاب قد وقع في فخ نصب له .
وينفي منصور الرحباني الأمر برمته إذ يتذكر تلك الواقعة في كتاب "طريق النحل" بقوله :" وهنا أتوقف لأوضح لبساً فاضحاً أوقعتنا فيه الصحافة حينذاك حول "سكن الليل"، حين تهيأ للبعض، خطأ، اننا "شاغبنا" على عبدالوهاب عند صدور "سكن الليل" باصدارنا "زهرة المدائن" ، كنا نهيئ حفلة منوعات لمهرجانات الأرز. وكنا انهينا قبل فترة تسجيل "زهرة المدائن". طلب منى عاصي بنباهته المعتادة ان اسمع عبدالوهاب "زهرة المدائن". فقال بعدما سمعها: "ما فيهاش حاجة جديدة، فيها علم" ، ذهبنا الى الارز فاقتصرت اكثر البروفات على "سكن الليل"، وليلة المهرجان، غنت فيروز " زهرة المدائن" و "وسكن الليل" فتجاوب الجمهور مع "زهرة المدائن" بشكل واضح، ما حدا بالاصدقاء سعيد فريحة وسليم اللوزي وجورج جرداق إلى ان ينتحوا بنا في الاستراحة ويلومونا على هذا "الكمين" الذي نصبناه لعبدالوهاب بوضع "زهرة المدائن" و"سكن الليل" في البرنامج نفسه. وعبثاً حاولنا اقناعهم بأن الاولى موضوعة قبل الاخرى وان عبدالوهاب نفسه استمتع اليها، فلم يقتنعوا" .
غير أن الناقد الياس سحاب له رأي مغاير حول ألحان عبد الوهاب لفيروز ، أورده في كتابه "الموسيقا العربية في القرن العشرين" حيث يقول :
"إن مَن يستمع بإمعان إلى هذين اللحنين الأخيرين "سكن الليل" و"مربي"، يشعر كأن حنجرة فيروز المليئة بالجواهر، قد وضعت أخيرًا بين يدي أمهر صاغة الموسيقى العربية في القرن العشرين، فاستخرج منها أجمل ما في أعماقها من أحاسيس، وأجمل ما في حنجرتها وأدائها من حلاوة وعذوبة وشفافية، ثم طعّم كل ذلك بخلاصة حساسيات الأسلوب الوهابي في الغناء، الذي يبدو بكل وضوح في حنجرة فيروز، خاصة في لحن "مرّ بي" ، إن الإصغاء إلى عُرب عبدالوهاب الظاهرة - الخفية، في مقدمة القصيدة بالذات، ثم في بقية مقاطعها، ثم الوصول إلى البيت الأخير في القصيدة عند عبارة إن تعد لي ، يصاب بموجات متلاحقة من قشعريرة المتعة الفنية الرفيعة، ويكتشف أن عبدالوهاب قد استخرج من حنجرة فيروز، في عبارة إن تعد لي ، من خلال صياغته اللحنية، ثم من خلال تدريباته الغنائية في تحفيظ اللحن، أجمل انتقال ربما في رصيد فيروز الغنائي بين طبقاتها الصوتية المنخفضة وتلك المرتفعة، خاصة عند كلمة بحساسية مذهلة، قبل انفجار القفلة الرائعة لحنا وأداء، عند عبارة أشعلت بردى ، لقد وصلت قدرة عبد الوهاب الملحن على استعراض كل ما في اعماق حنجرة فيروز واحساسها ووجدانها الفني من جماليات معتقة ومخمرة ذروة ما عاد يمكن بعدها لحساسيات التوازنات الفنية الشبيهه بالتوازنات السياسية أن تسمح باستمرار تدفق ألحان عبد الوهاب من خلال حنجرة فيروز " .
وبالفعل ما قاله الياس سحاب هو ماحدث فعلا على أرض الواقع فقد حجب صوت فيروز بعدها عن الحان الموسيقار الكبير رغم تواجده كل صيف في لبنان وكان بإمكان محمد عبد الوهاب لو أراد الرحبانيان أن يقدم كما فيلمون وهبي لحنا واحدا في كل عام لفيروز ، لقد سئل عبد الوهاب عن اسباب توقفه عن التلحين لفيروز بعدها بعدة اعوام وفي بيروت فأجاب: "إن فيروز مطربة عزيزة على قلبي واتمنى لو تتكاثر اللقاءات بيننا ولكن الاخوين رحباني يتدخلان فيما اقدم وهذا شئ لا اقبله ، ان الاخوين رحباني في تعاونهما مع اي ملحن لاينسيان واقعهما فيتدخلان في كل صغيرة وكبيرة ويحاولان فرض رأيهما ولكن تدخلهما يبرك العمل في بعض الاحيان فمن ناحية بدء التعامل فانهما يشترطان على ان تكون كلمات الأغنية من تأليفهما او على الاقل ان يوافقا عليها وان يشرفا بنفسيهما على التوزيع الموسيقي وهما ماهران في هذا الحقل بارعان ولو ان المسألة تتوقف عند هذا الحد لهان الأمر ولكنهما من خلال متابعتهما للاغنية وهي في طور التكوين الموسيقي يحدث أن يتدخلا في اللحن وينتقدانه اذا لم ترقهما بعض الجمل الموسيقية ان الرحبانيين اذا ماغنت فيروز من الحان سواهما من الملحنين يشعران بخطر يقدمان عليه وهذا هو الشعور بالمسؤلية الي حد ما فهما متفوقان في اعمالهما ولهما لونهما الخاص لذلك يخشيان على فيروز من خلال تعاونها مع احد غيرهما ان تخرج عن شخصيتها الغنائية المعروفة وبطبيعة الحال فان هذا الخوف يتعب الملحن الآخر الذي يصوغ اللحن لها ويضايقه ". المصدر كتاب "فيروز المطربة والمشوار" للمؤلف رياض جركس .
في الوقت الذي توقفت فيه الحان عبد الوهاب نحو صوت فيروز إستمرت بالتدفق نحو صوت صباح ووديع الصافي فلحن لصباح "عالضيعة" و"جاري أنا جاري" و"كرم الهوى" وفي مطلع السبعينات قدم لوديع الصافي "عندك بحرية" ولصباح مجددا "كل مابشوفك" ،
لم ينقطع حبل الوداد مابين عبد الوهاب وعاصي ومنصور فبعد فترة قصيرة استأذنا عبد الوهاب في إعادة توزيع قطعة موسيقية في أغنية "أمل حياتي " وهي تلك التي تسبق غناء أم كلثوم لكوبليه "ياحبيبي مهما طال عمري معاك برضه أيامه قليلة" وزعاها ووضع كلاما جديدا على اللحن من تأليفهما يقول "عدى القمر بات عندنا القمر عندنا ياقمر" وسميت القطعة "عدى القمر" وسجل الغناء بصوت عضوات الفرقة الشعبية اللبنانية ويبدو جليا من بينهن صوت هدى حداد شقيقة فيروز .
وأخيرا في عام 1979 عاد الأخوان رحباني الي قديم محمد عبد الوهاب الذي هو جزء أصيل من ذاكرتهما الطفولية فأعادا توزيع أغنية تعود الي عشرينات القرن الماضي "ليلة الوداع" وسجلاها بصوت المطرب ملحم بركات ورونزا ضمن برنامج "ساعة وغنية" .
قصيدة الأخطل الصغير المجهولة التي لحنها عبد الوهاب
لم يتوقف الأمر فيما يتعلق بتعاون عبد الوهاب مع فيروز والأخوان رحباني على مانفذ فقط وسجل من تلك المشاريع الفنية فهناك قصيدتين شرع في تلحينهما لصوت فيروز بترشيح من الأخوين رحباني ، الأولى كانت قصيدة "كلمات " للشاعر نزار قباني ، وكشف الباحث الدكتور محمود زيباوي من خلال أرشيفه الصحفي ، أن عبد الوهاب بدء في تلحين القصيدة في لبنان في عام 1961 وذلك بعد تسجيل أغانيه الثلاث لفيروز "سهار " و"خايف " و"جارة الوادي" ، لكن على مايبدو لم يكمل عبد الوهاب اللحن وتركه جانبا رغم تفرغه لتلحين القصيدة أسبوعين كاملين أمضاهما في بيت صديق له في أعلى الجبل يطل على الوادي ، وكانت قصيدة "ايظن" التي لحنها عبد الوهاب لنجاة الصغيرة من شعر نزار قباني عام 1960 حققت شعبية جارفة ،وفي العام التالي الذي بدأ فيه عبد الوهاب تلحين قصيدة "كلمات " ، سجلت فيروز قصيدة نزار قباني " لا تسألوني ما إسمه حبيبي" من ألحان الأخوين رحباني.
أهملت قصيدة "كلمات" لسنوات طوال حتى أعاد تلحينها الفنان اللبناني إحسن المنذر لصوت ماجدة الرومي عام 1989 وصدرت في ألبوم حمل إسم القصيدة نفسها .
تحت عنوان "فيروز هل تنشد قصيدة طويلة من ألحان محمد عبد الوهاب " نشرت مجلة "الشبكة " في عددها الصادر بتاريخ الرابع والعشرين من مايو 1965 خبرا جاء فيه :" بين يدي الموسيقار محمد عبد الوهاب اليوم ديوان الأخطل الصغير ليختار منه قصيدة تنشدها مطربتنا الكبيرة فيروز ،وقد تتبلور فكرة اللحن الوهابي المرتقب ، فيطول إلي ساعة غناء ، تخرج بعده فيروز بقصيدة كبري يضج لها الشرق ، كما ضح ل إنت عمري وإنت الحب".
غير أن اللحن الوهابي المطول المرتقب لم يخرج إلي النور ولم تنشده فيروز وفي عام 1981 وبينما كان منصور الرحباني ينقل محتويات مكتب الاخوين رحباني من حرج الكفوري في بيروت الي منزله - ولحسن الحظ فعل ذلك قبل أن يتعرض المكتب فيما بعد للاصابة بقذيفة تسببت في إحتراق محتوياته – عثر منصور على النوتة الموسيقية الخاصة بلحن القصيدة التي تحمل إسم "كيف أنسى" وكان الموسيقار الكبير قد إنتهي من تلحين ثلاثة كوبليهات منها ، وحسب رواية الفنان منصور الرحباني لمجلة الشبكة بتاريخ السادس عشر من نوفمبر عام 1981 ، أن الموسيقار الكبير كان قد شرع في تلحين القصيدة في مكتبهما في ذلك العام ، وفي أثاء غنائه لها قام عاصي بتدوين النوتة الموسيقية الخاصة بها خلف عبد الوهاب ، ذلك دون أن يقوم بتدون كلمات القصيدة على النوتة، ولأمر ما أرجئ تنفيذ اللحن وتسجيله ربما لان عبد الوهاب كان ينوي إجراء تعديلات عليه كعادته لكنه نسي بعد ان حفظت نوتته في مكتب الاخوين رحباني ، حتى عثر عليه منصور الذي وقف حائرا أمام النوتة الخالية من النص الشعري وتذكر ان عاصي هو من كتب النوتة خلف عبد الوهاب فاتصل به في الرابية وسأله فجاوبه عاصي بأنه سوف يتذكر الكلمات فور أن يتطلع على النوته وبالفعل حصل ، وقرر الأخوان اعادة القصيدة الي الحياة مجددا لكن بصوت المطرب ملحم بركات لا صوت فيروز التي كانت قد انفصلت عنهما فنيا في عام 1979، وارسلا للاستاذ محمد عبد الوهاب يستأذناه في الأمر ، تقول بعض أبيات القصيدة الفريدة :" كيف أنساك يا خيالات أمسي؟ / ذكريات الصبا وأحلام نفسي / كيف أنسى الأيام صفوا وأنسا / كيف أنسى؟ / مي هلا ذكرت تلك السنينا / بأبي أنت كيف لاتذكرينا / كم نشقنا تقي هناك وقدسا / كيف أنسى؟ أفلا تذكرين ذاك الغديرا / والأفانين حوله والزهورا / والسنونو يحدث الماء همسا / كيف أنسى؟ / أفلا تذكرين عند المغيب يوم وافت سلمى كطير غريب / فأرتنا إذ غابت الشمس شمسا / كيف أنسى ؟".
لكن القصيدة للاسف لم تخرج الي النور بلحن الموسيقار محمد عبد الوهاب لا بصوت ملحم بركات ولا بغيره ، ويقال أن عبد الوهاب وافق على أعادة اللحن إلي الحياة شرط أن تغنيه فيروز ، والمسافات كانت قد بعدت كثيرا بين فيروز والأخوين رحباني فلم يكتب للحن عبد الوهاب الخروج الي النور حتى اليوم ، ونحن نتمنى على أبناء الفنان منصور رحباني ان يتوليا عمليه أحياء القصيدة بصوت السيدة فيروز .
رأي عبد الوهاب في صوت فيروز
لم يتوقف عبد الوهاب عن الاطراء والمديح في صوت فيروز الذي قال عنه ذات مرة :" فيروز صوت يكاد من طهارته أن يفقد آدميته" ، وفي أخرى "لو حاولت فيروز أن تنشذ في الغناء لما أطاعتها أوتار صوتها" ، وفي ثالثة :" فيروز هى سيدة الغناء العربى قصير المقاطع فهى لا تقوى على الصمود أمام الجمهور ساعة أو ساعتين فى وصلة واحدة أو فى أغنية واحدة وصوتها لا يسعفها على هذا حتى لو أرادت ولكن حلاوة صوتها حلاوة مركزة وهى تشدو أغانيها القصيرة الممتدة المفعول فى عقول المستمعين ".
بالاضافة إلى شهادة مهة منه في حق فيروز والاخوين رحباني سجلها في اوراقه الخاصة ، التي جمعها ونشرها في كتاب بعد رحيله الشاعر فاروق جويدة تحت عنوان " عبد الوهاب أرواقة الخاصة جدا" وهي شهادة جديرة بأن تروى، يقول فيها الأستاذ :" عندما أسمع فيروز أشعر فى لحظات بالنغمة التى تغنى بها تشدنى إلى جو النغمة بسرعة لا أحتاج إلى وقت طويل لأتبين من أى نغمة هى تغنى ،وهى لا تحتاج إلى وقت من أجل ان تنطلق وبالتالى تسلطن المستمع ،هذا هو السر فى أنها أقدر المطربات فى تأدية الأغانى القصيرة . لأنها تطربك فى أقصر وقت وتخرج من الأغنية وكأنك استمعت إليها فى ساعات وذلك لأنها أشبعتك فى مدة قصيرة كما تشبعك غيرها فى مدة طويلة،والسبب هو أن فيروز من أول ماغنت ،غنت على آلات ثابتة المقامات ، كالبيانو مثلا ، والبيانو عند الرحبانية لايشارك في ألحانهما على أنه آلى "للسلوهات " أبدا ، إنهم يدخلون البيانو ليثري اللحن دون أن تلمحه أو تتعرف علية ، فهم يكتبون نوتة اللحن الأصلي ويعطونها للبيانست ثم يملأ عازف البيانو اللحن أنتقالات على مقامات اللحن الأصلي صعودا وهبوطا ، بحيث أن المستمع يشعر بأن هناك آلة تثري اللحن من غير أن يدرك ماهي هذه الآلة ، وربما لايدرك الفنان ذلك أيضا ، لأنهم يبعدون البيانو بعدا يحقق الجو الفني من غير أن تتعرف على مصدر عطاء هذا الجو ، فالالات الثابتة خصوصا البيانو ثم الأكورديون ثم الالات الخشبية تصلح عندما يغني معها المطربون والمطربات من الصغر ، فتتعود أصواتهم إخراج المقامات سليمة وصحيحة ، لأن علاقة المقامات بعضها ببعض والآلات الثابتة سليمة ولا تتأثر بمزاج عازف عن عازف ، أو حتى بمزاج عازف بعينه ، ربما يخضع مزاجه في الأوقات المتفرقة التي يعزف فيها ، الا بتغيير لبعض المقامات ، والألات الثابتة أصواتها لاتتغير ، لايرتفع مقام عن مقام أو ينخفض مقام عن مقام ، كذلك الصوت مع التعود المستمر يصبح صوتا سبيما دقيقا ، يدخل النغمة التي يغني منها ، في أذن المستمع في لحظات ، ويوفر عليه وعلى المستمعين الوقت الطويل الذي يقضية في سلطنة نفسه ليطرب المستمعين ".
ولا أجمل من أن نختم بما قاله الفنان منصور الرحباني عن عبد الوهاب :"كانت جلساتنا معه غنية بالمتعة والخبرة. وهو كان ذا شخصية قوية، متأنقاً جداً ومتألقاً جداً وناضجاً جداً وله تجارب عظيمة، وهو الوحيد ذو الفضل الاكبر على الغناء والموسيقى في الشرق، هو الفنان الوحيد الذي لم يصدر عملاً الا شاع، انه سيد تأنيق الجملة الموسيقية واللفظ العربي. كان يعرف ماذا يريد وكيف يريده لأنه ذو اطلاع مذهل".