الإثنين 25 نوفمبر 2024

أخرى

" عن وحيد حامد والست صفية التي تكرهه "

  • 11-12-2020 | 18:52
طباعة

حينما أبصرت الحياة في أواخر ١٩٧٩ كان الكاتب الكبير وحيد حامد يلمع اسمه في سماء الكتابة السينمائية بعد أن لمع اسمه في مجال الكتابة للإذاعة، ليخوض هذا المجال الذي طالما لمعت به أسماء عظيمة أثرت الإبداع المصري وكونت وجدان أجيال في مصر والعالم العربي.

 

من اللحظة الأولى التي ظهر فيها إبداع وحيد حامد السينمائي في فيلمه "طائر الليل الحزين" اتضح لمتابعيه أننا أمام ضمير ينتحل صفة كاتب، وليس فقط كاتب يطلب مجداً في سماء السينما المصرية بحسن الصنعة والقدرة الفنية.. ضمير ينحاز إلى أفكار وقيم ويطلب عبر السينما الانتصار لرؤية ما تشكلت عبر تجاربه في الحياة.. في التوقيت نفسه كانت إحدى قريباتنا صفية الشابة حديثة التخرج في جامعة القاهرة – التي ستكره وحيد حامد فيما بعد - تستعد لدخول مجال العمل عبر جواب القوى العاملة الذي طالما انتظره جيلها وأجيال قبل جيلها لتحقق ذاتها عبر الحصول على وظيفة.

 

كانت صفية شابة جميلة تشبه زبيدة ثروت تعتز بثقافتها المصرية.. قارئة نهمة لإحسان عبد القدوس.. محبة للفنون والآداب ودائمة التردد على صالونات أدبية يتحدث بها أعلام عصرها.. مرة نجيب محفوظ.. ومرة توفيق الحكيم.. تستمع وتفكر وتكوّن رؤية حول الحياة والقيم والأفكار.

 

صفية الآن في نهاية السبعينيات استقبلت جواب التعيين في جامعة القاهرة كاخصائية اجتماعية في إحدى الكليات دورها استقبال الطلاب وتوجيه الإرشاد الاجتماعي لهم وحل مشاكلهم.. مرت السنوات وفوجئت صفية بتيار متشدد يجتاح الجامعات يمسك عناصره بالجنازير ويرتدي شبابه الجلباب القصير ويناصبون الفنون والآداب التي تحبها صفية كل العداء، بل ويتجمهرون لمنع المسرحيات التي يقدمها الطلاب في مسرح الكلية بينما لا يعرف أحد من أين وكيف ظهر هؤلاء !

 

في هذه الأثناء رأى وحيد حامد الخطر وعلم بأننا أمام مرحلة جديدة تختلف فيها مصر كثيراً عن تلك التي عرفها وأن عليه توديعها لصالح مصر جديدة لا تسر !

 

في مطلع الثمانينيات عاد سعيد، أحد أقارب صفية، من عمله بالخليج.. كان يحبها قبل سفره وكان يحب مصر كثيراً.. كان عضواً في منظمة الشباب التي لقنته مبادئ مجتمع الكفاية والعدل وأحلام التصنيع الثقيل وتماثيل الرخام والأوبرا على كل ترعة في ريف مصر.. عاد سعيد من الخليج وقد باعدت السنوات والنكسة بينه وبين ما اعتنقه قبل سفره.. قرر سعيد أن رهان جيله على أفكار الستينيات قد خاب وأن البلد في حاجة إلى عقيدة متماسكة ولا شيء متماسك قدر المشروع الإسلامي المدعوم برخاء الخليج وطفرة النفط.. تزوج سعيد بصفية وكان أول قراراته في حياتهما معاً أن ترتدي الحجاب.. وقد فعلت.

 

في عام ١٩٨٣ كان وحيد حامد على موعد مع فيلم "الغول".. فكرة رفض القهر والظلم بالقول والفعل.. كان العمل إذاعياً باسم "قانون سكسونيا".. والآن أصبح فيلماً يشع بالمبادئ التي يعبر عنها وحيد حامد وضميره.

 

في عام ١٩٨٦ قدم وحيد حامد رائعته "البريء".. فكرة الوطن والوطنية وتسلط الإنسان على الإنسان باسم شعارات غير حقيقية.. كان "البرىء" صرخة ضمير جمعت حول وحيد حامد كل من يرى في الكتابة والإبداع سلاحاً لنصرة الإنسان.

 

استقر سعيد زوج صفية في القاهرة والتحق بالعمل في إحدى شركات توظيف الأموال الإسلامية واستمرت صفية في عملها كاخصائية اجتماعية في الجامعة.. كانت الطالبات الفقيرات يزرنها في مكتبها لطلب إعانة أو عرض مشكلة اجتماعية.. توطدت علاقة طائفة من الطالبات بالست صفية التي طالما سألت طالباتها عن هذا الزي الذي يجمعهن والمسمى "خمار".. كانت تسألهن عن سر ارتداء هذا الزي، فكان الجواب أنه الزي الإسلامي، وقدمن لها كتيباً صغيراً تمت طباعته في إحدى دول الخليج العربي يحذر الفتاة المسلمة من عدم الإلتزام.. لم تعد صفية التي ترشد الطالبات بحكم عملها ودراستها علم الاجتماع.. باتت الطالبات مرشدات لصفية يعلمنها ما جاء في هذا "الكتيب" باعتباره الدين الصافي والأصل النقي للإسلام

 

في عام ١٩٨٩ قدم وحيد حامد فيلم "الدنيا على جناح يمامة".. هذه الدانتيلا البديعة عما جرى للمهندس حسن وتغيرات الزمن من الحلم للسجن وادعاء الجنون هرباً من السجن.. لم يكن فيلماً تجارياً نضحك فيه مع محمود عبد العزيز أو نذوب فيه لعذوبة ميرفت أمين، ولكنه كان صرخة أخرى من صرخات وحيد حامد تقول إننا نتغير وبسرعة أو أننا قد تغيرنا بالفعل.

 

في بداية التسعينيات وقع غزو الكويت وبات من الواضح أن فكرة المشروع العربي باتت من الماضي لتنتعش أفكار أخرى ويذهب الناس نحو أشد الأفكار تشدداً في كل الاتجاهات.. مع الوقت عرفت صفية أن ماضيها بين روايات إحسان عبد القدوس وصالونات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم شيء مما يغضب الله وأنها عاشت حياتها حرام في حرام.. هكذا أخبرنها الطالبات بعد أن اقتنعت بكلامهن فارتدت الخمار هي الأخرى وصارت أختاً من الأخوات.

 

في عام ١٩٩٢ قدم وحيد حامد "الإرهاب والكباب" الذي تضمن أكثر من صرخة من صرخة عبد العظيم عبد الحق في الأوتوبيس ضد جيل صفية وزوجها سعيد وحتى صرخة عادل إمام والجمهور "الكباب الكباب لا نخلي عيشتكوا هباب "

 

ظهر الإرهاب البغيض وانتعشت أفكار سيد قطب التي خرجت من سجون الستينيات لتتحول إلى جماعات لعب بها الخارج ودعمها في سيرك التسعينيات العالمي، وعاشت صفية هذه الفترة تحضر مجالس العلم للأخوات في بيوت مشاهير الفنانات التائبات تسمع من شيوخ هذا الزمان أن فرج فودة زنديق وأن وحيد حامد يكره الإسلام وأن وأن وأن..

 

أذكر جيداً عام ١٩٩٤ الضجة التي أحدثها مسلسل العائلة و الحسرة التي أورثها قلوب المتطرفين في مصر ثم بعدها مباشرة ضربة أخرى حينما ظهر للنورعام ١٩٩٦ فيلم " طيور الظلام" الذي جاء بعد فترة عامت فيها مصر من تفشي الإرهاب كصرخة شجاعة من وحيد حامد .. حدث وقتها أن زارتنا الست صفية بخمارها وملامحها التي لم تعد كملامح زييدة ثروت وكالت السباب للتليفزيون الذي عرض فيلماً كهذا ضد الإسلام والمسلمين وكيف أن وحيد حامد رجل يحارب الإسلام.. فقلت لها وكنت وقتها الصبي اليافع "بس ده فيلم ضد الإرهابيين مش ضد المسلمين!".. يومها كرهتني الست صفية التي تكره وحيد حامد.. وقالت بحسم وغلظة: "عليك أن نختار إما الإسلام أو وحيد حامد".. وبعد كل هذا العمر تذكرتها في ندوة تكريم الأستاذ وحيد حامد في مهرجان القاهرة السينمائي حيث فاض الحب الصادق من جمهور الندوة للأستاذ ومنه لنا.. تذكرت كل أشكال البغض والكراهية التي لقنتني إياها الست صفية تجاه وحيد حامد واتجاهاته في الحياة.. وسألت نفسي أي الخيارين أقرب إلى الإسلام وقيمه؟.. خيار الست صفية أم خيار الأستاذ وحيد حامد بكل القيم التي دافع عنها وجسدها في أعماله؟.. الإجابة محسومة ولا تحتاج لجهد أو عناء.. سعيد لأنني عشت حياتي في حزب وحيد حامد .


    الاكثر قراءة