للنجم فريد شوقي
من منا بلا ذكريات؟ إن كل يوم نعيشه يرفع حصيلتنا من الذكريات الحلوة التي يحلو لنا أن نستعيدها وهذه الأحداث الطريفة استخرجتها من ذاكرتي؟
كنت صبيا يافعا في السادسة عشرة وكنا نقطن حي الحلمية ويقطن إلي جوارنا شيخ تقي ورع ذاع عنه اشتغاله بالفلك وكشف الحجب عن الغيب وكان هذا سببا لأن يبالغ الناس في احترامه ويروون عنه قصصا تصل إلي مرتبة الاساطير في كثير من الأحيان.
وكان للشيخ ولد في مثل سني وكنا أصدقاء وكثيرا ما كنت أراه وقد امسك بكتب والده ليتعلم منها أسرار علم الفلك فقد كان يأمل أن يصبح ذات يوم خليفة لوالده واستعرت منه مرة أحد هذه الكتب وكان يبحث في أسرار «فتح المندل» وكنت أزداد شغفا بالقراءة كلما قرأت صفحات الكتاب ولمست في نفسي شغفا كبيرا بأن أطبق المعلومات التي حصلتها من قراءتي للكتاب.
وحدث في هذه الأثناء أن تعرض حي الحلمية لموجة من سرقات الغسيل من فوق أسطح المنازل وحار رجال البوليس في عشرات البلاغات التي تصلهم عن هذه السرقات ووجدت أنا الفرصة سانحة لأن أطبق ما درسته في الكتاب فذهبت إلي آخر من تعرض للسرقة وكان جارا من جيراننا واستدعيت ابنه الصغير واجلسته أمامي ووضعت علي راحة يده فنجانا للقهوة ملآنا بالزيت ومضيت أتلو بصوت مسموع كلاما حفظته من الكتاب عن ظهر قلب ولم أكن أفهم منه شيئا وفجأة صاح الولد الصغير «بابا... أنا شايف اللي سرقوا الغسيل دا الواد «.....» وذكر اسم اللص فقام الرجل لفوره وذهب إلي قسم البوليس وأتهم الشخص الذي عينه ولده وسارع رجال البوليس فهاجموا الرجل وكان يتمتع بشهرة سيئة لا يحسد عليها واكتشفت كل مسروقات الحي في حوزته وتبين أنه يرأس عصابة لسرقة الغسيل التي روعت الحي.
واشتهرت في الحي بعد هذه الحادثة وأخذ الناس يشيرون إلي كلما سرت في الطريق قائلين إنني شاب وهبني الله بصيرة ثاقبة تكشف أستار الغيب.
وبدأ الناس يقصدونني لاكتشف لهم عن حجب الغيب ولكنني خفت من معاودة التجربة ورفضت كل الاستفسارات التي كانت تنهال علي وظللت علي رفضي رغم الإلحاح المتصل من الجيران ومن اصدقاء والدي إلي أن جاءتني سيدة من الجيران وقالت لي إن ابنتها الوحيدة تقدم لخطبتها شاب من الأثرياء إلا أن سمعته وتصرفاته التي تصل إلي حد الشذوذ في بعض الأحيان لا تشجعانها علي قبوله زوجا لابنتها وطلبت مني أن أخبرها عما إذا كانت ابنتها ستسعد إذا تزوجت هذا الشاب أم لا وأعدت ترديد ما حفظت من الكتاب من الادعية والأذكار ثم صمت فترة أجبتها علي اثرها أن ابنتها ستجد السعادة إذا تزوجت الشاب الثري وتحققت النبوءة بعد أن تم زواج الابنة من الشاب وعاشت في سعادة كاملة وجاءني ذات مرة والد صديق لي كان الحظ يتخلي عنه في الامتحانات دائما رغم أنه كان يتميز بذكاء كبير وكان يقطع العام الدراسي مجتهدا مثابرا علي تحصيل الدروس وطلب مني والد الصديق أن أعرف لماذا يرسب في الامتحانات النهائية؟! وقلت للرجل إن السبب في رسوب ولده المتكرر هو أنه يصاب بحالة من الاضطراب تفقده ذاكرته وتنسيه معلوماته التي قضي العام كله في تحصيلها وأخذ الأب ابنه إلي أحد الأطباء النفسيين ليعالجه وأفلح العلاج وصادف الابن الصديق كل توفيق في امتحاناته المتوالية حتي أتم دراسته للحقوق وأصبح من المحامين البارزين.
لم يكن الأمر يعدو مجرد الهواية ولم أكن اصدق أبدا رغم أن كثيرا من نبوءاتي كانت تتحقق أن أي إنسان يمكن أن يصل إلي الكشف عن الغيب ويقرأ المستقبل كما يقرأ صفحات كتاب مفتوح.
كانت الصدفة لا شك تلعب دورا في توفيقي وأنا الآن استطيع أن أجد أكثر من تعليل لنبوءاتي التي تحققت.
ولكني لم ألبث أن انصرفت عن هذه الهواية واستغرقتني هوايتي للتمثيل كلية فشغلت كل وقتي جميعا.
الكواكب 347- 25 مارس 1958