الأحد 19 مايو 2024

في ذكرى ميلاد مؤسس «دار الهلال»..محمد حسين هيكل باشا يكتب: جرجى زيدان كما عرفته

فن14-12-2020 | 18:01

يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.

تنشر "الهلال اليوم" مقال الدكتور محمد حسين هيكل باشا:

بقلم الدكتور محمد حسين هيكل باشا

لم تكن بينى وبين المغفور له جرجى زيدان صلات معرفة شخصية، ولست أذكر إن كنت قد رأيته مرة أو مرتين. ولعلى لم أره أبداً، ويرجع ذلك إلى ما كان بيننا من فرق كبير فى السن.


ولقد كنت أقرأ رواياته الإسلامية، حينما كنت طالباً بمدرسة الخديوية لا أزال، وحينما كانت دار الكتب المصرية- أو الكتبخانة الخديوية إن شئت- فى بناء متصل بالمدرسة الخديوية، ولم تبرح ذهنى حوادث رواياته (غادة كربلاء) زمنا طويلاً بعد انتقالى إلى دراسة الحقوق وتعلقى بالأدب العربى القديم، ثم تعلقى بعد ذلك بالأدب الإنجليزي.


قد يبدو غريباً أن أعجب بغادة كربلاء وبغيرها من كتب المرحوم جرجى زيدان، ثم لا أسعى لمعرفته والاتصال به. لكن ذلك كان شأنى كل حياتي، لقد كنت من أشد المعجبين بالمرحوم قاسم أمين وكتبه، ومع ذلك لم أره فى حياتى مرة واحدة. وكنت شديد الولع بقراءة ما ينشر عن المغفور له الشيخ محمد عبده ثم لم أتصل به إلا فى بعض دروس حضرتها عليه بالرواق العباسي. ولم تكن بينى وبين المرحوم فتحى زغلول صلة إلا فى الأيام الأخيرة من حياته، وذلك على ما قرأت من كتبه المترجمة والمؤلفة. هذه بعض طبائعى التى فطرنى الله عليها ذكرتها ليفهم القارئ السبب الذى دعانى إلى ألا أتصل بالمرحوم جرجى زيدان على رغم إعجابى أيام كنت فى دراستى الثانوية بالروايات التى كتبها.

ولما سافرت إلى باريس لأتم دراسة الحقوق، وانقضى العام الأول على هذه الدراسة، حرصت على أن أوفر قسطاً من إجازتى الدراسية بإنجلترا. وكنت فى هذه الآونة قد قرأت الجزء الأول من كتاب المرحوم مصطفى صادق الرافعى عن «تاريخ الأدب العربي» وكتبت عنه مقالات نشرتها (الجريدة) لعلها كانت قاسية فى نقد الكتاب قسوة أملاها الشباب وما يتطلع إليه الشباب من حب الكمال. وأننى لفى إنجلترا مقيم فى «بريتون» على شاطئ المانش إذ جاء إلى خطاب من المرحوم جرجى زيدان يذكر لى أنه اطلع على مقالاتى عن كتاب مصطفى صادق الرافعى وأن تقديره لها قد أدى به ليرسل إلى كتابه عن «تاريخ أدب اللغة العربية» لعلى أجد فيه موضعاً للنقد. وقد طلب إلى فى كتابه ذاك أن أكون صريحاً فى نقد مؤلفه كما كنت صريحاً فى نقد مؤلف الرافعي. وأعجبت أنا بهذه الرسالة وتوفرت على قراءة الكتاب وتدوين الملاحظات عليه ثم كتبت عنه عدة مقالات نشرتها (الجريدة) لا أظنها تخلو من عنت هى الأخري، مع هذا كتب جرجى زيدان يشكرنى على هذه المقالات، ويثنى ثناءً خاصاً على صراحتى فيها.

هذان الكتابان من جرجى زيدان يؤلفان كل ما كان بينى وبينه من صلة فى حياتي. أما صلتى بكتبه فأوسع بكثير من هذا. ومن الذين عاشوا أيام نشاط جرجى زيدان لم يتصل بكتبه ومؤلفاته وبمجلة الهلال وما كان يكتبه فيها، ومن منهم لم يأخذه العجب والإعجاب بهذا النشاط الجم الذى لم يفتر يوماً ولم يعتره ملال أو سأم؟ والكتاب أيا كانوا الصحفيون والأدباء والمسرحيون والمؤلفون على اختلاف طوائفهم- ليسوا أقل اغتباطاً بصداقة الناس لمؤلفاتهم ولما يكتبون منهم للروابط الشخصية التى تربط بينهم وبين طائفة قليلة العدد من الناس.

بل إن كثيرين منهم ليزهدون فى معرفة الناس أشد الزهد ويفرون من صحبة الناس فراراً، وليس منهم مع ذلك إلا من يبتسم راضياً مسروراً بأصدقاء كتبه ومؤلفاته وبالمتوفرين على قراءته بل بنقاده الطاعنين عليه. ولست أستطيع أن أحكم أكان جرجى زيدان من هذه الطائفة أم لم يكن. وقد يغلب على الظن بأنه لم يكن منهم لأنه كان صحفياً بحكم نشره مجلة. والصحفى أكثر اتصالاً بالناس من المؤلف شعراً كان تأليفه أو نثراً.

أما وقد ذكرت أنى نقدت مؤلفه عن تاريخ أدب اللغة العربية، فإننى لا أزال أذكر أنه أول من تعرض لهذا التاريخ على طريقة تحاكى طريقة البحث الحديث فى البعد عن التعصب وفى تحرى الحقيقة لذاتها. كان الفرق بين كتابه وكتاب الرافعى أن هذا الأخير كان يعتبر العرب أمة بعثت بها السماء وخلقها الله خلقاً خالصاً ويعتبر اللغة العربية كلها لغة سماوية ليس بين لغات الأرض شيء يضارعها جمالاً وجلالاً وعظمة. وكان يعتبر الشاعر العربى الضارب فى البيداء المتحدث عن محبوبته كلما وقف عند كثيب من كثبان الرمل المثل الأعلى فى الشعر، لا يقاس إليه هوميروس ولا فرچيل ولا دانت ولا جوت ولا شكسبير ولا هوجو.

أما جرجى زيدان فكان متحللا من كل هذه الاعتبارات، وكان ينظر للغة العربية وللأديب العربى نظرة موضوعية ويبحثها على ضوء الطرائق الحديثة. يشك فيما يرى محلا للشك فيه من أدب الجاهليين وغير الجاهليين، ويثبت ما يرى إثباته من أدب هؤلاء وأولئك.


وكان إلى هذا يختلف فى أسلوبه الكتابى عن الرافعى كاختلافهما فى أسلوب التفكير، وكان أسلوب جرجى زيدان أسلوباً صحفياً لا يمتاز بمتانة الديباجة ولا بروعة البيان، وإن كانت فيه بساطة ويسر يجعلانه قريباً من أفهام الناس جميعاً، هذا وذاك- الأسلوب والطريقة- يرسمان لنا صورة من جرجى زيدان الصحفى المؤرخ القصاص. وكم كنت أود لو استطعت أن أتبسط فى تفصيل هذه الصورة. ولكن ما حيلتى وقد بعد العهد بينى وبين ما قرأت لجرجى زيدان وقد قصر وقتى فى هذا الزمان عن أن أجلس إلى مكتبى فأجمع كتبه أمامى لأرجع البصر فيها وأستذكر ما يجمل بالإنسان أن يستذكره فى هذه المناسبة.


حسبي- وذلك شأني- ما قدمت عن جرجى زيدان. وأننى لواثق كل الثقة من أجل أن قراء هذا العدد من الهلال سيجدون فيه صورة كاملة لمنشئ الهلال. وليس يرجع ذلك إلى براعة الكتاب واقتدارهم وكفي، وإنما يرجع كذلك إلى ما فى نفس ابنيه من وفاء لذكراه وبما خلف لهما من آثار هذه الذكري. ولست أذكر هذا لأصف به شيئاً من أمر صاحبى الهلال فى الوقت الحاضر وإنما أذكره آية على عناية هذا الرجل بتنشئة أبنائه كعنايته بتنشئة مجلته ومؤلفاته.


وإذا استطاع إنسان أن ينشئ أبناء صالحين فقد وجب لنا أن نذكر له هذا العمل بالثناء وأن نقدر له فضله فيه. وهو عندى فضل لا يقل جلالاً عن أجل ما يقوم به العظماء من الأعمال. وهو صفة من صفات الخلق. والأب الذى يخلق ابناً أو أبناء صالحين يفيض على الإنسانية أو على أمته أو على أهله من الخير الذى يستوجب الذكر بمقدار ما يفيض من يقوم للإنسانية أو لأمته أو لأهله بغير ذلك من جلائل الأعمال.