يعد جورجي زيدان علامة بارزة في الصحافة المصرية، وهو أحد رواد الصحافة في الوطن العربي، ولد زيدان لأسرة مسيحية فقيرة، في عين عنب في جبل لبنان، عام 1861، كان له 5 اخوة، هم متري، واجيا، إلياس، يوسف وإبراهيم، عانت أسرته من الفقر وظروف صعبة، ربما مكنته لان يكون صامدا أمام عثرات الحياة في مستقبله، واستطاع أن يكون جورجي زيدان الذي لا يجهله أحد اليوم.
تنشر "الهلال اليوم" مقال الأستاذ خليل مطران:
بقلم الأستاذ خليل مطران
عايشت جرجى زيدان وتتبعت سيرته إلى أن أدركته تلك الوفاة
العجيبة فى ساعة كانت ختام عمله اليومى وختام حياته المباركة فاستراح الراحة
السرمدية من جهاده فى هذه الدنيا وطفت على وجهه ابتسامة خيلت إلى كل من رآه أنه لم
يمت فاحتفظ أهله بجثمانه يوما كاملاً ثم غلبت الحقيقة القاسية على الوهم وما زور
وتبين الواقف فى موقف تلك العبرة أن الابتسامة إنما كنت أية ظاهرة للضمير المطمئن
والواجب المؤدى إلى نهايته.
أخلاقه وصفاته
كان جرجى زيدان إنساناً حق الإنسان، ورجلا حق الرجل إذا حدثت
عن خصاله اللازمة لشخصه لم يتسع المجال هنا إلا لذكر أبرزها، فتالله ما عرفت فيه
إلا الصدق مهما تعظم تكاليفه، والوفاء مهما يحل دونه من الصعاب، والبر بذوى رحمه
إلى نهاية ما يقتضيه النصح والسخاء، والنجدة للأصدقاء حتى ليكونوا منه كأدنى
قرابته إليه، وسماحة الفطرة فى معاملة الناس، لا يألوهم إرشادا، ويلتمس المعاذير
لمخطئهم، ويتقر الزلات للمسيئين إليه منهم.
وإلى ذلك كان محتشما مهذباً عف اللسان وديعاً لا يأخذه الزهو،
حيث يزهى أرصن أولى الألباب، وأبصرهم بكنه الأمور.
أما الفضائل التى اتصف بها فيما تصدى له من الخدمة العامة
فأعلاها الابتكار يؤيده فيه ذكاء متوقد وجلد غير منقطع على الكد والكدح وصبر على
المكاره لا تقوى عليه إلا القلوب الكبيرة، وزهد فى المباهج والأباطيل، وتوطين
للنفس على أن السعادة كل السعادة إنما هى فى العمل.
خطته
وآية ذلك الابتكار هى الوجهة التى أولاها شطره من بدء أمره
فقد نبت فى عسر يريد ناحية،والحياة تريد به ناحية أخري، فامتهن ما امتهن للرزق منذ
نعومة أظفاره، ولكنه كان بجانب ذلك يختلس من أوقات منامه وجمامه ليطلب العلم،
وإنما كان يطلب العلم التحقيقى لا الزخرفي، ويرى أن القشور يحسن أن تكون نضيرة
ومزدانة على أن يكون تحتها لباب نافع طيب.
فما زال يصارع الحوادث وتصارعه، حتى بلغ من العرفان ما أبلغه
الطريق الذى توخاه وجنبه الطريق الذى سيرته فيه الضرورات الأولى وعندئذ وجد فى
المفترق بين خطتين: فإما أن يكون كاتبا محض أديب ويسمو لمجاراة آلام النهضة البيانية
فى وقته، وإما أن يكون كاتباً يعنى بالمادة العلمية التى تغذى الأدب وتجعل من
البيان خير وسيلة فى أمة قريبة عهد بنهضتها لتقتبس من وقوفها على حقائق ماضيها
وجلائل الوقائع فى تاريخها ما يكون خير معوان لها على استكمال وسائلها للحياة
الجديدة والرقي. وهذه الخطة الثانية هى التى أوحتها العبقرية إلى جرجى زيدان مع ما
يعترض مسالكها من المشاق الجسام- على أن المكان المحدد لهذا المقال لا يتسع لتعقب
خطاه وبواعثها فى خطته هذه، ولكن الذى أسفرت عنه هو أنه أتحف العالم العربى بصنيع
انفرد به بين أعلام الوقت ولم يكن مما يضطلع به إلا جماعة من علية المبرزين.
أعماله
اشتمل ذلك الصنيع على كتب فى التاريخ وكتب فى أغراض تناولت
ضروبا من فلسفة اللغة والاجتماع، وقصص تاريخية متنوعة وكل أولئك انتظمته فكرة
رئيسية لجرجى زيدان هى اعتقاده أنه بخدمته للكثرة الإسلامية من العرب يخدم أيضاً
القلة الكتابية الأخرى إذ أن المصلحة مشتركة والمنفعة التى تصيب الكثرة لا تعدم
منها القلة حظاوافياً وإذا كانت تآليفه قد دلت على غلبة هذا الرأى عنده، فالاسم
الذى سمى به مجلته عنوان مؤيد لهذه الدلالة- ألست ترى وتبصر غاية المدى فيما عناه
منذ تأسيسه مجلته بأن جعل عنوانها الثابت اسم «الهلال».
وفيما يلى سأعدد للقارئ أسماء كتبه حسب الأقسام الآنفة ومن
جريدتها يتبين ما الذى قدمه لعصره وللعرب من مسلميه ونصاراه وغيرهم من المرائى
الهادية التى تكفى كل واحدة منها فخرا وشرفاً لمؤلف لو اختص بها ولم يعدها إلى
غيرها.
ففى القسم الأول له: تاريخ مصر الحديث- تاريخ التمدن
الإسلامي- تاريخ العرب قبل الإسلام- تراجم مشاهير الشرق فى القرن التاسع عشر-
تاريخ آداب اللغة العربية- تاريخ الماسونية العام- تاريخ اللغة العربية- أنساب
العرب القدماء.
وفى القسم الثانى له: علم الفراسة الحديث- طبقات الأمم- عجائب
الخلق- الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية.
وفى القسم الثالث له: فتاة غسان- أرمانوسة المصرية- عذراء
قريش- 17 رمضان- غادة كربلاء- الحجاج بن يوسف- فتح الأندلس- شارل وعبدالرحمن- أبو
مسلم الخراساني- العباسة أخت الرشيد- الأمين والمأمون- عروس فرغانة- أحمد بن طولون
- عبدالرحمن الناصر- فتاة القيروان- صلاح الدين ومكايد الحشاشين- شجرة الدر-
الانقلاب العثماني- المملوك الشارد- أسير المتمهدى - استبداد المماليك- جهاد
المحبين.
تقديره كمؤرخ وقصصى وصحافي
بقى أن أذكر ما كان الرأي- ويدلى به من قوله حجة- فى «جرجى
زيدان» مؤرخاً وقصصيا وصحافياً قال المغفور له رفيق بك العظم وهو البحاثة الإسلامى
الشهير فى المؤرخ العربى «جرجى زيدان»:
«إن من يطالع كتب «جرجى
زيدان» ويطالع كتب المؤرخين قبله لا يسعه إلا الاعتراف بفضله فى التاريخ والإقرار
له بأنه عانى المشاق فى وضع كتبه هذه ما لم يعانه مؤرخ من قبل وأنه اختط طريقاً
خاصا للمؤرخين العرب فى تقسيم التاريخ وترتيبه يشهد أنه كان من خيرة مؤرخى العرب
وأطولهم باعا فى انتقاء المواضيع الاجتماعية التى لم يسبقه إلى التخصص بمثلها أحد
مؤرخينا الأقدمين.
وقال الأستاذ الكبير الشيخ المحترم «أنطون الجميل بك» فى
القصصى «جرجى زيدان» ما نصه:
«رأى أن التاريخ يصعب
تعميم فوائده إذا اقتصر نشره على كتب التاريخ فعمد إلى صوغ حقائقه فى قالب روائي-
فكان فارس الميدان الذى لا يلحق غباره فى تأليف الروايات التاريخية- وقد كتب منها
اثنتين وعشرين رواية نالت شهرة واسعة لما وجد فيها القراء من الفائدة والفكاهة.
وقال المرحوم الكاتب الكبير «داود بركات» فى الصحفى «جرجى
زيدان» ما نصه: بسط فى الهلال خطته فقال: «خطتنا الإخلاص فى الغاية والصدق فى
اللهجة والاجتهاد فى إيفاء الخدمة حقها»
«فكان هذا القول أساس
أعماله فى حياته العملية وهكذا كان «جرجى زيدان» الناشئ عنوان الجد والنشاط فصار
جرجى زيدان العامل عنوان الإخلاص وحسن القصد».
وهل لى بعد ما تقدم أن أقول إن أول من فطن لكتابة تاريخ آداب
اللغة العربية هو جرجى زيدان وما زال مصنفه هو الإمام الأوحد فى هذا الغرض
للناطقين بالضاد ومثله موجود فى كل لغة عدا العربية.
وإن أول من كتب القصة بالاصطلاح الحديث لهذا الضرب من البيان
هو «جرجى زيدان» وما زال إلى اليوم القدوة التى يقتدى بها ولم ينسج أحد من أدبائنا
على منواله إلى الساعة وخصوصاً فى الموضوعات التاريخية.
لقد انقضت خمس وعشرون سنة منذ وفاته ولكن انقضاءها لم يزد
كوكب مجده إلا سطوعا فى سماء الخلود.
الهلال والمنار:
صفحة من علاقة جرجى زيدان بالشيخ محمد رشيد رضا
د. عمر رياض
الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935) اللبنانى الأصل من أكثر
الشخصيات تأثيرا فى التاريخ الإسلامى الحديث وخاصة فى الدوائر السلفية المعاصرة، والذى
مثل كثير من أقرانه الشوام قدم رشيد رضا إلى مصر ليدخل عالم الصحافة الإسلامية فى
القاهرة. وصل رشيد رضا إلى الإسكندرية فى أواخر ديسمبر عام 1897 على متن السفينة
النمساوية مع صديقه القديم فرح أنطون (1874-1922) تتلمذ فيها على يد الشيخ محمد
عبده، ليبدأ رحلة حياة مملوءة بالأحداث تفاعل فيها مع كثير من الأوساط الفكرية
والسياسية، ومن بينها على وجه خاص نصارى الشوام والذى اتسمت علاقاته معهم بالتعاون
والود تارة والصراعات والمواجهات الدينية والسياسية تارات أخرى والتى أثرت عليها
التغيرات السياسية، إلى جانب قناعات الشيخ رضا الدينية والسياسية ولا سيما دفاعه
المستميت عن مفهوم الإسلاموية أو العروبة. وعلى الرغم من القواسم المشتركة بين
صاحب المنار وأقرانه من نصارى الشام تجاه مفهوم التقدم والعلم والإصلاح، فقد ولدت
مواقفه تجاههم مناقشات وخلافات مثيرة ترتكز على أساس الدين والتاريخ والفلسفة
الإسلامية والأدب. والسبب الجوهرى فى ذلك هو أن رشيد رضا ظل يبنى أفكاره على فهمه
للإصلاح من جانب الوحى القرآنى والازدهار التى اتسمت به القرون الأولى وما يسمى
بالعصر الذهبى للإسلام، وهو بهذا على خلاف أولئك المثقفين النصارى الذين قد أداروا
ظهورهم فى غالب الأحيان لبعض مفاهيم دينهم الأصلى وبنوا أفكارهم للحداثة من منظور
غربي.
ومن بين هؤلاء بالطبع صاحب هذا العرس الأدبى الذى بين أيدينا
جرجى زيدان. التقى رشيد رضا بزيدان فى صحبة فرح أنطون فى يناير 1899 فى مكتب جريدة
الهلال وذلك بعد أيام قليلة من وصوله إلى مصر. وقد ركز أول حديث لهما على حالة
الصحافة فى مصر. وبعدها بدأ زيدان بإرسال جريدته ورواياته الأدبية عن التاريخ
الإسلامى لرشيد رضا ليقرظها فى جريدته المنار والتى أسسها فى أوائل هذا العام
نفسه. وفى هذه السنوات الأولى ظل رشيد رضا يشيد بزيدان فى مناسبات عديدة على دقته
وذوقه وإنصافه فى التاريخ (المنار 2/9، 1899، ص 140). وبعد مرور سبعة أعوام على
إنشاء الهلال كتب رشيد رضا يقول إنها: "بلغت فيها بجده واجتهاده وحسن اختياره
للمواضيع المستعذبة مبلغًا فى الانتشار سبقت فيه جميع المجلات العربية فيما نعلم
بحيث صار هلالها بدرًا كاملاً، فلا زالت بسعيه مشرفة على الأقطار، مشرقة بأنوار
المعارف التى هى أنفع من أنوار الأهلة والأقمار" (المنار 2/32، 1899، ص 511).
وفى تلك الفترة تصدى الشيخ رضا للدفاع عن زيدان ضد اتهام بعض
المسلمين له بالتعصب الدينى باعتباره مفكرا مسيحيا يكتب عن التاريخ الإسلامي. ولما
نشر زيدان روايته عن الحجاج بن يوسف ركزت هذه الانتقادات على أن قصص زيدان تحوى
أخبارا كاذبة مما يشتبه على القارئ الحق بالباطل، وكذلك من ناحية استثقال نسبة
العشق والغرام فى رجال السلف الصالح فى هذه الرواية. وبعد تصفح رشيد رضا للقصة رأى
أن الحوادث الغرامية لم تسند إلى أحد من رجال السلف والأئمة. وأما عن مسألة
الاشتباه فقد وافق رشيد رضا زيدان فيما قاله فى مقدمة الرواية أنه جاء بحوادث
الرواية تشويقًا للمطالعين، وأن التوسع فى الوصف لا تأثير له على الحقيقة. هنا
يدافع رشيد رضا عن زيدان بأنه: "أبعد خلق الله عن التعصب الدينى وأحسنهم
إنصافًا فإن فرط منه ما أوجب الانتقاد أو يوجبه فهو عن غير سوء قصد" (المنار
5/9، 1902، ص356).
وفى نفس العام توجه أحمد حامد بدوى أحد شيوخ الأزهر فى مصر
بسؤال لرشيد رضا حول رواية زيدان عذراء قريش، وحول ما أورده زيدان عن قراءة على بن
أبى طالب - كرم الله وجهه - الفاتحة عند قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام مما
يخالف عقيدة السلف فى عدم جواز قراءة القرآن على القبور. وفى فتواه اكتفى رشيد رضا
بقوله إن الأخبار والآثار التى يحتج بها شرعًا لا تؤخذ من القصص ولا من كتب
التاريخ وإنما تؤخذ عن المحدثين الذين يبينون أسانيدها، وأن الأثر المنقول فى
الرواية غير صحيح، دون توجيه أى اتهام لجرجى زيدان (المنار 5/13، 1902، ص 508).
ولما ظهر الجزء الأول من تاريخ التمدن الإسلامى انبرى بعض
الكتاب لانتقاد زيدان على صفحات جريدة المؤيد فى مقالات يظهرون فيها ما عدوه عليه
من الخطأ فى بعض المسائل و التى قد رد زيدان على بعض منها واعترف ببعض الخطأ، لكن
رشيد رضا ظل يسميه الصديق المنصف، وأن الأمة على الرغم من هذا مازالت فى افتقار
إليه شديد، وأن هذا الكتاب بالذات مثال مفيد لقراء العربية، وأن مؤلف الكتاب من
وجهة نظر رشيد رضا لم يكتب إلا ما اعتقده مع حسن النية وصحة القصد (المنار 5/14،
1902، 554).
وعلى نفس النهج دافع رشيد رضا عن زيدان فى رواياته التاريخية
الغرامية فتح الأندلس، و فتاة غسان. وقد قرأ صاحب المنار الرواية الأولى بلذة
عظيمة، قائلا إن القارئ لا ينتهى من فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى
قراءة ما بعده حتى ينتهى بالفصل الأخير. أما عن فتاة غسان فكانت اللذة فيها لا تقل
عن اللذة فى أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها فى التاريخ الإسلامى أكبر
من فائدتها. أما عن الأغلاط التاريخية فقد رأى رشيد رضا أنه لايسلم من هذا أى
كاتب. ومن المسائل التى يرفضها رشيد رضا فى هذه الرواية هى مسألة الغرانيق
المشتهرة فى بعض كتب السيرة النبوية، ولكن رشيد رضا يعذر زيدان فى أنه رأى هذه
الرواية فى كتب الطبري، فنظمها فى سلك الحكاية دون تفنيد. وهنا يبرر رضا من أن هذا
من باب اعتياد زيدان والكتاب من نوعه على التساهل فى النقل، والاعتماد على المعنى
الذين يفهمونه، حتى لو كان هذا فى الأمور الدينية، وهو عند المسلمين عظيم. وللمؤلف
المسيحى العذر فى تصديق مسألة ذكرها بعض علماء المسلمين ( المنار 6/10، 1903، ص
391-392).
ومع ازدياد حدة نقد بعض الكتاب المسلمين لكتابات زيدان، تتولى
مجلة المنار الذب عنه على أنه كاتب لم يعرف عنه يوما أى شكل من أشكال التعصب
الديني. فمع ظهور الجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامى على سبيل المثال ظل رشيد
رضا على اعتقاده فى إنصاف المؤلف على الرغم من رمى بعض المسلمين له بالتعصب، حتى
وصلت شكواهم إلى الأزهر كأكبر معاهد العلم الإسلامى فى مصر، وقد كتب أحد علماء
الأزهر فى دمياط، يطلب من المنار الرد على زيدان من أنه بجانب تنويهه للإسلام
والمسلمين من الفضل إلا أن فى طوايا كتابه وزوايا الكثير من صحائفه ما يرمى
المسلمين فى العصر الأول بالجمود والتعصب الدينى مثل ما أورده زيدان فى قضية
الخلاف فى مسألة خلق القرآن بين المعتزلة والحنابلة. وهنا يرد رشيد رضا ثانية أنه
على الرغم من ما أورده زيدان وأنه منتقد فى كثير مما يقوله إلا أن الكاتب لا يقصد
إهانة الإسلام والنيل منه، وأنه يقول ما وصل إليه علمه بحسن نية، وأن سبب وقوع هذه
الأغلاط فى كتبه هو أنه لم يدرس المسائل الإسلامية عن أهلها من كتبها، وإنما
يتناول نتفًا منها من كتب التاريخ والأدب وغيرها؛ فيجيء بيانه للمسألة أو حكمه
عليها خطأ فى بعض الأحيان. ومع هذا ظل رشيد رضا على شكره للمؤلف على عنايته
واجتهاده وسبقه إلى إدخال أساليب التأليف الحديثة فى اللغة العربية، وأنه لا عصمة
لأحد فى اجتهاد (المنار 7/13، 1904، ص 317-318).
وقد ظلت المنار على هذا المنوال إلى عام 1908 حتى بدأت نبرة
صاحبها تتغير تجاه جرجى زيدان ومؤلفاته، وخاصة كتابه العرب قبل الإسلام، وذلك من
خلال مقالين نشرتهما المنار للشيخ أحمد عمر الإسكندرى (1875-1938) من مدرسى الآداب
العربية فى المدارس المصرية، واللذان صب فيهما النقد على زيدان والذى عرفه الناس
فى مصر معلمًا فمترجمًا فصحافيًّا ففيلسوفًا لغويًّا فنسابة فروائيًّا مبتدعًا
فمتفرّسًا فمؤرخًا خياليًّا قصاصًا. لكن الشيخ الإسكندرى يستغرب كيف أن الأمر تطور
فى مصر وأن الناس أصبحوا يستقبلون منه الآن مؤرخًا إسلاميًّا محققًا، على الرغم من
تحامله على العرب فى كتابه هذا. وفى البداية يعترف الإسكندرى بفائدة الكتاب لمن لا
يجيدون اللغات الأوروبية مما ترجمه المؤلف من آراء بعض قدماء اليونان فى الجغرافيا
العربية، وبعض آراء بعض سياح الأوروبيين فى شمال جزيرة العرب وجنوبها، وبعض الصور
والرسوم والخطوط والنقود التى نقلها من رحلات هؤلاء السياح، مثل رسم سد مأرب، وبعض
قصور اليمن، وهيكل تدمر والبطراء. إلا أنه رأى أن زيدان يتردد بل وينكر أحيانا بعض
الحقائق التاريخية البديهية، ويتشبث بتحقيق بعض الظنون والتخرصات، اعتمادًا على
أوهام وتخيلات قامت بذهنه فقط (المنار 11/9، 1908، ص 681).
وفى يناير 1912 نشرت المنار انتقادات حادة أطلقها المؤرخ
الهندى الشهير الهندى شبلى النعمانى (1869-1914) -مؤسس جمعية ندوة العلماء فى
الهند- لكتاب تاريخ التمدن الإسلامى والذى كان قد مدحته المنار من ذى قبل، وذلك فى
عدة مقالات اتهم فيها النعمانى زيدان بالتقليل من شأن العرب والإساءة إليهم. ومثل
الشيخ رشيد رضا فقد كانت تربط النعمانى بزيدان علاقة جيدة، وكان يدافع عن كتاباته
ضد أى اتهام صارخ لتشويه التاريخ العربي. أما فى هذه المقالات بدأ النعمانى يتهم
زيدان بتزييف وتغيير الحقائق حول التاريخ الإسلامي، وأن زيدان يرتكب فى كتابه هذا
تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب الحكاية، والخيانة فى النقل، وتعمد الكذب ما يفوق
الحد ، ويتجاوز النهاية. وكان النعمانى على دراية بمدح زيدان له فى كتبه كأشهر
علماء الهند ، لكنه حسب تعبيره لم يكن يرضى أن يمدحه زيدان على حساب هجاء العرب
(انظر مقالات النعمانى فى المنار م 15، 1912). ومما زاد الأمر احتداما هو أن رشيد
رضا فى نفس السنة قام بجمع مقالات كل من الإسكندرى والنعمانى ونشرها فى كتاب
أصدرته مطبعة المنار تحت عنوان كتاب انتقاد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي.
أما من جانبه ، فلم يكن يتوقع زيدان هذه الحملة ضده، وقد
أصابه الإحباط الشديد، حتى إنه بعد بضعة أشهر من نشر هذه المقالات اشتكى لابنه
إميل أن آراء الإسكندرى والنعمانى أظهرت بعض جوانب الكراهية الدينية والتعصب التى
واجهها طيلة حياته مما لا يستحق أى رد. أما عن رشيد رضا والنعمانى فقد أظهرا له
هذه الوجه بعد أن كان يعتبرهما صديقين حميمين، ولم يكن يتوقع بأى حال أن يصبحا
خصمين له لهذه الدرجة. ومع ذلك، فقد كتب محمد مصطفى أحد قراء الهلال المسلمين من
الإسكندرية إلى زيدان يواسيه فى محنته هذه مؤكدا على نزاهته التاريخية (الهلال
20/9، 1912، ص 562-563)، لكن زيدان اكتفى بالتعبير عن حيرته من هذا التحول المفاجئ
فى موقف كل من رشيد رضا وشبلى النعمانى دون ذكر السبب الحقيقى من وجهة نظره. لكن
فى رسالة لابنه إميل يوضح زيدان أن السبب وراء هذا كله هو غيرة صاحب المنار من
نجاح الهلال وشهرة كتب زيدان وتفوقها، حتى أن زيدان بدأ يشك فى أن رشيد رضا كان
أحد المعارضين لترشحه لتدريس مادة فى التاريخ الإسلامى فى الجامعة المصرية، ويرجع
زيدان هذا أيضا إلى سبب آخر وهو ما رآه من فشل لرشيد رضا فى تقليده فى كتابة
الروايات التاريخية عن الإسلام فى المنار مثل ما فعل زيدان فى الهلال طيلة هذه
السنين.
أما من ناحيته فلم يتهم رشيد رضا زيدان صراحة بأى نية لتشويه
تاريخ العرب والإسلام، لكنه كان قلقا إزاء ترجمة أعمال زيدان إلى اللغة التركية
والذى كان من شأنه أن يزيد من حدة العداء العثمانى التركى للنزعة العروبية التى
كان رشيد رضا من أنصارها فى هذه الفترة، وخاصة إذا ما عرفنا أن مترجم أعمال زيدان
للتركية كان زكى مغامز أحد نصارى حلب، والذى كان يعرف عنه المشاعر المعادية للعرب.
وقد كان مغامز يشتكى لزيدان من أن بعض الرسوم التوضيحية فى كتبه عن الحضارة
العربية تظهر العرب بشكل إيجابى متفوق مما يجب إعادة النظر فيه. وقد كان مغامز أحد
مترجمى القرآن إلى اللغة التركية، وقد كان رشيد رضا يشتبه فيه لما رآه من محاولات
من جانبه لتشويه متعمد للقرآن ونصه من خلال مشاركته فى هذه الترجمة. ولنا أن نؤكد
هنا أن زيدان قبل وفاته أصبح من المتعاطفين مع الأتراك، وكان يعارض بشدة أى محاولة
عربية لتشكيل حركات سياسية تدعو إلى استقلال البلاد العربية عن السلطنة العثمانية،
مثل حزب اللامركزية والذى كان رشيد رضا أحد زعمائه.
وبعد وفاة زيدان فى عام 1914 أوضح رشيد رضا هذا الموقف صراحة
حينما نشر تأبينا لزيدان فى المنار، وقد اعتبر رشيد رضا فقدانه فجيعة كبرى لمصر
والشام. وأفصح رضا أنه مازال يعتبر زيدان أحد أركان النهضة العربية الحديثة، الذى
كان لا يكل فى خدمة الصحافة العربية والأدب. فبوفاته "فقدت الأمة العربية
بهذا الرجل ركنًا من أركان نهضتها الحديثة فى العلم والأدب، بعد أن نضج علمه،
واتسعت معارفه، وكملت تجاربه، وصار أقدر على إتقان خدمتها، ومساعدة نهضتها."
وظل رشيد رضا معجبا بالجهد المضنى لزيدان حتى أنه قد أتم قبيل وفاته "تصحيح
آخر كراسة من آخر جزء من أجزاء السنة الثانية والعشرين للهلال، وآخر كراسة من كتاب
تاريخ العرب. وبعدها تنفس الصعداء من تعب ليلة شعر بأنه ألقى عن عاتقه فى أولها
تعب عشرة أشهر، ثم ألقى نفسه على سريره ليبدأ فيها باستراحة شهرين كاملين ، فغاضت
نفسه ، فإذا هو قد ألقى عنها تعب ربع قرن فى الجهاد العقلى كان هو القاضى على مادة
ذلك الدماغ الذى يشبه معملاً من معامل الكهرباء، فى السرعة والنور والحرارة
والضياء، والمقوض لدعائم تلك الحياة الحميدة، حياة الجد والعمل والعفة والاستقامة."
وبعد عرض موجز لحياة زيدان الأولى وعصاميته المادية والأدبية،
اعتبر صاحب المنار أن نفس زيدان العصامية كانت "هى الحافزة لهمته والباعثة له
على طلب العلم، وكان يقصد من العلم أن يعمل به فيفيد مالاً وجاهًا يكون به فى
مقدمة أمته لا فى ساقتها. ولذلك حصل بجده وقوة إرادته فى الزمن القليل ما مكنه من
العمل الذى عجز عن مثله مَن هم أكثر منه تحصيلاً، وأوسع فى العلوم والفنون
عرفانًا." ولذا فقد أظهرت كتبه ورواياته الغرامية الممزوجة بالتاريخ الإسلامى
"من خطته فيما ينشئ وينقل أنه من أقدر من اشتغل بالصحف العربية والتأليف فى
هذا العصر، أو أقدرهم على جذب جمهور القراء إلى ما يكتب، بمحاولة جعل ما يكتبه
لذيذًا سهل الفهم ، كالطعام اللذيذ سهل الهضم."
وفى هذا الصدد ظل رشيد رضا على موقفه الأول من دفاعه عن زيدان
بأنه كان شخصا "سلمًا نزيه القلم"، وأن أغلاطه التاريخية لم تكن لقصد
تشويه الإسلام كما اتهمه بعض سيئى الظن من المسلمين والنصاري. غير أن بعض النصارى
كانوا يتهمونه بضد ما يتهمه به بعض المسلمين من مصانعة المسلمين ومحاباتهم، ومدح
الإسلام والمسلمين تقربًا إليهم لأجل الكسب منهم.
وهنا يبين رضا الوازع الذى دفعه لنشر مقالات الإسكندرى
والنعمانى وهو موقف جرجى زيدان بعد الانقلاب العثمانى ونزعته فى إحياء مذهب
الشعوبية وزيارته للآستانة ولقائه بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وتصويبه لخطة
الاتحاديين الأولى من تتريك العناصر وإدغام العرب فى الترك. فبعدما كتب زيدان فى
الهلال ما يشعر بهذه النزعة، هاج ما كتبه جماعات فتيان العرب فى الآستانة وسوريا.
مع ظهور نزعة زيدان هذه بدأ البعض يفطن لما رأوه مطاعن للفقيد فى العرب أودعها فى
تاريخ التمدن الإسلامي. وزادهم التفاتًا إليها ترجمة جريدة إقدام التركية لتاريخ
التمدن الإسلامى ونشره فيها بالتتابع. ولذا تشاور كثير من الشبان المتعلمين فى
الرد على هذا التاريخ، لكن شبلى النعمانى أراد أن يتولى هذه المهمة، والذى كان
صديقا مشتركا بين زيدان ورشيد رضا، والذى قد طلب نشر مقالاته فى المنار لما عهدوا
من زيدان تلقى الانتقاد عليه بسعة الصدر.
أما عن حدة نبرة النعمانى يبرر رشيد رضا أنه لم يكن يعلم بها
لعدم قراءته الرد بتمحيص، وأنه بادر بأمر النشر وهو فى رحلته فى الهند عام 1912 .
لكنه حين قرأه بعد عودته من الهند وعمان والعراق وسوريا، رآه فوق ما كان يظن من
شدة الرد، ورمى الفقيد بسوء القصد. وقد أخبر النعمانى رشيد رضا عند لقائه فى الهند
أنه كان يرى بعض الغلط فى تاريخ التمدن الإسلامى وغيره من مؤلفات صاحبه فيحمله على
الخطأ أو سوء الفهم، ولكنه لما قرأ مجموع طعنه فى العرب جزم بأنه صادر عن سوء قصد.
وهذا سبب شدة حملته عليه، على ما كان من مودته له. ولهذا السبب فقد آثر رشيد رضا
أن يذكر تلك الأسباب فى مقدمته للكتاب الناقد لزيدان وأنه لايتفق مع شبلى فى الطعن
الشخصى من زيدان، لأنه يخص رجلا صديقا وعضوًا نافعًا فى الأمة. وقد علم رشيد رضا
بثقل وطأة رد الشيخ شبلى النعمانى على زيدان لشدته؛ ولأنه كان يعده من أصدقائه،
وأثنى عليه غير مرة فى هلاله، فلم يصدق أولاً أنه هو المنتقد. وقد اتهم زيدان رشيد
رضا صراحة بوقوفه وراء هذه الحملة، حتى إنه كتب إلى الشيخ شبلى رسالة ذكر فيه ذلك،
راجيًا أن يكتب إليه متنصلاً من هذا النقد اللاذع لينشر فى الهلال، ويظهر أن النقد
لصاحب المنار. وقد اطلع رشيد رضا على هذا الخطاب أثناء زيارته إلى الهند، وقد عاتب
رشيد رضا زيدان بعد عودته فى هذا موضحا له أن المقالات نشرت فى غيبته.
ومع ذلك ظل رشيد رضا على مدح زيدان وأن عقله كان أكبر من
علمه، ومن فضل عقله على علمه حسن اختيار ما كان يكتب. وإن سبب انتقاده هو أنه كان
يكتب فى الغالب فى مباحث لم تسبق له دراستها، معتمدًا على مراجعتها من مظانها عند
الحاجة إليها. فقد كان يكتب المقالة فى يوم أو أيام أو ساعة أو ساعات؛ لأجل أن تنشر
فى مجلة شهرية، ويؤلف الكتاب فى عدة أشهر؛ لأنه وعد بنشره فى وقت معين من السنة،
لكن تبقى الحقيقة من وجهة نظر رشيد رضا أن زيدان كان "أديب النفس ، نزيه
اللسان والقلم ، بشوش الوجه معتصمًا بحبوة الجد، متنزهًا عن اللغو والعبث، محبًّا
للنظام ، حفيًّا بالأهل، وصولاً للرحم ، محبًّا للقريب" (المنار 17/8، 1914،
ص630-632).