السبت 29 يونيو 2024

باحثة‭ ‬البادية‭ ‬

سيدتي25-12-2020 | 21:47

فى‭ ‬منتصف‭ ‬الشهر‭ ‬المنصرم‭ ‬انطفأ‭ ‬نور‭ ‬أضاء‭ ‬سماء‭ ‬مصر‭ ‬زمناً‭, ‬وانقطع‭ ‬صوت‭ ‬عذب‭ ‬طالما‭ ‬اهتزت‭ ‬له‭ ‬قلوب‭ ‬الراغبين‭ ‬فى‭ ‬إصلاح‭ ‬حال‭ ‬المرأة‭ ‬الشرقية‭, ‬ففقد‭ ‬العالم‭ ‬العربى‭ ‬نابغة‭ ‬من‭ ‬نابغاته‭ ‬النادرات‭ ‬عرفها‭ ‬القراء‭ ‬باسم‭  ‬“باحثة‭ ‬البادية”‭ ‬صاحبة‭  ‬“النسائيات”‭ , ‬وهى‭ ‬كريمة‭ ‬حفنى‭ ‬بك‭ ‬ناصف‭ ‬رجل‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭, ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يبكيها‭ ‬المصريون‭ ‬والمصريات‭, ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬من‭ ‬خبر‭ ‬بنفسه‭ ‬ما‭ ‬طبعت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬السجايا‭ ‬والخلال‭ ‬ككاتبة‭ ‬هذه‭ ‬المرثاة‭ ‬الجميلة‭ .‬

أكتب‭ ‬اسم‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭, ‬فيتمثل‭ ‬لناظريّ‭ ‬ذلك‭ ‬الثغر‭ ‬البسام‭ ‬وذلك‭ ‬الوجه‭ ‬ذو‭ ‬السمرة‭ ‬المصرية‭ ‬العذبة‭, ‬وأسمع‭ ‬صوتها‭ ‬الرخيم‭ ‬مردداً‭ ‬كلمات‭ ‬حلوة‭ ‬اللفظ‭ ‬لطيفة‭ ‬المعنى‭, ‬وأضع‭ ‬يدى‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬“النسائيات”‭ ‬فأشعر‭ ‬بالحياة‭ ‬الفائضة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الفصول‭, ‬وما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬توقد‭ ‬النفس‭ ‬المتوهجة‭ ‬بين‭ ‬صفحاتها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لباحثة‭ ‬البادية‭ ‬مملوءة‭ ‬حياة‭ ‬مفيدة‭ ‬نافعة‭, ‬فكيف‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الشعلة‭ ‬النادرة‭ ‬قد‭ ‬خمدت‭, ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬الوجه‭ ‬الوضاح‭ ‬قد‭ ‬اختفى‭ ‬وراء‭ ‬وشاح‭ ‬الردى‭?‬

كانت‭ ‬عينا‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬مفعمتين‭ ‬ابتساماً‭ ‬كثغرها‭, ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬أمعن‭ ‬المرء‭ ‬النظر‭ ‬فى‭ ‬أعماقهما‭ ‬وجد‭ ‬بُعد‭ ‬الغور‭ ‬والكآبة‭ ‬المقيمة‭ ‬وراء‭ ‬الابتسام‭, ‬مما‭ ‬يرى‭ ‬فى‭ ‬أعين‭ ‬المفكرين‭ ‬وفى‭ ‬أعين‭ ‬المزمعين‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭ ‬العاجل‭, ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تطول‭ ‬حياتهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ورود‭ ‬الربيع‭, ‬فيذهبون‭ ‬تاركين‭ ‬الجو‭ ‬حولهم‭ ‬معطراً‭ ‬بعبير‭ ‬مآثرهم‭.‬

إن‭ ‬لباحثة‭ ‬البادية‭ ‬مركزاً‭ ‬فريداً‭ ‬فى‭ ‬الحركة‭ ‬الفكرية‭ ‬عندنا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬قاسم‭ ‬أمين‭ ‬يقول‭ ‬بتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬وبإعطائها‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬أدبية‭ ‬واجتماعية‭, ‬قامت‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬تؤيد‭ ‬كلامه‭ ‬مظهرة‭ ‬أهلية‭ ‬المرأة‭ ‬وكرامتها‭ ‬ودرجة‭ ‬الارتقاء‭ ‬العليا‭ ‬التى‭ ‬يمكنها‭ ‬تسنمها‭, ‬قامت‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬العبقرية‭, ‬ابنة‭ ‬الرجل‭ ‬العبقرى‭, ‬تدرس‭ ‬أحوال‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية‭, ‬فكان‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬ذكائها‭ ‬الفطرى‭ ‬مرشدٌ‭ ‬أمينٌ‭, ‬ومن‭ ‬إحساسها‭ ‬العميق‭ ‬منبه‭ ‬مخلصٌ‭, ‬ومن‭ ‬قلمها‭ ‬العربى‭ ‬الصميم‭ ‬أبلغ‭ ‬ترجمان‭ ‬وخير‭ ‬رسول‭,  ‬رأت‭ ‬حاجة‭ ‬قومها‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬فصاحت‭ ‬صيحة‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يرن‭ ‬صداها‭ ‬وظلت‭ ‬تكتب‭ ‬وتخطب‭ ‬ناشدة‭ ‬الإصلاح‭ ‬وهى‭ ‬المرأة‭ ‬المسلمة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التى‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬رجعيا‭ ‬فى‭ ‬ميوله‭, ‬بشجاعة‭ ‬وكفاءة‭ ‬وتفوق‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬منها‭ ‬شيئاً‭ ‬انتقاد‭ ‬الناقدين‭ ‬وسخافة‭ ‬المتعصبين‭ .‬

كانت‭ ‬شديدة‭ ‬الحب‭ ‬لقومها‭, ‬شديدة‭ ‬الغيرة‭ ‬على‭ ‬وطنها‭, ‬شديدة‭ ‬التألم‭ ‬لما‭ ‬تراه‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬التأخر‭ ‬والانحطاط‭ ‬فى‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية‭, ‬ومجموعة‭ ‬هذه‭ ‬العواطف‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬وغيرة‭ ‬وألم‭ ‬كان‭ ‬يخترق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تكتبه‭ ‬كأنين‭ ‬متواصل‭ ‬ينقلب‭ ‬ساعة‭ ‬الوجع‭ ‬الشديد‭ ‬زئيراً‭ ‬أو‭ ‬عويلا‭, ‬كذلك‭ ‬يتألم‭ ‬صاحب‭ ‬العقل‭ ‬والقلب‭ ‬الكبير‭ ‬كأنما‭ ‬هو‭ ‬يتألم‭ ‬عن‭ ‬أمة‭ ‬بأسرها‭.‬

لما‭ ‬زارتنا‭ ‬للمرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬كانت‭ ‬ترافقها‭ ‬صويحبة‭ ‬لها‭, ‬فأخذت‭ ‬هذه‭ ‬تنقر‭ ‬على‭ ‬العود‭, ‬وأنشدت‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬بصوتها‭ ‬الشجى‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬من‭ ‬الموشح‭ ‬الأندلسى‭ ‬المشهور‭:‬

جادك‭ ‬الغيث‭ ‬إذا‭ ‬الغيث‭ ‬همى

يا‭ ‬زمان‭ ‬الوصل‭ ‬بالأندلس

لم‭ ‬يكن‭ ‬وصلك‭ ‬إلا‭ ‬حلما

فى‭ ‬الكرى‭ ‬أو‭ ‬خلسة‭ ‬المختلس

وكأنها‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭ ‬متنبئة‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بأن‭ ‬وجودها‭ ‬بيننا‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬حلمًا‭ ‬فى‭ ‬الكرى‭ ‬أو‭ ‬خلسة‭ ‬المختلس‭, ‬وإنها‭ ‬راحلة‭ ‬عما‭ ‬قريب‭ ‬فى‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر‭ ‬ونضارة‭ ‬الشباب‭ !‬

ولكن‭ ‬موتها‭ ‬ليس‭ ‬فناء‭, ‬إن‭ ‬أمثال‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬محسنون‭ ‬للجمهور‭, ‬وهى‭ ‬محسنة‭ ‬للجنس‭ ‬النسائى‭ ‬خصوصاً‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬الذى‭ ‬تخطو‭ ‬فيه‭ ‬المرأة‭ ‬خطواتها‭ ‬الأمامية‭ ‬فى‭ ‬سبيل‭ ‬الارتقاء‭, ‬نحن‭ ‬فى‭ ‬حاجة‭ ‬شديدة‭ ‬إلى‭ ‬نساء‭ ‬تتجلى‭ ‬فيهن‭ ‬عبقرية‭ ‬الرجال‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقدن‭ ‬صفاتهن‭ ‬النسائية‭ ‬الجميلة‭ ‬من‭ ‬لطف‭ ‬الإحساس‭ ‬وعذوبة‭ ‬الأخلاق‭, ‬والرقة‭ ‬والدعة‭ ‬والاستقامة‭ ‬والإخلاص‭, ‬كذلك‭ ‬كانت‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬التى‭ ‬برزت‭ ‬شخصيتها‭ ‬فأعلت‭ ‬شأن‭ ‬بنات‭ ‬جنسها‭, ‬إذ‭ ‬ظهرت‭ ‬كاتبة‭ ‬كبيرة‭ ‬ومصلحة‭ ‬غيورة‭ ‬عاقلة‭, ‬وامرأة‭ ‬كريمة‭ ‬وفيّة‭, ‬وصديقة‭ ‬أمينة‭ ‬فشغلت‭ ‬فى‭ ‬حياتنا‭ ‬الأدبية‭ ‬وفى‭ ‬حياة‭ ‬المرأة‭ ‬الشرقية‭ ‬عموماً‭ ‬مركزاً‭ ‬سامياً‭ ‬جليلاً‭ ‬قلما‭ ‬يبلغه‭ ‬غيرها‭.‬


فلئن‭ ‬بكيت‭ ‬اليوم‭ ‬الصديقة‭ ‬الصدوقة‭ ‬والثغر‭ ‬الحلو‭ ‬البسام‭ ‬فإنى‭ ‬أحيي‭ ‬المرأة‭ ‬الخالدة‭ ‬بمآثرها‭ ‬وأحني‭ ‬الرأس‭ ‬أمام‭ ‬المحسنة‭ ‬الغيورة‭, ‬إن‭ ‬باحثة‭ ‬البادية‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تموت‭, ‬وستظل‭ ‬حسناتها‭ ‬باقية‭ ‬ما‭ ‬بقيت‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭, ‬والشعلة‭ ‬التى‭ ‬توارت‭ ‬اليوم‭ ‬فى‭ ‬ظلمة‭ ‬القبر‭ ‬هى‭ ‬هي‭ ‬التى‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬سماء‭ ‬الخلود‭ ‬منيرة‭ ‬طريق‭ ‬الارتقاء‭ ‬للمعجبين‭ ‬بها‭ ‬الآسفين‭ ‬عليها‭.‬

فالوداع‭, ‬أيتها‭ ‬الراحلة‭ ‬الكريمة‭ ! ‬لئن‭ ‬نزل‭ ‬البلى‭ ‬بيدك‭ ‬الرطبة‭ ‬فإن‭ ‬الخلود‭ ‬نصيب‭ ‬ذكرك‭ ‬وفضلك‭  ‬سيري‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬حجاب‭ ‬ولا‭ ‬سفور‭, ‬حيث‭ ‬النور‭ ‬شامل‭ ‬والجمال‭ ‬مقيم‭, ‬هناك‭ ‬تحتاطين‭ ‬بأمثالك‭ ‬من‭ ‬الأرواح‭ ‬الكبيرة‭ ‬فى‭ ‬دار‭ ‬هى‭ ‬مقر‭ ‬النبوغ‭ ‬والذكاء‭, ‬فأنت‭ ‬حقيقة‭ ‬بسكناها‭ ‬وهى‭ ‬حقيقة‭ ‬بأن‭ ‬تسكنيها‭.‬

وأنا‭ ‬التى‭ ‬عرفتك‭ ‬وأحببتك‭, ‬مع‭ ‬الدموع‭ ‬التى‭ ‬أذرفها‭ ‬على‭ ‬ذكرك‭, ‬تريننى‭ ‬جاثية‭ ‬أمام‭ ‬ضريح‭ ‬ضم‭ ‬جسمك‭ ‬الطاهر‭ ‬لأضع‭ ‬عند‭ ‬جوانبه‭ ‬باقة‭ ‬أزهار‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬شكرنا‭ ‬لك‭, ‬لكن‭ ‬الأزهار‭ ‬تموت‭, ‬أما‭ ‬شكرنا‭ ‬فخالد‭ ‬كفضلك‭.‬