فى منتصف الشهر المنصرم انطفأ نور أضاء سماء مصر زمناً, وانقطع صوت عذب طالما اهتزت له قلوب الراغبين فى إصلاح حال المرأة الشرقية, ففقد العالم العربى نابغة من نابغاته النادرات عرفها القراء باسم “باحثة البادية” صاحبة “النسائيات” , وهى كريمة حفنى بك ناصف رجل العلم والأدب, فلا غرابة أن يبكيها المصريون والمصريات, ولا سيما من خبر بنفسه ما طبعت عليه من السجايا والخلال ككاتبة هذه المرثاة الجميلة .
أكتب اسم باحثة البادية, فيتمثل لناظريّ ذلك الثغر البسام وذلك الوجه ذو السمرة المصرية العذبة, وأسمع صوتها الرخيم مردداً كلمات حلوة اللفظ لطيفة المعنى, وأضع يدى على مجموعة “النسائيات” فأشعر بالحياة الفائضة على تلك الفصول, وما هى إلا توقد النفس المتوهجة بين صفحاتها كل ما لباحثة البادية مملوءة حياة مفيدة نافعة, فكيف أصدق أن تلك الشعلة النادرة قد خمدت, وأن ذلك الوجه الوضاح قد اختفى وراء وشاح الردى?
كانت عينا باحثة البادية مفعمتين ابتساماً كثغرها, ولكن إذا أمعن المرء النظر فى أعماقهما وجد بُعد الغور والكآبة المقيمة وراء الابتسام, مما يرى فى أعين المفكرين وفى أعين المزمعين على الرحيل العاجل, أولئك الذين لا تطول حياتهم أكثر من ورود الربيع, فيذهبون تاركين الجو حولهم معطراً بعبير مآثرهم.
إن لباحثة البادية مركزاً فريداً فى الحركة الفكرية عندنا بعد أن قام قاسم أمين يقول بتحرير المرأة وبإعطائها ما لها من حقوق أدبية واجتماعية, قامت باحثة البادية تؤيد كلامه مظهرة أهلية المرأة وكرامتها ودرجة الارتقاء العليا التى يمكنها تسنمها, قامت هذه المرأة العبقرية, ابنة الرجل العبقرى, تدرس أحوال البيئة المصرية, فكان لها من ذكائها الفطرى مرشدٌ أمينٌ, ومن إحساسها العميق منبه مخلصٌ, ومن قلمها العربى الصميم أبلغ ترجمان وخير رسول, رأت حاجة قومها إلى الإصلاح فصاحت صيحة ما زال يرن صداها وظلت تكتب وتخطب ناشدة الإصلاح وهى المرأة المسلمة الوحيدة التى فعلت ذلك فى وسط ما زال رجعيا فى ميوله, بشجاعة وكفاءة وتفوق لم ينل منها شيئاً انتقاد الناقدين وسخافة المتعصبين .
كانت شديدة الحب لقومها, شديدة الغيرة على وطنها, شديدة التألم لما تراه من علامات التأخر والانحطاط فى البيئة المصرية, ومجموعة هذه العواطف من حب وغيرة وألم كان يخترق كل ما تكتبه كأنين متواصل ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيراً أو عويلا, كذلك يتألم صاحب العقل والقلب الكبير كأنما هو يتألم عن أمة بأسرها.
لما زارتنا للمرة الأخيرة كانت ترافقها صويحبة لها, فأخذت هذه تنقر على العود, وأنشدت باحثة البادية بصوتها الشجى هذين البيتين من الموشح الأندلسى المشهور:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
فى الكرى أو خلسة المختلس
وكأنها كانت فى تلك الساعة متنبئة عن نفسها بأن وجودها بيننا ليس إلا حلمًا فى الكرى أو خلسة المختلس, وإنها راحلة عما قريب فى مقتبل العمر ونضارة الشباب !
ولكن موتها ليس فناء, إن أمثال باحثة البادية محسنون للجمهور, وهى محسنة للجنس النسائى خصوصاً فى هذا العصر الذى تخطو فيه المرأة خطواتها الأمامية فى سبيل الارتقاء, نحن فى حاجة شديدة إلى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال دون أن يفقدن صفاتهن النسائية الجميلة من لطف الإحساس وعذوبة الأخلاق, والرقة والدعة والاستقامة والإخلاص, كذلك كانت باحثة البادية التى برزت شخصيتها فأعلت شأن بنات جنسها, إذ ظهرت كاتبة كبيرة ومصلحة غيورة عاقلة, وامرأة كريمة وفيّة, وصديقة أمينة فشغلت فى حياتنا الأدبية وفى حياة المرأة الشرقية عموماً مركزاً سامياً جليلاً قلما يبلغه غيرها.
فلئن بكيت اليوم الصديقة الصدوقة والثغر الحلو البسام فإنى أحيي المرأة الخالدة بمآثرها وأحني الرأس أمام المحسنة الغيورة, إن باحثة البادية لا تموت ولا يمكن أن تموت, وستظل حسناتها باقية ما بقيت لغة القرآن, والشعلة التى توارت اليوم فى ظلمة القبر هى هي التى تطل من سماء الخلود منيرة طريق الارتقاء للمعجبين بها الآسفين عليها.
فالوداع, أيتها الراحلة الكريمة ! لئن نزل البلى بيدك الرطبة فإن الخلود نصيب ذكرك وفضلك سيري إلى حيث لا حجاب ولا سفور, حيث النور شامل والجمال مقيم, هناك تحتاطين بأمثالك من الأرواح الكبيرة فى دار هى مقر النبوغ والذكاء, فأنت حقيقة بسكناها وهى حقيقة بأن تسكنيها.
وأنا التى عرفتك وأحببتك, مع الدموع التى أذرفها على ذكرك, تريننى جاثية أمام ضريح ضم جسمك الطاهر لأضع عند جوانبه باقة أزهار تعبر عن شكرنا لك, لكن الأزهار تموت, أما شكرنا فخالد كفضلك.