تنشر لكم "الهلال اليوم" نصًّا من ديوان "حبة البرد" للشاعر علوان الجيلاني.
ويقول الجيلاني إن ديوانه "حبّةُ البرد" هو الثامن في تجربة شعرية ممتدة على مدار ربع قرن ويزيد، ويشكل ملحمة عاطفية فنية، تعيد الاعتبار لتجارب الحب الكبيرة، التي عرفها التاريخ الانساني، بل هي أكثر من ذلك بالنظر إلى شغفها الفارق واجتراحاتها الفنية وسرديتها الخاصة القائمة على المسكوت عنه مراراً وعلى التلميح والتصريح مراراً، إنها قصة رجل وامرأة في مرحلة نضج كامل يقعان في الحب ويخضعان لإكراهاته في ظل ظروف قاسية تحف بهما، مع ذلك يقدمان تجليات الحب في وجوهه كافة، السعيد منها والحزين، المفرح والقاتل غماً وكمداً، حيث تضج النصوص بجمال المحبوبة مثلما تتأوه وتتألم وتصرخ وتبتهج.
ويعد الديوان ضخم الحجم حيث يقع في (245) صفحة ويضم (140) نصا نثرياً، قد لجأ فيه الشاعر مرات قليلة إلى تذييل بعضها بأبيات عمودية فصيحة أو غنائية، وهو اشتغال غريب، لكنه يبرره بالرغبة في الغناء تحت وطأة حالات من الشجن الزائد عن الحد.
يقدم الجيلاني تجربة رسم لاسم المحبوبة مستثمراً ثقافة الميدياً في تجربة مختلفة تماماً كما يقدمها هذا النص:
لَمْ أَكُنْ أُرِيْدُ مِنَ اسْمِكِ شَيْئاً
كَانَ آخِرَ مَا يُمْكِنُ أنْ أُفَكِّرَ بِهِ فِيْ امْرَأَةٍ
لَكِنِّيْ وَبِلَا تَدَبُّرٍ أَحْبَبْتُهْ
أَحْبَبْتُهُ مِثْلَكِ تَمَامَاً
أحْبَبْتُهُ كَمَا نُحِبُّ زَمْجَرَاتِ الرَّعْدِ فِيْ أَضْوَاءِ البُرُوْقْ
لَمْ يَعُدِ اسْمُكِ سَيْفَاً وَتَكْبِيْرَاتٍ وَنُسُوْرَاً تَنْقُرُ أَعْيُنَ الْكُفّارْ
صَارَ مُغَنِّيَةً بَغْدَادِيَّةً فِيْ كِتَابِ الإمْتَاعِ وَالمُؤَانَسَةْ
لَيْسَ فِيلْمَ الرِّسَالَةِ لَكِنَّهُ مُوْسِيْقَى مُوْنَامُوْرْ
لَيسَ سِنّ الرُّمْحِ لَكِنَّهُ تُفَّاحَةٌ
لَيْسَ صُرَاخَاً عَلَى لِسَانِ خَطِيبٍ لَكِنَّهُ شَهْقَةٌ فِيْ قَصِيدِةِ عَاشِقْ
اسْمُكِ كُرْسِيِّ فِيْ حَدِيْقَةٍ يَتَّسِعُ لِيْ وَلِكْ
أُنْثَى تُرَمِّمُنِيْ مِمّا فَعَلَتْهُ بِيَ الحَرْبْ
أتَذَكَّرُهُ فَتَتَفَتَّحُ أَزْهَارُ الأَرْضِ كُلُّهَا فِيْ قَلْبِيْ
أَهْمِسُ بِهِ لِنَفْسِيْ فَيَنْهَمِرُ المَطَرُ بِغَزَارَةْ
أْتَأَمَّلُهُ عَلَى حَائِطِكِ فَيَتَحَوَّلُ الهَاتِفُ إلى مَاسَةٍ زَرْقَاءْ
إِنَّهُ لَيْسَ اسْمُكِ وَحْدَكِ، هُوَ اسْمِيْ أيْضَاً
كَثِيْرَاً مَا أُنَادِيْنِيْ بِكْ
حِيْنَهَا يَمْتَلِئُ حِسِّي بِالشُّعَرَاءِ وَالمُوسِيْقِيِّينَ وَالرَّسَامِيْنْ
أَجْلِسُ مَعَ الأَوْلِيَاءِ وَأَنْوَارُ المَعَارِفِ تَتَسَايَلُ عَلَى شَفَتَيْ
أَطُوْفُ بِنَفْسِيْ وَقَدْ صَارَتْ كَعْبَةً خَضْرَاءْ
اسْمُكِ لَيْسَ أَرْبَعةَ حُرُوْفٍ إِنَّهُ جِهَاتُ العَالَمِ الأَرْبَعِ
فُصُولُ السَّنَةِ وَغُرَفُ القَلْبِ وَجُدْرَانُ البَيْتِ
كِتَابِيْ الجَدَيْدُ أيْضَاً هُوَ اسْمُكِ
لكن الحرب التي تسحق حياة اليمنيين منذ سنوات تحضر أيضاً بوصفها المقابل الضدي للحب، والنصوص تصرح مراراً بذلك "سَأَدُكُّ حُصُونَكِ حِصْناً حِصْناً، سَأقْتُلُ الحَرْبَ بِكْ، سَأَرْوِيْ ظَمَأَ البِلادِ كُلّهَا بِابْتِسَامَتكِ البَيْضَاءْ" أيضاً في نصوص أخرى يفكر "كَفَارِسٍ خَسِرَ الحَرْبَ" أو يفكر "كَمدينةٍ تًحتَ القَصفِ، تُقْلِقُهَا أخْبَارُ العَاجِلِ أكْثرَ منَ الحَربِ نَفْسِها" أو يفكر "كَغَرِيْبٍ خَائِفٍ لا يَتَوَقَّفُ الهاتِفُ عنٍ التَّلاعُبِ به"، وتتحول الأنثى الحبيبة إلى حائط صد لفجائع الحرب وويلاتها:
وحدَهُ وجْهُكِ من يَجْعلُنِي إنساناً خفيفاً
أفتحُ عينيَّ عليكِ فتَتَلاشَى صُورُ القتْلى، ودخانُ المعاركِ
ليسَ هذا تخلّياً عن الوعيِ بالجريمةِ التي تحدثُ هناكَ
الأسرُ المشرّدةُ المنتَهكةُ، طوابيرَ الجوعِ، مرضى الكولِيرا،
أمراءُ الحربِ، المُتاجرونَ بالوجعِ،
والوطنُ الذي كلَّما اتكأَ
على ضلعٍ من أضلاعِهِ وقعَ في هاويةٍ
ليسَ تخليّاً لكنّي تعبتُ منْ عدّ الخساراتِ
تعبتُ من توجُّساتي مِمّا سيَحدثُ بعدُ
تعبتُ منْ متابعةِ مجانينِ الصُّمُودِ ومجانينِ الحسْمِ
منْ غُربةٍ لا أعرفُ نِهَايتَها
ليسَ في فَمِي كلامٌ لأقولَهُ الليلةَ
أريدُ أنْ أشاهِدكِ فحسبْ
أنْ أمْحُوَ بابتسامَتكِ خطايَا هذا الزَّمنِ الصَّعبِ
دونَ أنْ أحَرِّكَ شفَتيَّ سأنظرُ إليكِ
ثمّ سأسْبلُ جفنيَّ كي أنامَ وأحلمَ بكِ وحدكِ
الأجواء الصوفية في الديوان لا تخفى، فالتصوف يكاد يكون العمود الفقري لتجربة الجيلاني الشعرية منذ ديوانه الأول "الوردة تفتح سرتها" الصادر في التسعينيات، لكن استثمار أجواء التصوف في هذا الديوان تأتي بشكل مختلف فهي في بعض النصوص تكاد تشبه تضرعات أبي حيان التوحيدي في "الإشارات الإلهية"، الفارق هو أن الشاعر هنا يقدمها سهلة بسيطة وفق اشتراطات قصيدة النثر حيث يسلكها في إطار اليومي والعادي والتفاصيل الحياتية القائمة على ثيمة القرب والبعد والغضب والرضا بين المحب والمحبوب أو العاشق والمعشوق:
انْشَغَلتَ بالعَرضِ وتَرَكتَ الجَوهَرَ
شَغَلكَ جَمَالُ المَخْلُوقِ عنْ جَمَالِ الخَالِقِ
قُلتَ لِلتُّرَابِ أنْتِ مَعْبُودِي فَخَسِرتَ التُّرابَ
وخَسِرتَ خَالقَ التُّرابِ
تَقَلَّبْ الآنَ في وَجَعِكَ
قَلبُكَ المَفْطُورُ الّذِي لا شِفَاءَ لَهُ
أصَابِعُكَ الّتِي فَاحَ حَرِيقُ أطْرَافِهَا
كانَ عَليْكَ أنْ تَكْسِرَ الكَأسَ مِنْ زَمَنٍ بَعيدٍ
أنْ تُغْمِضَ عَيْنَيكَ لِتَراهُ وحْدَهُ
أنْ تَشْرَبَ منْ خَمْرَتِهِ هُو
وتَبْكِي على سُجَّادَةِ شَغَفِكَ بِه
وتقُولُ له: ليسَ سِواكَ ياربّ
يقول الجيلاني "أزعم أني قدمت تجربة شعرية مختلفة، وأعدت لشعر الحب زخمه في زمان ندر فيه الحب، وقتلت الميديا وسهولة التواصل حالة الشغف والشوق التي كان يمليها ويحتمها بعد المحب عن المحبوب، رغم أن السوشيال ميديا حاضرة في معظم نصوص الديوان،لكنها تحولت صانع للشوق والشغف والدهشة التي لا تنقطع"، والحقيقة أن في نصوص الديوان توثيق مباشر لحالات الاتصال عبر السوشيال ميديا الماسنجر والواتس وغيرها بشكل كثيف لكنه موظف في شكل فني باذخ:
الحياةُ باهظةٌ
قالها العاشقُ وهو يذبحُ نفسهُ على الماسنجر
الحياةُ باهظةٌ
قالتها حبّةُ البردِ وهي تسقطُ في فمِ شاعرٍ مجنونٍ
"حَبّةُ البَردِ" عنوان الديوان والاسم الرديف الذي خلقه الشاعر لمحبوبته، وهو في النفس الوقت تيمة الديوان الأساسية، وقد تكرر ذكرها عشرات المرات في الديوان، عاكساً حالة الشغف بالاسم:
يا إلهي ماذا يحدثُ
أَهو فخٌّ أقعُ فيه ؟
لقدْ كَبُرتُ على هذه الزَّلازِل
منْ سنواتٍ وأنا رجلٌ عاقلٌ
أعرفُ النِّساءَ لكنِّي لا أرتجفُ لعيونِهنَّ
ولا تَصعَقُني ابتساماتُهن اللّذيذة
ماذا يحدثُ يا الله ؟
أيُّةُ أنثى هذه ؟
لقدْ أعادتْ في لحظةٍ كلَّ العصافيرِ إلى شجرتي
أعادتْها مُلوّنةً تُغَنِّي
أعادتَها يا الله
إنّها ليستْ مُجرّدَ أنثى
إنّها حبّةُ البَردِ التي رأيْتُها في المنامْ
ديوان "حَبّةُ البَرَدِ" بغلافه الأنيق جداً هو كما ذكرت سابقاً الديوان الثامن للشاعر، وهو أيضاً الكتاب رقم (20) بين كتبه التي تتوزع بين الشعر والنقد والتصوف والشفاهيات، وقد صدر الديوان في القاهرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في يناير 2019.