الأربعاء 15 مايو 2024

صلاح عبد الصبور.. «حلاج الكلمة والمُجِدد الجريء»

صلاح عبد الصبور

ثقافة4-5-2021 | 14:41

مريانا سامي

لا يختلف اثنان على حالة التفرد التي صنعها صلاح عبد الصبور الشاعر الذي يُعد أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي، وواحد من رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربي، وأبرز من أثر في المسرح الشعري في مصر والعالم العربي.

ويقول الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة عن الراحل صلاح عبد الصبور: "تميزت قصيدة صلاح بالجاذبية، والعمق، والجرأة اللغوية، باحثًا عن التجديد فى كل قصيدة، محاولًا البناء الفني المختلف، حيث امتزجت رؤيته الشعرية بالرؤية الفلسفية التي كونها من قراءات متعددة في مجالات كثيرة، خاصة في الأدب العالمي، والتراث العربي".

 

الشعر الحر

بداية لابد أن نعرف ما الشعر الحر، والشعر الحر لمن لا يعرفه فهو شكل من أشكال الشعر الحديث الخارج عن حدود الشكل الفني للشعر الموروث إذ لا يلتزم فيه الشاعر بوحدة البيت كما في الشعر العمودي ولكنه يقيم التفعيلة مقام البيت ويقول الدكتور عز الدين إسماعيل في دراسة الباحث صلاح أحمد، عن البنية الموسیقية في الإطار الجديد للقصيدة لم يعد للبيت التقلیدي وجود، أو لنقل إنه لم يعد للنظام التقليدي للبیت تحكم، بعد أن كسر هذا الإطار المسمط ، وترك مفتوحا لاحتمالات كثيرة، أعني من النظام لا نعرف على وجه التحديد أی شكل منها سيأخذ البيت الأشكال مختلفة، ومن هنا لم نعد نسمي البيت بيتا ، بل صرنا نسميه سطرا من الشعر والسطر تركيبة موسيقية للكلام، لا ترتبط بالشكل المحدود للبيت الشعري ولابأي شکل خارجي ثابت، وإنما تتخذ هذه التركيبة دائما الشكل الذي يرتاح له الشاعر أولاً، إن الشكل الجديد لم يستبق من صورة النظام القديم للبيت إلا الوحدة الموسيقية الأساسية التي تتكرر فيها وهي التفعيلة.

 

العامية والشعر العربي

كان صلاح عبد الصبور طالبًا في كلية الآداب يدرس اللغة العربية وكان شاعرًا يقرأ ويستقي من كل أنواع الثقافات ليكّون مزيجًا خاص به من خلال استلهام التراث المختلف لكلاسيكيات الأدب في كل العالم ومن خلال إلمامه بالأساطير والحكايات وكذلك قصص أهم رواد وأعلام الكلمة، كان يرى أن اللغة العربية لابد أن يكتب بها أدبنا لا دخل للعامية في الشعر أو الأدب لإنه يمحي اللغة ويرسخ للفرقة بين الأمة فقد هاجم عبدالصبور موجة العامية التي قادها الكثير من المفكرين الذين هدفوا إلى الإطاحه بأساس الأمة  كما يرى، فيصر على إنه يجب علينا أن نكتب بالعربية ما أمكننا وتكون العامية هي الاستثناء ويرى أن شعر العامية يقف في فراغ ولا مبرر لنشوئه والفصحى أكثر ضبطًا وتحديداً للدلالات من العامية ومن يشجعها فكأنه يرفع شعر الأمية.

من هنا كان موقف عبدالصبور تجاه لغته الشعرية واضح وضوح الشمس، فقد طوع المفردات العربية لينتج لنا شعرًا حرًا لا يمشي على نهج التقليد وقد هاجمه البعض في ذلك بداية الأمر متمسكين بتراثهم العربي وبشكل القصيدة العربية التقليدية، لكن عبدالصبور ذو الخلفية العالمية الشمولية الذي تأثر بالشعر العريي وبكلاسيكيات الأدب العالمي أهمهم شعر أليوت الذي توحد مع أفكاره تجاه الموروث الأدبي فنراه يقول "ليس التراث حركة جامدة، ولكنه حركة متجددة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمد عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثًا، ولكل شاعر أن يختار تراثه الخاص".

قضية التراث الأدبي

وربما شغلت قضية التراث الأدبي صلاح عبد الصبور طيلة حياته فظل يشرح مفاهيم الأصالة والمعاصرة بشكل مختلف تمامًا فلم يكتب عبد الصبور الشعر المعاصر نسبة لزمن كتاباته إنما عبر عن روح عصره بأصالة التراث المُتجدد الذي يهب حياة جديدة للشعر العربي.

فيقول صلاح عبد الصبور في حوار له نشر بعد وفاته في مجلة أدب ونقد: أنا أرى أن مصطلح أصالة المعاصرة أفضل وأدق للتعبير عن تجديد التراث فبدلًا من أن يصبح جهدنا أن نكون أصلاء ومعاصرين، فليكن جهدنا أن نصبح  معاصرين أصلاء.

أننا لا نريد أن نحمل تراثنا على أكتافنا كعبء فالتراث في معناه الحق ينتسب إلى من يستفيد منه لا من يحافظ عليه فاترًا مجمدًا في علب التاريخ ومتاحفه، والتراث وحده لا يصنع ثقافة، والا أصبحت تكرارًا سقيمًا لتجربة انسانية كانت جديدة في زمانها ثم فقدت بعد ذلك مبررها التاریخي والإنساني.

ولقد علمتنی رؤيتي للتاريخ الا أغلو في تقدير أهميتنا. هذه المغالاة نقطة ضعفنا ، ومنها توجه إلينا السهام القاتلة، إن  الثقافة العربية الكلاسيكية ليست أكبر قدرًا من الثقافة الهندية أو الأغريقية، فلماذا اذن مذا الزهو الأجوف ؟

ولماذا نتخيل أننا وحدنا أصحاب التراث الذي يجب أن يحرص عليه جامدًا، بل أن نحرص على أن نكرره بنفس ظروفه وانجازاته، علينا أن نمضي جميعاً في اتجاة واحد وهو الأصالة المعاصرة.

وفي دراسة بحثية يُذكر أن القيمة الأساسية في تجربة صلاح عبد الصبور الشعرية تقوم على عنصرين أساسيين ، يتحدد أولهما في قدراته على تمثل تجارب الحياة شكلا وموضوعا، ويتمثل ثانيهما في ثقافته العريضة والمتنوعة ويطرح الشاعر في البداية محنته الذاتية كفرد في مواجهة المجموع من خلال ديوانه "الناس في بلادي"، ثم يفلسف هذه المحنة في تجربته التالية أقول لكم، وتكون النتيجة التالية نوعا من التأمل العميق ومحاولة اكتشاف قوانين الصراع الانساني تأملات في زمن جريخ داخل هذه الانساق الفكرية تتفجر بذور الرفض الذي يحرك وجدان الشاعر إلى محاكاة البطل الرومانسي أحلام الفارس القدیم.

 

وفی دیوان "شجر الليل" يسمی لاكتشاف إيقاعات جديدة للمركب اللغوي، فضلا عن حالة التصوف التي تسيطر على وجدان الشاعر، والتي اتضحت وتبلورت بمسرحيته ومأساة،هو ليس تصوفا متعاليا على الواقع ، بل هو تصوف مشارك الحلاج في الحياة، يسعى لإعادة صياغتها على نحو جديد، بحيث تكون محتملة وممكنة، وهذا ما يكشف عنه ديوانه الأخير الابحار في الذاكرة، كذلك تقدم الشاعر باسهاماته في المسرح الشعري، حيث يتحول البطل الرومانسي والفارس القديم إلى بطل مادي اجتماعي ومأساة تقتله الكلمة، فيرتفع باستشهاده فوق ظلم السلطة وقهر الواقع، ثم يدير القهر في مسرحيته مسافر الليل وفي ليلي والمجنون، يتنبأ بالفارس المخلص القادم من بعده، بشرط أن يحمل سيفا، وأخيرا تكشف مسرحيته بعد أن يموت الملك، عن نوع من التأمل الفلسفى في قضايا الموت والحكم والحب والمستقبل.

 

عنصر الصراع 

وعن توظيف صلاح عبد الصبور لعنصر الصراع في شعره، يقول الدكتور محمد عبدالمنعم في دراسة بحثية له بمجلة الدراسات الشرقية لعام2014 ، استطاع صلاح عبد الصبور إثراء نصه الشعري من خلال توظيف عنصر الصراع في أكثر قصائده، إذ يمثل هذا الصراع عنصرا فعالا، لا في سير الأحداث وتفاعلها فحسب بل في كل جزء من جزئيات قصائده حتى أصبح ذلك ميزة من مميزات شعره، وربما يرجع ذلك إلى موقفه من الكون والحياة، فموقفه منهما هو موقف الرفض فكان يشعر دائما بالإحباط في عالم الأسفلت، وعن فقد فيه الطهر، ويبحث عن الصفاء في عالم التعتيم، وعن الرقة في زمن البكارة في واقع التخليط والقمامة فالإنسان والصراع وتناقضات الحياة هي العناصر الأساسية لكل قصيدة لها هذا الطابع الدرامي لابد أن يكون عليه هذا.

فهذه الثنائيات المتضادة في نفس الشاعر بين ما هو كائن وما ينبغي الكون كانت بمثابة المفجر لهذا الصراع في كثير من قصائده وهذا ما صرح به صلاح عبد الصبور نفسه حينما اتهمه النقاد بغلبة سمة الحزن على شعره فقال لست شاعر حزينا ولكن شاعر متألم وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي كما قال شيلي شهوة الإصلاح العالم، فصلاح عبد الصبور يعد من أهم الشعراء المحدثين معاناة وإحساسا بالغربة، والقلق والتوتر والحزن والخوف والضغط الاجتماعي والانعزال، تلك الظواهر والحالات الإنسانية جعلته يعيش في حالة دائمة من الألم.

المسرح الشعري

وعن المسرح الشعري يدير لصلاح عبدالصبور بالكثير من الأعمال الإبداعية فهو الشاعر الذي حاول تطويع المفردة الشعرية ببراعة لخدمة المسرح من جديد بعدما دخل في مرحلة كساد مؤسفة، فكتب عبدالصبور الكثير من المسرحيات منها الأميرة تنتظر، وصدرت في عام1970   تتعلق المسرحية بقرار يجب على "امرأة/أميرة" أن تقرره كما سيتم عرض ملخص للمسرحية فيما بعد كذلك تعرض المسرحية الأحداث والضغوطات النفسية التي تتعرض لها الأميرة من أجل اتخاذ هذا القرار كذلك مسرحيته مسافر ليل التي تعد أنضج أعماله المسرحية والتي يحكي فيها عن مأساة مواطن يتم قهره بواسطة كمسري القطار معبرًا في ذلك عن تسلط السلطات على حياة البشر، كذلك أيضاً مسرحياته ليلى والمجنون وقصيدة لحن.

وفي هذا الصدد يذكر الدكتور مصطفى عبدالوارث في مقال نقدي له، إنه عند عبد الصبور يبدأ المسرح الشعرى المصري والعربي بمعناه الحقيقي، ويمكن القول إنه ولد بالفعل على يده، إذ تميز بإحكام الحكاية الشعرية وإحكام رسم الشخصية وهو من ندرة بين الشعراء العرب تجاوزت مرحلة وضع الشعر فوق المسرح فى شكل مونولوجات وحوارات إلى مسرح بكل معنى الكلمة ولكن صياغته شعراً لا نثراً.

هكذا رحل حلاج الكلمة وفارس الشعر والمسرح الشعري بعدما أثرى موروثنا الأدبي بكم هائل من المفردات والكلمات والمسرحيات المعبرة والملهمة.