الأحد 28 ابريل 2024

مقالات5-5-2021 | 17:26

إن الناس في هذه الحياة لا تسلم أن تتعرض لبعض المواقف أو الأحداث وتواجه بعض الشدائد التي من شأنها أن تثير وتستثير غضبهم؛ مما تجعلهم يمتلئون غيظًا.

وبمجرد أن تُذكرَ كلمة الغيظ، فإنه يأتي في الذهن مباشرة أنها تعبّر عن ألمٍ نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، ومعلوم أن النفس الإنسانية تنفعل وتتأثر بما تسمع وترى؛ مما يجعلها تريد أن تردَّ الإيذاء الواقع عليها، وهذا في حد ذاته انفعال طبيعي لها، إلا أن النصوص القرآنية المشرفة، والنصوص النبوية المباركة تدعونا أن نكف انفعال النفس عن عقاب مَنْ أذاها، فنمنع الجوارح ونصون اللسان عن الإساءة، ونلتزم الأدب في السلوك.

ومن هنا فإن المقصود من كظم الغيظ: هو عدم إظهاره على الجوارح بقول أو فعل، أي: بما يعبر عن هذا الغيظ بسبٍّ أو ضربٍ أو نحوهما للتشفي والانتقام.

وقد جاءت الآيات القرآنية المشرفة تدعونا إلى كظم الغيظ وضبط النفس، فقد أثنى الله عز وجل على هذه الطائفة التي استفادت كظم الغيظ، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}.

وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصِّلت: 34-35].

قال الزَّجَّاج: وما يُلَقَّى هذه الفِعلة وهذه الحالة -وهي دفع السَّيئة بالحسنة- إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على كَظْم الغَيْظ، واحتمال المكروه [فتح القدير للشوكاني]. 

وكظم الغيظ لمن اتسم به هو طريق يوصل إلى دخول الجنة بغير حساب؛ لأنه إذا ورد أن من جملة مَنْ يدخلون الجنة بغير حساب "الصابرون"، فإن من تميّز بكظم الغيظ يكون في قمة الصبر؛ لما تتحمله نفسه من مشقة الألم الذي تعرض له، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}[فصلت :35]، أي: كظم الغيظ.

وقد جاءت الأحاديث تترى تؤكد على فضل كاظم الغيظ؛ ليؤكد الشرع بها على إيجاد نفوسًا تم تصفيتها من بواعث الحقد والبغض والكراهية، وتؤسس لقبول الآخر، وتمهّد للعفو عنه، فينعكس ذلك على سائر أفراد المجتمع بالرحمة والمحبة والمودة، فعن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَىِّ الْحُورِ شَاءَ [أخرجه أبو داود وأحمد].

فقوله صلى الله عليه وسلم (من كظم غيظًا) أي اجترع غضبًا كامنًا فيه واحتمله وصبر عليه. (وهو يستطيع أن ينفّذه)، أي: يمضيه. (دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق) أي شهره بين الناس وأثنى عليه وتباهى به ويقال في حقه هذا الذي صدرت منه هذه الخصلة العظيمة (حتى يخيره) أي يجعله مخيرًا (في أي الحور شاء) أي في أخذ أيهن شاء وهو كناية عن إدخاله الجنة المنيعة وإيصاله الدرجة الرفيعة بسبب كظمه للغيظ.

ومما ورد كذلك في كظم الغيظ ما روي عن جَارِيَةَ بن قُدَامَةَ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي قَوْلا يَنْفَعُنِي وَأقْلِلْ لَعَلِّي أَعِيهِ، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ مِرَارًا، يَقُولُ:"لا تَغْضَبْ [ أخرجه أحمد والطبراني].

وعن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُشْرَفَ لَهُ بنيَانٌ، وَأَنْ تُرْفَعَ لَهُ دَرَجَاتٌ، فَلْيَعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِ مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلْ مَنْ قَطَعَهُ" [ أخرجه الطبراني].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) [ أخرجه البخاري ومسلم]، فهذا الحديث يؤكد على أن القوي بحق هو الذي يملك نفسه عند الغضب.

ومن فوائد كظم الغيظ أن صاحبه قد قهر الشيطان وغلبه، فعن أنس، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: مرَّ بقوم يَصْطَرِعون، فقال: (ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، فلانٌ الصَّريع، لا ينتدِب له أحدٌ إلَّا صَرَعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألَا أدلُّكم على من هو أشدُّ منه؟ رجلٌ ظلمه رجلٌ، فكَظَم غَيْظَه فغلبه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه) [ أخرجه البزار].  

ومن جملة ما ورد في الأخبار والآثار عن فضل كاظم الغيظ، نجد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما غضب على من قال له ما تقضي بالحق فاحمر وجهه قيل له يا أمير المؤمنين ألم تسمع الله يقول: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وهذا من الجاهلين ؟ فقال صدقت فكأنما كان نارا فأطفئت [فيض القدير].

وقال ابن عبد البر: (مَن كَظَم غَيْظَه وردَّ غَضَبه، أخزى شيطانه، وسَلِمت مروءته ودينه) [3331] ((التمهيد لابن عبد البر)).

ومن نماذج كظم الغيظ ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)[أخرجه البخاري] 

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع السيئة بالحسنة ويتحمل هذا التصرف الذي يؤذي النفس، بل ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءً ليتألف قلبه به.

ومما ورد من كظم الغيظ في حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما روي عن أبي برزة، قال: (قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَغَيَّظَ عَلَى رَجُلٍ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقُلْتُ تَأْذَنُ لِى يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ فَأَذْهَبَتْ كَلِمَتِى غَضَبَهُ فَقَامَ فَدَخَلَ فَأَرْسَلَ إِلَىَّ فَقَالَ مَا الَّذِى قُلْتَ آنِفًا قُلْتُ ائْذَنْ لِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ أَكُنْتَ فَاعِلاً لَوْ أَمَرْتُكَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-)[أخرجه أبو داود والبزار]  (1).

Dr.Randa
Dr.Radwa