بقلم : د. زين نصار
فى الثانى من أبريل 2017 رحل عن عالمنا فى هدوء ودون ضجة، أحد كبار المؤلفين الموسيقيين المصريين الذى أثرى حياتنا بمؤلفات موسيقية أوركسترالية دخلت التاريخ الموسيقى المصرى الحديث من أوسع الأبواب... ذلك هو مؤلف الموسيقى المصرى محمد رفعت جرانة، الذى ينتمى إلى الجيل الثانى من مؤلفى الموسيقى المصريين الذى ضم مؤلفين أمثال:
إبراهيم حجاج، فؤاد الظاهرى، عبدالحليم نويرة، على إسماعيل، عطية شرارة.
وأغلب أعضاء هذا الجيل درسوا الموسيقى العربية، وبعد أن أتقنوها وعملوا فى سوق العمل الموسيقى، اتجهوا بعد ذلك إلى دراسة علوم الموسيقى الغربية من «بناء موسيقى، هارمونى، بوليفونية، كتابة أوركسترالية»، ثم ألفوا موسيقى ليؤديها الأوركسترا السيمفونى، وحرصوا على أن يحافظوا فى تلك المؤلفات على الهوية الموسيقية المصرية.
والآن نلقى بعض الأضواء على حياة وأهم أعمال المؤلف الموسيقى المصرى الراحل محمد رفعت جرانة، الذى وُلد فى التاسع والعشرين من يناير 1924 بحى السيدة زينب بالقاهرة، وقد بدأ دراسته للموسيقى وهو فى الثانية عشرة من عمره، وأثناء دراسته بالمرحلة الثانوية، درس مع مؤلف الموسيقى المصرى فؤاد الظاهرى، ثم درس العلوم الموسيقية الغربية على الأستاذ الإيطالى ميناتو، الذى كان يعيش فى مصر آنذاك. تعلم جرانة عزف البيانو فى معهد «فيفا» بالقاهرة، كما كان يعزف آلة التروبيت فى أوركسترا الهواة بالمعهد تحت قيادة الموسيقى الألمانى هانز هيكمان.
وعندما بلغ العشرين من عمره عام 1944 التحق بالمعهد العالى للموسيقى المسرحية، وتخرج فيه عام 1948 من قسم الآلات بامتياز، وتخصص فى عزف آلة الترومبيت. وبعد ذلك عمل فى الفرق الموسيقية المختلفة
عازفاً لآلة «الترومبيت». وفى عام 1952 عين جرانة مدرساً بوزارة المعارف، وفى نفس الوقت عمل عازفاً لآلة «الترومبيت» فى أوركسترا الإذاعة المصرية الذى تكون عام 1951 وبعد ذلك تلقى التشجيع من المستشار الموسيقى للإذاعة المصرية محمد حسن الشجاعى الذى عين عام 1953 فسمح له بتسجيل عدد من مؤلفاته الموسيقية القصيرة، فدفعه ذلك إلى مواصلة دراسة العلوم الموسيقية مع أستاذه الإيطالى ميناتو لمدة عشر سنوات متواصلة، وبدأ يكتب مؤلفاته الموسيقية مستلهماً التراث الشعبى والدينى المصرى، مع اهتمامه بشكل واضح بكتابة المؤلفات الموسيقية ذات البرنامج، أى التى تصور بالموسيقى موضوعاً محدداً، مثل القصائد السيمفونية، والسيمفونيات التصويرية، والمتتاليات التصويرية.
وفى عام 1960 عين جرانة قائداً لأوركسترا التليفزيون المصرى، وفى ذلك العام ألف السيمفونية التصويرية «23 يوليو» التى صور فيها من خلال حركاتها، حال الشعب المصرى قبل عام 1952، ثم قيام ثورة 23 يوليو 1952، وخرج الملك، وفرحة الشعب بنجاح الثورة، وقد سجل هذه السيمفونية أوركسترا التليفزيون المصرى بقيادة المؤلف. وفى عام 1962 عين رفعت جرانة قائداً لأوركسترا فرقة القاهرة الاستعراضية، وفى نفس العام «1962» ألف رفعت جرانة «السيمفونية العربية» مجسداً بالموسيقى فكرة الوحدة العربية التى كان ينادى بها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى ذلك الوقت، فاستخدم رفعت جرانة فى سيمفونيته العربية ألحاناً شعبية من مصر ومن بعض البلاد العربية لتحقيق الفكرة موسيقياً.
وفى عام 1964 قدم رفعت جرانة تجربة جديدة تماماً على الموسيقى العربية - وهى لم تتكرر حتى الآن - عندما ألف «متتالية الصور» للأوركسترا،، التى عزفها أوركسترا القاهرة السيمفونى لأول مرة فى الثالث عشر من يونيه 1964وقد قال الناقد الموسيقى الكبير أحمد المصرى معلقاً على «متتالية الصور» فى برنامج ذلك الحفل: «سجل جرانة فى هذا العمل ما اطبع فى نفسه من أحاسيس وانفعالات خلال زياراته لمعارض بعض الفنانين التشكيليين المصريين وهم «سيف وانلى، أدهم وانلى، أحمد فؤاد سليم، رشدى إسكندر، جمال السجينى، كمال خليفة، عبدالسلام أحمد، هنرى صمويل».
يلاحظ هنا أن جرانة لم يحاول فى هذه المتتالية أن يعطينا صوراً محددة، فهو لا يقدم عملاً بعينه يمكن التعرف عليه، بل هو يصور أحاسيسه تجاه اللوحات والتماثيل التى شاهدها فى تلك المعارض.
وفى عام 1965 ألف رفعت جرانة كونشيرتو للتشيللو والأوركسترا بناء على طلب من عازف التشيللو المصرى ناجى الحبشى المقيم بالسويد، بأن يؤلف له جرانة عملاً مصرياً ليعزفه فى جولاته الفنية فى أوروبا. والكونشيرتو عزيزى القارئ هو أحد المؤلفات الموسيقية التى يحرص فيها المؤلف على إظهار البراعة المتميزة لعازف الآلة المنفردة من الناحيتين التكنيكية والتعبيرية، وعلى الجانب الآخر يظهر المؤلف مدى تمكنه من الكتابة لآلات الأوركسترا المختلفة بألوانها الصوتية المتنوعة سواء منها الآلات الوترية أو آلات النفخ الخشبية أو آلات النفخ النحاسية أو آلات الإيقاع، ومدى نجاح المؤلف الموسيقى فى تحقيق التوازن بين دور كل من العازف المنفرد والأوركسترا. وقد قدم كونشيرتو التشيللو والأوركسترا لرفعت جرانة فى الثانى عشر من يونيه 1965، وعزف التشيللو المنفرد «فانسلاف إفلر» بمصاحبة أوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة جيكا زدرافكوفيتش. وفى العام التالى فكر رفعت جرانة أن يؤلف عملاً لآلة «القانون» مع الأوركسترا، وكان ذلك فى منتصف شهر رمضان من ذلك العام، فطلب من صديقه عازف القانون البارع عبدالفتاح منسى أن يسمعه الإمكانيات الثرية لآلة القانون عبر مساحتها الصوتية الواسعة، ولونها الصوتى المتميز. وبعد أن تم ذلك ظل جرانة حائراً من أين يبدأ هذا العمل الجديد والمهم، وعندما جاءت صلاة عيد الفطر المبارك، واستمع رفعت جرانة إلى تكبيرات المصلين فى المسجد وهم يرددون كلمات «الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً» التقط الفكرة على الفور، وجلس يؤلف الحركة الأولى من كونشيرتو القانون والأوركسترا، وبناها على لحن الكلمات سالفة الذكر، وانتهى من كتابة الحركة الأولى خلال أسبوع واحد فقط، وبعد ذلك بدأ يؤلف الحركة الثانية من الكونشيرتو، وبناها على لحن كلمات «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع» التى استقبل بها أهل يثرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكة إلى المدينة، ثم بنى الحركة الثالثة من الكونشيرتو على لحن «أذان الصلاة». وهكذا وجدنا آلة «القانون» المنفردة تقف موقف الند للند أمام الأوركسترا السيمفونى وتتبادل معه الحوار الموسيقى، ويظهر عازف القانون المنفرد براعته فى الأداء من الناحيتين التكنيكية والتعبيرية. لكل ذلك احتل هذا الكونشيرتو مكانة فريدة فى تاريخ الموسيقى المصرية الحديثة. والجدير بالذكر أن رفعت جرانة قد انتهى من تأليف كونشيرتو القانون والأوركسترا فى الخامس عشر من أكتوبر 1966، وسجله عازف القانون القدير سيد رجب بمصاحبة الأوركسترا السيمفونى العربى بقيادة شعبان أبو السعد.
وفى عام 1966 أيضاً ألف رفعت جرانة القصيد السيمفونى «بور سعيد» مخلداً فيه بطولات أبناء مدينة بورسعيد البواسل، وما قاموا به من أعمال فدائية
أثناء العدوان الثلاثى على مصر الذى وقع فى التاسع والعشرين من أكتوبر 1956 والقصيد السيمفونى عزيزى القارئ هو مؤلف موسيقى حر الصياغة يعزفه الأوكسترا السيمفونى، ويكون فى حركة واحدة متوسطة الطول، ويصور موضوعاً محدداً يذكر فى العنوان. وقد بنى رفعت جرانة القصيد السيمفونى «بورسعيد» على بعض ألحان الأناشيد الوطنية التى قدمت أثناء المعارك، وأبدعها كبار الشعراء ولحنها كبار الملحنين وغناها كبار المطربين والمطربات، وتلك الأناشيد هى «الجنة هى بلادنا.. وجهنم هى حدودنا.. واللى يخطيها راح يهلك فيها» وغنتها المطربة الكبيرة نجاة، ونشيد «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر فوق كيد المعتدى.. والله للمظلوم خير مؤيد» وغنته المجموعة من كلمات عبدالله شمس الدين، وتلحين محمود الشريف، ونشيد «والله زمان يا سلاحي» الذى شدت به كوكب الشرق أم كلثوم من كلمات صلاح جاهين وتلحين كمال الطويل، كما استعان جرانة بلحن نشيد «حنحارب.. حنحارب.. كل الناس حتحارب» وغنته المجموعة، وكذلك استخدم جرانة لحن نشيد «ناصر كلنا بنحبك.. ناصر وحنفضل جنبك»، الذى لحنه وغناه موسيقيار الأجيال محمد عبدالوهاب، ليرمز به جرانة إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية أثناء العدوان الثلاثى على مصر.
وفى عام 1972 ألف رفعت جرانة القصيد السيمفونى «النيل» وصور فيه رحلة نهر النيل من المنبع إلى المصب، وعبر فيه عن الطابع الموسيقى للبلاد التى يمر بها نهر النيل أثناء رحلته الطويلة.
وفى عام 1974 ألف رفعت جرانة القصيد السيمفونى «6 أكتوبر» وقد صور من خلاله المراحل المختلفة التى مرت بها معارك السادس من أكتوبر 1973 المجيدة من خلال الأوركسترا السيمفونى، بعد أن استمع إلى شهادات عدد من أبطال تلك الحرب، وعرف البطولات التى قام بها جنودنا الأبطال فى تلك المعارك.
ويستهل القصيد السيمفونى «6 أكتوبر» بتصوير الهدوء الذى كان يسود جبهة القتال، كما صور صوت بندول الساعة حالة الترقب والانتظار لحلول «ساعة الصفر»، وتستمر دقات بندول الساعة، ثم تعلن «ساعة الصفر» من آلات الأجراس الساعة الثانية ظهراً، وبعدها يبدأ الهجوم الكبير لعبور قناة السويس، وتصوره فقرة قوية يعزفها الأوركسترا كاملاً، ويسمع جزء من السلام الجمهورى المصرى تعبيرا عن رفع الأعلام المصرية فوق جبهة القتال.
ومن الجدير بالذكر أن رفعت جرانة قد حقق نجاحاً كبيراً فى أسلوب كتابته للأوركسترا بآلاته المتنوعة عن المراحل المختلفة التى مرت بها حرب السادس من أكتوبر 1973 المجيدة.
تلقى محمد رفعت جرانة العديد من مظاهر التكريم فى حياته، فقد فاز بجائزة الدولة التشجيعية فى التأليف الموسيقى عام 1966، ومُنح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1967، وكرمه مهرجان «اتجاهات عربية» بدار الأوبرا المصرية عام 2004. وقد عاش رفعت جرانة بعيداً عن الأضواء باستثناء عدد من البرامج الإذاعية التى سجلت معه أحاديث وأذاعتها، كما سجل التليفزيون المصرى برنامجا عنه كما سجل المركز القومى للمسرح والفنون الشعبية والموسيقى برنامجاً عنه، بالإضافة لعدد من المقالات الصحفية، والدراسات الأكاديمية التى قدِّمت عن أعماله.
ترك لنا الراحل تراثاً من المؤلفات الموسيقية الأوركسترالية، التى أطالب بأن تتاح الفرصة للجمهور أن يستمع إليها مسجلة وحية، لأن تلك المؤلفات مكتوبة باللغة التى يفهمها العالم وهى التى ترسل رسالة للعالم الخارجى عن مدى التقدم الذى حققه مؤلفو الموسيقى المصريون فى مؤلفاتهم مع محافظتهم على الهوية الموسيقية المصرية.