الإثنين 17 يونيو 2024

توجًه عشاقه ملكا للعود .. الأمير الصعلوك .. والبائع الذي صار ملكًا

16-5-2017 | 10:18

بقلم: أحمد إبراهيم أحمد

يعيش الفنان صورة نمطية مثالية في عيون محبيه وجمهوره يروج لها الفنان ووسائل الإعلام والحقيقة أن هذه الصورة المثالية ليست إلا الجزء الظاهر من جبل الثلج الطافي؛ بينما تمثل حياة الفنان الخاصة والتي لا يعرف أحد عنها شيئاً سوي القلة الجزء الأكبر من هذا الجبل.

حدث ذلك على سبيل المثال لا الحصر للسيدة أم كلثوم حين أصابها تضخم الغدة الدرقية وهددتها جراحة استئصال هذا التضخم بفقد صوتها، فعاشت أزمة رهيبة حتى توصلت لعلاج التضخم باليود المشع وكان علاجاً حديثاً وقتها في أمريكا؛ كما حدث مع عبد الحليم حافظ الذي كان يسترد جزءاً من حيويته على خشبة المسرح وهو يعاني من نزيف المريء جراء مضاعفات البلهارسيا؛ كذلك لم يكن الأمير فريد فهد بعيداً عن المعاناة مدى حياته التي عاش أولها فقيراً صعلوكاً مغترباً يؤدي أعمالاً لا يتخيل أحد من بني عشيرته أن الأيام ستجبره على القيام بها، ثم يمضي رحلة عمره بعدما يشتهر كموسيقي ومطرب وممثل في معية مشاكل قلبية ناتجة عن عدوى ميكروبية أصابته في منتصف حياته!

هذا هو الأمير فريد ابن الأمير فهد فرحان إسماعيل الأطرش الذي تزوج ثلاث مرات، وكانت زوجته الثانية هي الأميرة علياء حسين المنذر التي أنجب منها خمسة أولاد ثلاثة ذكور هم أنور، وفريد، وفؤاد، وبنتان هما وداد، وآمال التي صارت المطربة الشهيرة أسمهان، وأنجبت الأم ابنها فريد سنة 1915 م ويقال 1910 م في بلدة القريا بجبل الدروز حيث كان لأسرته كأمراء دور وطني فعال، فعانى الحرمان من والده منذ طفولته واضطر للسفر مع أمه وأخوته هرباً من الفرنسيين المعتزمين اعتقالهم انتقاماً من وطنية الأب وعائلة الأطرش الذين قاوموا الاحتلال، وقاتلوا الفرنسيين، فجاءت الأميرة علياء وأطفالها فريد وفؤاد وأسمهان للقاهرة ليعيشوا في حجرتين صغيرتين متواضعتين حين دفعت بهم الظروف للاغتراب، وكانت ذات صوت جميل تؤدي (العتابا والميجانا) أشهر الأشكال الغنائية المنتشرة في سورية الكبرى قبل التقسيم.

يقول فريد: "الحقيقة التي عذبتني هو هذا الواقع الذي صرنا إليه دفعة واحدة، كما أن الصدمة التي هزتني هي رؤية والدتي تكد على شغل الإبرة إكراماً لبعض العيش.".

بداية قاسية

التحق فريد بإحدى المدارس الفرنسية (الخرنفش) وكانت الأسرة قد غيرت لقبها لكوسا بدلاً من الأطرش للاحتياط من ملاحقة الفرنسيين لكن ذات يوم زار المدرسة زائر يعرف عائلة الأطرش فأشاد بها، فطردت إدارة المدرسة الفرنسية فريد ليلتحق بعدها بمدرسة بطريركية الروم الكاثوليك، وانقطعت أخبار الأمير فهد ونفد المال من الأم علياء، ولم يعد أجر العمل في الأديرة يكفي لتغطية احتياجاتها وأبنائها فقامت الأميرة من عائلة المنذر عريقة الأصل بالغناء في روض الفرج!

كان فريد وفؤاد يرافقانها حيثما تذهب، وكان بيتها المتواضع ملتقى للفنانين والمثقفين من مصر والبلاد العربية مما أثر في تكوين فريد وأخته أمال، وحرصت الأم على تعليم أمال وفريد إلا أن زكي باشا أوصى بدخوله معهد الموسيقى وقُبل.

يقول فريد: "منذ استمعت إلى غناء وعزف أمي وأنا أسبح في هذا البحر الكبير كقطرة.".

دفعت ظروف الحرب القاسية فريد إلى امتهان أعمال بسيطة وشاقة رغم صغر سنه بجانب دراسته في المعهد فقام ببيع القماش، وتوزيع الإعلانات وأعمال بسيطة أخرى، ليدعم والدته في إعالة الأسرة وظل يحلم بفرصة فنية ينطلق منها حتى زكاه فريد غصن عند المطرب إبراهيم حمودة فطلب منه العزف على العود في فرقته، وشكل ذلك نقلة هامة في حياته حتى أقام زكي باشا حفلة يدعم بها الثوار غنى فيها فريد أغنية وطنية حققت نجاحاً شجعه على الاتصال ببديعة مصابني التي ألحقته مع مجموعة المغنين في كازينو بديعة فوافق ثم أقنعها أن يغني بمفرده.

يقول فريد: "خيل لي في لحظة أن الدنيا انتهت، وبدت وكأنها تشرق من جديد في لحظة ثانية... هل هي ابتسامة الأم وما تفعله في نفس وليدها؟".

لم يُدر عليه عمله هذا ما يحتاجه وأخذت أحواله المادية تتدهور، فعاد للعمل في محطة شتال الأهلية حتى تقرر امتحانه في المعهد لكنه لسوء حظه أصيب بزكام، وأصرت اللجنة على عدم التأجيل وكانت النتيجة فصله من المعهد لكن طلب منه مدحت عاصم العزف على العود مرة في الأسبوع للإذاعة، فترجاه فريد أن يغني، فوافق عاصم بشرط الامتثال أمام اللجنة وكانوا نفس الأشخاص الذين امتحنوه من قبل لكن كان معهم مدحت عاصم هذه المرة، وغنى فريد لينتصر أخيراً ويبدأ في تسجيل أغنياته، وكانت أولاها "يا ريتني طير لأطير حواليك" من كلمات وألحان يحيى اللبابيدى، وصار يغني في الإذاعة مرتين أسبوعياً وكان قمة في السعادة رغم أجره الزهيد.

يقول فريد: "كنت سعيداً رغم كل التعب الذي أبذله في النهار، فإحساسي أنني أعيل أسرتي كان يمنحني قسطاً من الرضا، ويمدني بالموسيقى إحساسي أني اتعلم الموسيقى.".

شجعه نجاح أغنيته الأولى على الاستعانة بفرقة موسيقية وعازفين كبار كأحمد الحفناوي ويعقوب طانيوس، وأضاف للفرقة آلات غربية، وسجل أعمالاً غنائية خرج منها مادياً خاسراً رغم تشجيع الجمهور، وتأكد بعدها أن ميكروفون الإذاعة هو العروة الوثقى والرابط القوي بينه وبين الجمهور.

يقول: "يخرج الإنسان من مشكلة ليواجه مشكلة ثانية... هل هو اختبار من الحياة؟".

جوانب أخرى فى حياته

وعُرف عن فريد حبه للخيل والمراهنة في سباقات الخيول وكان في ميدان السباق ذات يوم وراهن على حصان وكسب... لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فطعن فؤاده علمه بوفاة أخته أسمهان في حادث سيارة وقت حصوله على الجائزة، فترك موتها أثراً عميقاً في قلبه وحياته، وغرق في المقامرة بعنف معتقداً أنها قادرة أن تنسيه آلام فقد الأخت الغالية ووجع الحياة القاسي، فأدمن لعب الورق حتى قرر الإقلاع بنفسه عن هذه العادة غير المستحبة ليستعيد حياته.

يقول: "علمتني الحياة أن اليوم الذي يمر ليس بالإمكان أن يعود أبداً مهما كانت المحاولة... الوقت هو أثمن ما في الحياة وأغلى من كنوز الأرض.".

فريد والحب

وأحب فريد الأطرش الحب وكان حبه الأول لسامية جمال التي نافسه عليها الملك فاروق راضياً أن يدخل في صراع على امرأة مع مطرب هو في الأصل (أمير) واختلط إبداعه الفني بقصص غرامه فلحن وغنى لها أغنيات (عمري ما حا قدر أنساكِ - رجعت لك يا حبيبي بعد الفراق والعذاب - أفوت عليك بعد نص الليل) التي كتبها يوسف بدروس.

يقول فريد: "وحده الفنان يسعى للحب ولا يشبع منه فالحب هو النور الذي يضيء الحياة ويجدد النفس ويبسط الأمل جنات."

ولم تكن سامية جمال الوحيدة في عقد معشوقات الفريد فقد عرّفه صديق له على غادة حسناء في أحد ميادين سباق الخيل، وتبادلا الإعجاب الذي تطور لحب لكن ما أتى به الحب بعثرته الغيرة، ثم تعرف أثناء تصويره فيلم (انتصار الشباب) على فتاة تبحث عن دور، وتطورت العلاقة بينهما وما أن علمت أنه لا أمل من زواجها به حتى تزوجت من الأمريكى شرد كنج؛ كما تعرف خلال عودته من باريس على ناريمان الراقصة الجزائرية وكان ينوي الزواج بها لكن انتهت علاقته بها كغيرها إلى لا شيء، وشاهد خلال مرضه صورة فتاة في إحدى المجلات، أعجبته وطلب بإصرار من أخيه وزوجته أن يخطباها له لكن تبين أن الفتاة مخطوبة، ثم وقع في عشق شادية حبه الأخير الذي لم يدم إذ انتهى بزواجها من غيره.

يقول فريد: " أنا أعتقد أن الفنان لم يخلق للزواج... يتزوج الفنان فنه وينجب ألحاناً وأغنيات وأفلاما".

أفلامه ومراحل حياته

كان فريد الأطرش يختار قصص أفلامه التي تتشابه مع قصة حياته أو مع مراحل منها، فيمثل في فيلم (عهد الهوى) دور من فقد الحبيب بعد أن غفر له كل زلاته، ويعتبر فيلم (حكاية العمر كله) أحد أهم أفلام حياته حيث ضياع العمر وعدم جدوى البحث عن الحبيب، ويستعرض خيبة أمل العشق في فيلم (ودعت حبك) الذي أثار ضجة كبيرة وقت عرضه لموت البطل حتى أنه لم يقنع المتفرجين سوى خروج فريد للمتفرجين ليقول "أنا لم أمت." كما تقاطعت أحداث فيلم (رسالة من امرأة مجهولة) مع قصة حياته، وكان هذا الفيلم نقطة تحول في مسيرة الفنانة لبنى عبد العزيز التي طالما أنصفته غير مهتمة بآراء تريد التقليل من قيمة وفن هذا الموسيقار الكبير إضافة لتقديمه دور المطرب الفقير الذي يبحث عن النجاح في العديد من الأفلام التي أشهرها فيلم (آخر كدبة).

يقول فريد: "إذا غنيت فالكلمة حزينة... وإذا لحنت فالنغم أكثر حزناً وكأن الأغنية... كلمة وموسيقى... هي الجسر الوحيد للتعبير عن هذه الحياة.".

إنسانيات فريد

وتعود الموسيقار الأطرش تقديم المساعدات الفنية الكبيرة للفنانين والفنانات، وصرحت الفنانة صباح قبل وفاتها بقولها "لا عيب أن أقول إن من رفعني وقدمني للجمهور هو الموسيقار فريد الأطرش." رغم أنها لم تنصفه في حياته، وهو الذي لم يصرح إلا تصريحاً واحداً عنها قبل وفاته قائلاً: "لم تقدرني صباح كما يجب رغم أني قدمت لها خدمات تستحق التقدير.".

يقول فريد: "علمتني الحياة أنها تيار مستمر متغير، يتطلب العناد والحركة والمقاومة، أما من يتوقف فإن التيار يجرفه ويغرقه فالنجاح إذا ما تم في ليلة بدا كنسيج حلم... تكمن الحقيقة فيما هو مستمر ودائم.".

عمل فنى عنه

ورغم ما تحتويه حياة هذا الأمير الصعلوك والملك المتوج من أحداث درامية وتحولات وتغيرات مثيرة لم تقدم الدراما العربية عملاً فنياً عن حياته أسوة بالمسلسل الكبير والفيلم السينمائي عن السيدة أم كلثوم، أو المسلسل الذي أثار ضجة عن الفنان عبد الحليم حافظ، ولكن ظهرت شخصية فريد الأطرش كشخصية فرعية في مسلسل أسمهان الذي تناول قصة حياتها منذ ميلادها وانتقالها للقاهرة وعملها مطربة وممثلة، ليلمع اسمها بجوار شقيقها فريد الأطرش حتى نهاية حياتها المأساوية والمسلسل قصة وسيناريو وحوار قمر الزمان علوش بمشاركة نبيل المالح، من إخراج شوقي الماجري، بطولة سُلاف فواخرجي في دور أسمهان، وفراس إبراهيم في دور شقيقها فؤاد، والممثل المصري القدير أحمد شاكر عبد اللطيف في دور فريد الأطرش، والفنانة ورد الخال في دور الأم علياء، والفنان عابد فهد في دور الأمير حسن زوج أسمهان.

يقول فريد: "إذا دارت الكاميرا دار قلبي معها، وإن توقفت توقف... حياتي خليط من فضول وقلق وترقب يشبه مشاعر الأم لحظة الولادة.".

تربص قلبه به فتعرض لذبحة صدرية وبقي سجين غرفته تسليته الوحيدة التحدث مع الأصدقاء وقراءة المجلات، واعتبر أن علاجه الوحيد هو العمل، فأخذ يكد ليسقط مرة أخرى اعتبرها الأطباء نهائية، فطلبوا منه الرحمة بنفسه والراحة لكنه تعرض لسقطة أخرى نفس الليلة حين أراد دخول الحمام وكأنما تحرك قلبه يريد أن يسترد الحياة من جديد

عرف أخيراً قُرب فوات الوقت وبعد كل ما عاش من تجارب وصادف من عقبات حقيقة لا شك يتطرق لها (البقاء للأصح) ليتوفى بمستشفى الحايك في بيروت إثر أزمة قلبية عام 1974 م بعدما توجهُ معجبوه وعشاق الموسيقي في كل العالم ملكاً في مملكة العود.