الأربعاء 27 نوفمبر 2024

رجال المال والحكم والإدارة.. كيف جنوا على الاقتصاد المصري .. الاقتصاد المصري بين القدرات الكامنة والعجز المزمن

  • 21-5-2017 | 11:12

طباعة

د. عبد الخالق فاروق - كاتب مصري

غالبا ما تساءل المصريون: هل نحن بلد فقير حقا؟

 ولعقود طويلة كان المصريون يواجهون بخطاب سياسى وإعلامى رسمى يكرر دون تردد:

ـ نعم نحن دولة فقيرة.. بل نحن بلد فقير جدا.

   وقد أخذت هذه المقولة السامة أشكالا وعبارات وصورا متعددة، فتأتى مرة فى صيغة "نحن نفتقر إلى الموارد والإمكانيات"، أو فى عبارة "نحن بلد كثيف السكان يتوالدون بكثرة، فتبتلع ثمار التنمية". وبقدر ما كانت هذه الكلمات والعبارات تسعى لترسيخ حالة من اليقين المغشوش لدى المصريين بأننا غير قادرين على النمو الذاتى، والتنمية والنهوض، ومن ثم فنحن فى حاجة ماسة للمساعدة والعون و"المنح"، سواء جاءت من الأشقاء الأقربين، أو الأصدقاء البعيدين، بقدر ما كانت ظواهر الثراء والغنى الفاحش، ومظاهر الإنفاق السفيه من فئات اجتماعية محددة، أو من بعض أجهزة الدولة والمسئولين فيها، تدفع المصريين دفعا إلى الشك فى المقولات السابقة، والتساؤل العميق:

ـ إذا كنا فقراء حقا، وشحيحى الموارد والإمكانيات، فمن أين تأتى كل هذه الثروات، وكل هذا الإنفاق السفيه لدى الوزراء وكبار المسئولين؟

   وقد ظل هذا التناقض الصارخ بين مقولات الخطاب الرسمى والحكومى من جهة، وطبيعة المشاهدات والممارسات الفجة والمكشوفة تضرب على الأوتار الحساسة فى أعمق أعماق الوعى الباطنى لدى القطاع الأوسع من المصريين وقواهم الحية.

وهنا جوهر الأزمة النفسية والسلوكية التى يحياها المصريون، خاصة قطاعات الشباب والمحرومين منهم من فرص التعلم الجيد والتوظف والتشغيل. فما هى أوجه الحقيقة فى هذا التناقض القائم منذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عام 1974 فصاعدا؟

   يبدو للمحلل المدقق للوضع الاقتصادى المتأزم فى مصر منذ أكثر من خمسين عاما، إننا بصدد مجموعة من الحقائق والتناقضات لعل من أبرزها الآتى:

   أولا: الاختلالات الهيكلية العميقة فى الاقتصاد المصرى انعكست سلبيا على خلق ظواهر من قبيل تفاقم العجز فى الموازنة العامة للدولة عاما بعد الآخر، واتساع الفجوة المستمر فى ميزان المدفوعات المصرى، وخصوصا فى الميزان التجارى (الصادرات والواردات)، وتؤدي هاتان الظاهرتان إلى تآكل دورى فى الاحتياطى النقدى بالبنك المركزى المصرى من ناحية، وبالتالى التدهور المستمر والمنتظم فى سعر صرف الجنيه المصرى بالنسبة للعملات الأجنبية وخصوصا الدولار الأمريكى من ناحية أخرى.

   ثانيا: السياسات والإجراءات التى اتبعت في العقود الخمسة الماضية ابتعدت عن إيجاد حلول لجوهر الخلل فى الهيكل الاقتصادى المصرى خاصة فى قطاعات الإنتاج السلعى مثل الزراعة والصناعة والكهرباء والطاقة، واهتمت أكثر بمعالجة الظواهر والأعراض، ومن هنا انخفضت قدرتنا على إنتاج غذائنا، من 75% فى مطلع السبعينيات إلى ما دون ال50% فى المتوسط من معظم مصادرنا الغذائية، وإن تفاوتت من مصدر إلى آخر (القمح – الزيوت – اللحوم – الأعلاف.. إلخ)، فأصبحنا حاليا نستورد 65% تقريبا من غذائنا من الخارج، وكذلك جرت تحولات عميقة فى قطاع الصناعة، وأصبحنا حاليا نستورد حوالى 70% من مستلزمات التشغيل الصناعى من الخارج. وهى كلها عوامل أثرت سلبيا على قدرتنا على الاحتفاظ باحتياطى نقدى مناسب بالبنك المركزى، وكذلك على سعر متوازن لتبادل الجنيه المصرى مع العملات الأجنبية، وبالتالى على معدلات التضخم وارتفاع الأسعار محليا.

   ثالثا: السياسات العامة التى اتبعتها الحكومات المصرية منذ عام 1974، واستسهال الاقتراض من الجهاز المصرى تارة (طبع البنكنوت أو ما يسمى التمويل بالعجز) قبل عام 1985، أو اللجوء إلى الاقتراض من خلال سندات الدين وأذون الخزانة، وكذلك الاقتراض من الخارج، كل هذا أسهم في تعميق الأزمة، فقد زاد الدين المحلى الإجمالى من 3 مليارات جنيه فى مطلع السبعينيات، إلى 15.0 مليار جنيه فى أواخر عام 1981، وبحلول يناير 2011 كان هذا الدين المحلى قد تجاوز 888 مليار جنيه، وها هو الآن فى أبريل 2017 يقترب من 3.2 تريليون جنيه. أما الدين الخارجى فقد زاد من 35.0 مليار دولار فى مطلع عام 2011، إلى ما يقارب 70.0 مليار دولار فى أبريل 2017.

   وهكذا تجاوزت نسبة الدين العام المصرى حوالى 115% من الناتج المحلى الإجمالى فى الربع الأول من عام 2017، ولولا السحر الإحصائىstatistical magic الذى يمارس من جانب السلطات الرسمية المصرية والأجهزة المتخصصة فى حساب مصفوفة الناتج المحلى الإجمالى لتجاوزت النسبة الحقيقية للدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى 140%.

   رابعا: أدت هذه السياسة الاقتصادية والمالية المصرية طوال العقود الخمسة الماضية إلى تفاقم مرض عضال فى صلب الموازنة العامة، ألا وهو زيادة المخصصات المالية المدرجة فى الموازنة لسداد فوائد هذا الدين، بحيث زادت من 15% عام 1991/1992، إلى أكثر من 40% من إجمالى استخدامات الموازنة العامة للدولة، فاقتطعت بالتالى كميات مالية كان ينبغى أن توجه إلى قطاعات الخدمات الأساسية للشعب المصرى وخصوصا التعليم والصحة والإسكان والبيئة وغيرها.

   خامسا: توازى مع هذه السياسات المالية والاقتصادية تغيرات عميقة فى بنية المجتمع المصرى وفئاته، بحيث تخلقت طبقات بدا فى كثير من الحالات أن مصالحها تكاد تتناقض مع المصالح الوطنية، والقدرة على تطوير قطاعات الإنتاج والتنمية الداخلية والذاتية، وبناء اقتصاد وطنى قائم على التوازن، خذ مثلا عدد طبقة المستوردين والوكلاء التجاريين المسجلين فى السجلات الرسمية المصرية، فلم يكن عددهم عام 1994 يزيد على 40 ألف مستورد، فإذا بنا بحلول عام 2015 يزيدون على 840 ألف مستورد من جميع الأصناف والأحجام!!

   وكان معظمهم منفذا وبابا لموجة عاتية من الواردات غير الضرورية وتغذية النزوع الاستهلاكى لدى فئات اجتماعية عديدة، مما زاد من اتساع الفجوة فى الميزان التجارى المصرى (الصادرات والواردات) التى كانت أقل من 9.0 مليارات دولار عام 1991 وتجاوزت عام 2015 أكثر قليلا من 50.0 مليار دولار، وقد سهل تحالف رجال المال والأعمال ورجال الحكم والإدارة طوال الثلاثين عاما الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، من نشوء قوى احتكارية هائلة داخل بنية الاقتصاد المصرى، فتحكمت هذه القوى فى السوق، وحققت أرباحا هائلة دون سقف أو حدود، كما ساهمت فى خلق أزمات فى كثير من الحالات (الخبز، السكر، الدواجن، اللحوم، الأسماك، الحديد وغيرها)، بهدف تحريك الأسواق بما يناسب مصالحها ويعظم أرباحها.

   سادسا: وقد صاحب كل هذا انتشار جماعات الفساد المقنن والمنظم فى معظم قطاعات المجتمع والدولة المصرية، بدءا من الدروس الخصوصية فى النظام التعليمى، إلى جماعات مصالح فى انهيار المنظومة الصحية وصناعات الدواء، إلى تحالف رجال المال والأعمال مع رجال الحكم والإدارة، فانتشرت ظواهر جديدة فى الإدارة الحكومية مثل الصناديق والحسابات الخاصة التى احتوت على العشرات من المليارت من الجنيهات سنويا، فى ظاهرة غير مسبوقة فى النظم المالية المتحضرة، فحرمت الخزانة العامة والموازنة العامة من كميات مالية كبيرة، وضاعت فرص توظيف أكثر كفاءة للموارد والإمكانيات.

   وهكذا ما بين سوء وضعف الكفاءة فى إدارة الاقتصاد المصرى من ناحية، وسيطرة جماعات المصالح الضارة وجماعات الفساد من ناحية ثانية، وهيمنة "البورصجية" على عملية رسم وصنع السياسات الاقتصادية من ناحية ثالثة، ضاعت فرص التنمية الحقيقية واستبعد خبراء التخطيط والتنمية من المشهد العام ومن دوائر رسم السياسات العامة.

   والآن.. إذا كان الأمر كذلك فما الفرص المتاحة لإعادة بناء الاقتصاد الوطنى والاستفادة من القدرات والإمكانيات الكامنة فيه؟

القدرات والإمكانيات الكامنة:

   قليلة هى الكتابات التى تناولت ظاهرة الفائض الاقتصادى، ووسائل استنزافه أو الاستفادة منه، وقد برز فى الخمسينيات ثلاثة من أهم الخبراء الاقتصاديين الذين أسسوا لمفاهيم الفائض الاقتصادى بصورته العلمية الحديثة، وهما الكاتبان الأمريكيان "بول أ. باران" و"بول م. سويزى" فى كتابهما الرائع "رأس المال والاحتكار" عن وسائل استنزاف الفائض الاقتصادى فى النظام الأمريكى، وفى النظام الرأسمالى عموما، بينما أسس المفكر الاقتصادى الفرنسى "شارل بتلهايم" ـ فى محاضراته التى جمعها وترجمها الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله فى كتاب "قضايا التخطيط والتنمية"، وصدرت عن دار المعارف عام 1965 ـ مفاهيم جديدة عن "الفائض الاقتصادى الفعلى" و"الفائض الاقتصادى الاحتمالى"، و"الفائض الاقتصادى الكامن"، فى الوقت الذى كان الكتاب والمفكرون الاقتصاديون فى الشرق والغرب قد استغرقوا فى شرح عمليات النهب الاستعمارى واستنزاف الفائض الاقتصادى للشعوب النامية عبر وسائل التجارة غير المتكافئة من ناحية، أو تحركات رؤوس الأموال من ناحية ثانية، وكذلك عبر مصيدة الديون والإقراض من ناحية ثالثة.

   وبرغم قيام خبراء معهد التخطيط القومى فى مصر بدراسات جادة حول صور وأحجام الفائض الاقتصادى المستنزف فى بعض قطاعات الاقتصاد المصرى، مثل القطاع الزراعى، والقطاع الصناعى وغيرهما، فقد ظلت هذه الدراسات ذات طبيعة جزئية وقطاعية، ولم تلضمها رؤية ومنهجية قائمة على المعايير الكلية لمفاهيم الفائض الاقتصادى وعلاقتها بالنهب والفساد.

   ما نود التأكيد عليه هنا، أن الاقتصاد المصرى والمجتمع المصرى قد ضاعت منهما فرصة حقيقية للتنمية والتحديث بعد عام 1974، خاصة بعد أن لاحت فى الأفق موارد جديدة لم تكن معروفة بهذا المقدار فى العقود السابقة. يكفى أن نشير إلى أن التدفقات المالية والنقدية التى اندفعت كالسيل فى شرايين الاقتصاد المصرى منذ عام 1975 حتى فبراير 2011 زادت على 850 مليار دولار، سواء فى صورة تحويلات للعاملين المصريين فى الخارج (160 مليار دولار)، أو إيرادات البترول والغاز (60 مليار دولار) أو دخل رسوم المرور فى قناة السويس (60 مليار دولار)، أو دخل السياحة المسجلة فقط (60 مليار دولار)، بالإضافة بالطبع إلى المساعدات والقروض العربية والأمريكية والأوروبية واليابان وغيرها. مثلت إضافة هائلة، بددت معظمها فى مسارب وقنوات غير تنموية.

   ولم تكن هذه هى القدرة الوحيدة التى جرى تبديدها فى مسارب استهلاكية و"فشخرة" استثمارية حكومية، وإنما تعدتها إلى مصادر أخرى للموارد والقدرات، جرى إهمالها أو نهبها لصالح فئات محددة من كبار رجال المال والأعمال والشركاء الأجانب، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر:

1 ـ فى قطاع البترول والغاز، جرت عمليات تنازل مستمرة ومنتظمة عن بعض الحقوق والمصالح المصرية لصالح الشركاء الأجانب والمستثمرين المصريين والعرب (نسبة الإتاوات – بند استرداد التكاليف – توزيع حصص الإنتاج – حساب الأصول – نمط التوظيف الاستثمارى للأموال بهيئة البترول والشركات العامة فيه.. إلخ)، وهو ما تناولناه تفصيلا فى كتابنا "أين البترول والغاز المصرى" الصادر عن هيئة الكتاب عام 2017، ومن شأن إعادة هيكلة هذا القطاع إداريا وماليا وتشريعيا وتنظيميا، أن يتوفر للخزانة العامة ما يقارب 20 مليار جنيه إضافية، نسترجع بها للقطاع حيويته وقوته التى بددتها سياسات تشغيل أقل ما توصف بها أنها فاسدة وضارة.

2 ـ وفى قطاع الثروة المعدنية، الذى ترك نهبا لحفنة من المقاولين المصريين والعرب والأجانب، مع كبار رجالات الإدارة المحلية فى بعض المحافظات، ضاعت على مصر فرصة حقيقية للتنمية وتوفير فرص عمل إضافية للشباب من خلال تصنيع مكثف لمخرجات المناجم والمحاجر، بما يمكننا من زيادة الإيرادات المحققة منه بأكثر من 20 مليار جنيه أخرى، ولا يحتاج الأمر منا سوى خطة لإعادة هيكلة هذا القطاع وإنشاء وزارة مستقلة له ووضع خطة تصنيع حقيقية فيه.

3 ـ أما أموال الصناديق والحسابات الخاصة التى تتحرك فيما يمكن أن نطلق عليه "الموازنة السرية"، أو "الموازنة الموازية"، والتى تشتمل على عشرات المليارات من الجنيهات سنويا، يقدرها بعض الخبراء بأكثر من 200 مليار جنيه (إيرادا ومصروفا)، تتحرك بعيدا عن أعين صانع السياسة الاقتصادية والمالية فى البلاد.

4 ـ الفوائض والمدخرات المالية المتاحة لدى الأفراد والقطاع العائلى، والتى تركت نهبا للسلوك الاستهلاكى بعد أن انسحبت الدولة من التنمية والتخطيط، فاتجهت هذه الفوائض والمدخرات إلى شراء الفيلات والقصور والشاليهات السياحية الفاخرة compounds ، فبلغ حجم مشتريات المصريين من هذه الوحدات منذ عام 1980 حتى عام 2011 حوالى 415 مليار جنيه (أى ما يعادل 180 مليار دولار بأسعار الصرف السائدة خلال تلك الفترة)، وكان من الممكن تشجيع هذه الأسر والأفراد لاستثمار جزء ولو بسيط من هذه الفوائض فى صورة شراء أسهم لشركات صناعية أو زراعية، لو توافرت للدولة رغبة وقدرة على التخطيط والتنمية.

5 ـ يضاف إلى ذلك ما توافر من معلومات عن حجم إيداعات المصريين فى البنوك خارج مصر، والتى قدرتها الاستخبارات المركزية الأمريكيةCIA  فى أعقاب هجوم 11 سبتمبر 2001 بحوالى 160 مليار دولار، وهى تقارب حاليا أكثر من 250 مليار دولار، بحيث يمكن لو توافرت قيادة سياسية جادة ومحل ثقة فى البلاد وبين المصريين جميعا، أن تطلب منهم المشاركة سنويا، بتغذية حساباتهم المصرفية داخل مصر بألف دولار فقط، وبصورة دورية، لتحققت مصادر إضافية من النقد الأجنبى تزيد على سبعة مليارات دولار، تكفينا عناء الاستجداء من بعض الدول العربية أو مؤسسات التمويل الدولية كالبنك الدولى أو صندوق النقد الدولى، ولنا فى تجربة الاكتتاب فى مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة عام 2014 عبرة وعظة.

6 ـ يضاف إلى ذلك وقف حالة السفه فى الإنفاق الحكومى وخصوصا على مكاتب الوزراء والمسئولين فى كافة الهيئات والمحافظات، وشراء السيارات الحكومية وغيرها من مظاهر الإنفاق غير الرشيد.

هذه هى بعض من كثير جدا من أوجه إهدار الموارد وسوء إدارتها.

فكيف نعيد بناء مصر على أسس جديدة؟

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة