الأحد 24 نوفمبر 2024

صور العين كنوافذ لقلب لا تنغلق أبوابه

  • 22-5-2017 | 13:32

طباعة

سمية عزام - كاتبة لبنانية

 "كل شيء ابتدأ من الباب. في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحا ورأيتها: تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تكون لي".(1) قالها الرسام الإسباني سلفادور دالي في معرض وصفه رحلة هذيانه العشقي لجالا(2). (اسمها الحقيقي يلينا دايكونوف، وكانت زوجة الشاعر الفرنسي بول إيلوار).

    من فرجة باب، ومما خلف الباب بدأت أشهر قصة حب بين دالي وجالا. هذه المرأة يصفها متابعو سيرة دالي بأنها كانت الحد الفاصل بين عبقريته وجنونه، كما الباب الذي يشكل حدا مائلا بين الماقبل والمابعد، وبين الداخل والخارج. أليس الباب بوظيفته، ودلالته الاستعارية الرمزية، معبرا وممرا للدخول أو الخروج؟! غير أن الموقف السيكولغوي يفترض الذهاب إلى النافذة، وليس الوقوف عند الباب وحسب؛ إلى نافذة الجسد ـ جسد جالا ـ لتجد منفذا لها إلى القلب. والعيون نوافذ ـ عيون دالي ـ تطل منها نفسه إلى عالم جالا.

ما ابتدأ، أمن الباب حقا، أم من النافذة؟!

    تتأكد دلالة النافذة/ العين بمجاز النظرة، إذا ما تتبعنا بقية الخبر/ الحكاية، وما حدث ذلك اليوم؛ إذ "حلق شعره، ولون جسمه بالأزرق والأحمر، ووضع قرط أخته، وقرنفلة حمراء وراء أذنه، ووقف أمامها يضحك بصورة هستيرية بلا توقف، ففوجئت مستغربة، معجبة بعينيه، خائفة من منظر الجنون الذي احتواه". والنظرة هي "آلة الأوامر الداخلية. تكشف تحولات النظرة لعبة الناظر والمنظور إليه. نظرة الآخر مرآة تعكس نفسين" (3).

    غيرت جالا، إذن، دالي، وكانت ملهمته في العديد من أعماله الخالدة، حتى بعد وفاتها، بقيت أبواب مخيلته غير منغلقة، "فأبواب المخيلة لا تنغلق أبدا" قالها مينيلاوس في الأوديسه(4)، لتختم عيناه صورة وجهها ليس إلا، باستلهام الموقف من عبارة ألسينوس التي أشار بها إلى الشاعر فيميوس بأن "لتختم عيناك كل صورة". ليست جالا المرأة – الملهمة الوحيدة في تاريخ الفن والأدب؛ فرهافة دانتي أليجييري ومآزقه العشقية تبدت دافعا أساس لكتابة "الكوميديا". أراد تخليد حبه للمرأة الأكثر إشغالا له بين النساء اللواتي أحبهن، بياتريتشي (بياتريس). في مقدمة "الجحيم" يقص فرجيليو على دانتي كيف هبطت بياتريتشي من السماء وسألته أن يهب لنجدته.. موضحا له أن الحب هو الذي دفعها إلى إنقاذ دانتي، والهبوط إلى هذه الهاوية.(5) إنما الكوميديا نفسها أداة سحرية لتغيير الإنسان في وجدانه. كيف لا، إذا كان التحول هو مجاز الانتقال؟ فها هي الحبيبة تعلن حبها في سفرها المجازي، منشدة: "أنا بياتريتشي.. إني آتية من مكان أرغب في العودة إليه. يا ربة الفضائل، التي بفضلها وحده يسمو الجنس الإنساني على كل ما تحويه السماء ذات الحلقات الصغيرات"(6).

    يغبط دالي دانتي لعبقريته/ عتهه، وسرعان ما سقط، هو نفسه، "مرتفعا" في حالة هذيانه/ هيامه المجنونة. يقول: "النساء عطاء رائع قادر على تحويل الرجل إلى معتوه، وأنا لا أفكر بأي شيء سيئ حينما أقول ذلك، أنا أحب المعتوهين، بخاصة عندما يكونون في حالة الهذيان، لأنهم وقتها أشبه بالملائكة. وهكذا بفضل النساء، فإن رجالا مثل دانتي يصبحون معتوهين، ويكونون في وضع يؤهلهم ليكتبوا الكوميديا الإلهية".

    صور العين نوافذ لمخيلة متدفقة، ولقلب لا تنغلق أبوابه إلا على أيقونات خالدة، من رسم وأدب، كلوحات دالي، وكوميديا دانتي. أبدع الأول إثر عبوره الباب بعد استراق النظر إلى ما خلفه، وصور الثاني عوالم "زمكانية"(7) مفاتيحها عتبات، وللمفتاح سلطان العقد والحل، الفصل والوصل. إن حذر دانتي في مدخل الجحيم منشدا/ مناشدا العابرين: "باب الجحيم طريق العذاب والألم الدائم.. أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل" فبمفتاح الأمل يرتحل العابرون صوب فضائه الفني بوصفه فضاء برزخيا؛ حيث يتسنى للمنشئ والمتلقي معا هدم الحدود بين التخييل والواقع؛ إذ إن البرزخية شكل من أشكال الكمون والانتظار وطقوس العبور إلى يوتوبيا الأحلام.

هوامش:

1 ـ التضمينات النصية لأقوال سلفادور دالي اقتبست من مقال "جالا… عبقرية دالي وشِعرية إيلوار"، لمحمد حجيري ـ موقع (المدن).

2ـ جالا: اسمها الحقيقي يلينا دايكونوف، وكانت زوجة الشاعر الفرنسي بول إيلوار.

3 ـ استند تأويل رموز الباب والنافذة والمفتاح والنظرة، إلى: معجم الرموز، خليل أحمد خليل، بيروت، دار الفكر اللبناني، طبعة أولى، 1995. وإلى معجم الرموز، منير معلوف، بيروت، المطبعة البولسية، طبعة أولى 2009.

4 ـ عودة أوليس (الأوديسه)، ديريك والكوت، ترجمة ممدوح عدوان، دمشق، دار المدى، طبعة أولى، 1998.

5 و6 ـ كوميديا دانتي أليجييري((Dante Alighieri، النشيد الأول، الجحيم، ترجمة حسن عثمان، مصر، دار المعارف، طبعة ثانية، 1955. الكوميديا الإلهية (الدانتيادة) على غرار تسمية إلياذة هوميروس وإنياذة فرجيل (ينتظمها العدد ثلاثة رمز الثالوث المقدس: الجحيم والمطهر والفردوس/ حلقات وأفاريز وسماوات- مئة أنشودة، أي أنها تشكل مربع رقم عشرة، وهو العدد الكامل ورمز الوحدة واللانهاية في العصور الوسطى).

7 ـ العتبات المكانية يعينها الناقد الروسي ميخائيل باختين (1895 ـ 1975) بأنها  كرونوطوبات Chronotopes، أي ظروف زمكانية للكينونة المتوترة كونها مجالات للعبور، وهي أوقر من سواها في الذاكرة والوجدان- الزمكان يحدد صورة الإنسان في الأدب.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة