بقلم: د. حسن راتب
حجم أعمال القطاع التعاونى فى مصر يزيد على ٧٠ مليار جنيه وقابلة للزيادة وكلها تصب فى خدمة المواطن البسيط ومتوسط الدخل، وتلعب دورًا فى تحقيق التوازن فى الأسعار وكبح معدل التضخم، ومواجهة الأزمات
لم يكن غريباً أن يكون الرئيس عبد الفتاح السيسى هو أول رئيس لمصر بعد الزعيم جمال عبدالناصر يهتم بالحركة التعاونية، فهو يعلم بثقافته ووعيه الوطنى قيمة التعاونيات ويدرك أهمية دعمها والاستناد إليها كشريك أساسى لا غنى عنه فى التنمية الشاملة التى يستهدفها.
كما يعلم الرئيس أن التعاونيات فى مصر ليست كيانا هشاً ولا هى جمعيات ضعيفة، وإنما هى قطاع ضخم وحركة شعبية تمتد من العاصمة وحتى القرى والنجوع من خلال أكثر من ١٢ ألف جمعية تضم نحو ١٨ مليون عضو.
يعلم الرئيس أن القطاع التعاونى هو أهم وأثمن الأدوات لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الهادفة لرفع مستوى المعيشة للمواطنين.
يعلم الرئيس أن التعاونيات هى التى وفرت أسباب العيش لنحو ثلاثة مليارات نسمة على مستوى العالم، فحسب تقرير الأمم المتحدة، نصف سكان العالم يستفيدون بدرجة أو بأخرى من التعاونيات التى تضم فى عضويتها مليار تعاونى.
يعلم الرئيس أن القطاع التعاونى هو أحد أهم القطاعات الأكثر قدرة على إيجاد حلول حقيقية لأزمة البطالة التى تشغل بال الجميع، ويكفى أن القطاع التعاونى يوفر أكثر من ١٠٠ مليون فرصة عمل على مستوى العالم بنسبة تزيد ٢٠ بالمائة على الأقل عن الفرص التى توفرها الشركات متعددة الجنسيات.
يعلم الرئيس أيضاً أن القطاع التعاونى فى كثير من الدول قد تصل مساهمته فى بعض القطاعات الرئيسية إلى ما يزيد على ٩٠ بالمائة، فنسبة ٩٥ بالمائة من الزهور التى تنتجها هولندا من القطاع التعاونى، و٩٠ بالمائة من الألبان المنتجة فى باراجواى تأتى من التعاونيات، وأكثر من ٩٠ بالمائة من المصائد السمكية فى مالطة قطاع تعاونى.
الأهم أن الرئيس يعلم أن أفضل ما يميز أعضاء التعاونيات قناعتهم بدورهم فى التنمية والتفافهم حول قيادتهم ومساندتهم لبلدهم، فهم ليسوا طلاب ثروات ولا باحثين عن منافع شخصية، وإنما راغبون فى خدمة وطنهم وتحقيق العيش الكريم لكل مصرى من خلال تنمية شعبية اجتماعية واقتصادية.
ولكل هذا لم يتردد الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ تولى المسئولية فى دعم هذا القطاع المهم سواء من خلال لقاءاته مع رئيس الاتحاد التعاونى الدكتور أحمد عبدالظاهر أو منحه قلادة العمل فى عيد العمال أو مايو.
إن الاهتمام الرئاسى الحالى بالحركة التعاونية مرجعه أنها أصبحت عنصرًا حاكمًا فى التنمية الاقتصادية، صحيح أن هذا الدور موجود وفاعل منذ ظهرت الحركة وأطلت على عالمنا المعاصر فى ١٩٠٨، لكنه زاد وتأكد وفرض نفسه خلال السنوات الماضية.
ولكى نفهم أهمية هذا القطاع ودوره التاريخى فلابد من التأكيد على أن مصر كانت من أوائل الدول التى اهتمت بالحركة التعاونية على المستوى المحلى والإقليمى والدولى، حيث كانت عضوا دائما فى الحلف التعاونى الدولى وشريكا أساسيا وهاما فى نشر الحركة التعاونية على المستوى الإفريقى والشرق الأوسط.
ومنذ أن دخلت الحركة التعاونية مصر وهى تمثل جزءًا محوريًا فى تفكير وتوجيهات الزعماء الوطنيين فكانت أحد أهم محاور العمل الوطنى للزعيمين الراحلين مصطفى كامل، ومحمد فريد لأنهما كانا يريدان التنمية المجتمعية القائمة على العدالة، وهو نفس ما سار عليه بعد ذلك الزعيم جمال عبدالناصر، وهذا أيضا هو ما يدفع الرئيس السيسى حالياً لإعادة الاهتمام بالتعاونيات وفتح المجال أمامها لتشارك فى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية جنبا إلى جنب مع القطاعين العام والخاص إضافة إلى القطاع الحكومى.
والمؤكد أن هذا الدور المنتظر للقطاع التعاونى هو ما جعل لجنة الخمسين تخصص ١١ مادة كاملة فى الدستور المصرى الجديد ٢٠١٤ للقطاع التعاونى للتأكيد على أهمية هذا القطاع الضخم وعلى أن فلسفة الدولة فى الفترة القادمة ستركز على هذا القطاع ليتحمل مسئوليته وأنه لن يتم تهميشه مرة أخرى.
يقيناً كان للأزمة الاقتصادية التى حاصرت العالم فى ٢٠٠٨ وكادت تؤدى إلى انهيار الاقتصاد العالمى دور فى التنبيه لأهمية العودة إلى القطاع التعاونى فقد كانت هذه الأزمة بمثابة إنذار شديد بوضع اقتصادى خطير، ومنذ وقتها أدرك الاقتصاديون أنه لابد من دخول الاقتصاد الاجتماعى كعنصر حاكم لخلق حلقة الاتزان فى المنظومة الاقتصادية العالمية حتى لا تترك آليات السوق لدوافع تحكمها عمليات الربح فقط.
وكانت نتيجة هذا أن أغلب دول العالم على اختلاف توجهاتها الاقتصادية اشتراكية كانت أو رأسمالية اضطرت للجوء إلى النظام التعاونى، فوجدنا دولا مثل إنجلترا وفرنسا والسويد وألمانيا، بل وأمريكا رغم رأسماليتها الواضحة لجأت إلى تعظيم دور التعاونيات لتنقذ اقتصادها.
وفى نفس الوقت زادت دول أخرى على النقيض الاقتصادى مثل الصين وروسيا ورومانيا من دور التعاونيات، بل وفى دولة مثل اليابان التى شهدت نهضة كبيرة أصبحت التعاونيات أحد العناصر الهامة فى التنمية الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالتسويق التعاونى، كما نهجت نفس الاتجاه دول النمور الآسيوية مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة وبشكل عام دول جنوب شرق آسيا ولحقتها بعدها كندا وأمريكا اللاتينية.
وإذا كان هذا هو وضع التعاونيات فى العالم فإنها فى مصر تمثل أهمية خاصةً جداً لأنه فى ظل غياب تنظيمات اجتماعية وأحزاب سياسية فاعلة فى حركة التنمية الاجتماعية وقواعد جماهيرية تستطيع أن ترسى ثقافة العمل الجماعى وتؤكد على الدور المؤسسى للتنمية الاقتصادية الشاملة والمتكاملة فى مصر، يصبح من الضرورة أن تتعاظم أهمية دور القطاع التعاونى فى المرحلة المستقبلية التى نحتاج فيها لزيادة وتيرة التنمية وأن تكون شاملة فهذا حلم لن يستطيع قطاع آخر غير التعاونيات تحقيقه، لأنه قطاع موجود فى كل المجالات تقريبا من الزراعة إلى الإسكان إلى الإنتاج والاستهلاك والثروة السمكية.
إن التعاونيات كنموذج تلعب دوراً فى إرساء قيم ثقافة العمل الجماعى، والأهم من ذلك أنها تحقق عدالة توزيع الثروة، ولهذا فإننا نجد دائماً الدول التى تهتم بالحركة التعاونية تتوزع الثروة فيها على نسبة كبيرة من الشعب ولا تنحصر فى أعداد قليلة، وكما أثبتت الدراسات الصادرة من الأمم المتحدة فإن البلاد التى أخذت بفكر الاقتصاد الاجتماعى وعظمت دور التعاونيات استطاعت بالفعل أن تعيد توزيع الثروة وتمنع تكدسها فى فئات أو نسبة محدودة من الشعب على غرار ما حدث فى الدول الرأسمالية حيث تتركز الثروة فى عائلات بعينها وفى قطاعات اقتصادية بذاتها.
وهناك ميزة أخرى فى هذا القطاع فى الجمعيات التعاونية المنتشرة على مستوى القرى والنجوع والكفور تدار من خلال إطار مؤسسى من القاعدة إلى القمة، ومن خلال جمعيات عمومية ومجالس إدارات يتم اختيار أعضائها بالانتخابات المباشرة، وهو ما يؤكد الممارسة الديمقراطية وثقافة العمل الجماعى وقبول الآخر .
وطالما نتحدث عن هذا القطاع وأهميته فلابد أن نتذكر رموزه المؤسسين، وإذا كان عمر بك لطفى هو رائد الحركة التعاونية المصرية وأحد أهم الرموز الذين ساهموا فى إثرائها، فإن الدكتور كمال أبو الخير قد أضاف إلى الحركة التعاونية صرحا كان بمثابة نقطة التحول الحقيقية فى هذا المجال، وهو المعهد العالى للدراسات التعاونية والإدارية والذى أصبح هو القاطرة العلمية التى تقود الحركة التعاونية فى مصر، فمنذ إنشاء المعهد قبل ٦٠ عاما وهو يعتمد فى أدائه على الأسلوب والمنهج العلمى، سواء فى التعليم أو التدريب أو الاستشارات والبحوث، كما وفر له الدكتور أبو الخير مراكز تدريب على أعلى مستوى وقاعات محاضرات مجهزة بأحدث التقنيات، الأمر الذى جعله صرحا علميا مؤهلاً لأداء دور مؤثر فى المرحلة القادمة، بل وينبغى أن يتبوأ مكانة كبيرة ليس فقط كمعهد يمنح درجة البكالوريوس وإنما يتعدى ذلك ليلعب دوراً فاعلا فى إعادة صياغة الحركة التعاونية فى البلاد بمفاهيم حديثة تناسب العصر ويشارك بإيجابية وفعالية فى خطة الدولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
بل يمكن لهذا المعهد أيضاً أن يسهم وبشكل مختلف فى الفترة القادمة بأن يكون أول جامعة تعاونية فى الشرق الأوسط على غرار الجامعات التى قادت الحركة العلمية والثقافية فى الصين وروسيا وإنجلترا وأمريكا.
وقد بدأ المعهد بالفعل فى أولى الخطوات لتحقيق هذا الهدف منذ تولى الرئيس السيسى مهام الرئاسة من خلال عقد دورات تدريبية للاتحادات النوعية لربط القاعدة الشعبية التعاونية بالمراكز البحثية العلمية وتدريب الكوادر على كيفية المشاركة فى حركة التنمية وإرساء ثقافة العمل الجماعى الذى هو الأصل فى نشر الحركة التعاونية. نعود إلى القطاع التعاونى كنموذج تنموى حقيقى يصل حجم أعماله فى مصر إلى ما يزيد على ٧٠ مليار جنيه وقابلة للزيادة تعمل فى مجالات متعددة كلها تصب فى خدمة المواطن البسيط ومتوسط الدخل، وتلعب دورا فى تحقيق التوازن فى الأسعار وكبح معدل التضخم، ومواجهة الأزمات، لذلك فالموضعية تقتضى منا أن نقول وبصدق: أحسن الرئيس عندما التفت إلى هذا القطاع وقدر أهميته.
صحيح أن هناك ١٤ صعوبة تواجه العمل التعاونى فى مصر، بعضها حكومى وبعضها يرجع إلى الظروف الاقتصادية، منها إصدار الدولة لبعض التشريعات المناهضة لتنمية التعاونيات مثل قوانين الجمارك، وإلغاء العديد من الإعفاءات والمزايا التى كانت تتمتع بها التعاونيات، بالإضافة إلى عدم الاستجابة لرغبات التعاونيين فى إصدار التشريعات الموحدة، حيث تتعدد التشريعات ولا تتناسب مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الحالية، وتعدد جهات الرقابة من قبل الدولة على الحركة التعاونية بقطاعاتها الخمسة، وأيضاً استبعاد التعاونيات الإسكانية من المشاركة فى المشروعات الإسكانية أو تخصيص الأراضى لها أو ضمها للجان المختصة برسم سياسات الإسكان على مستوى الدولة، لكن رغم كل هذا فالمؤكد أن اهتمام الرئيس بهذا القطاع سوف يكون له تأثيره على إنهاء هذه الصعوبات وعودة التعاونيات إلى ممارسة دورها، من خلال توفير المناخ الملائم لعملها، سواء بتغيير البنية التشريعية المعطلة، حتى تتماشى مع التوجهات الدستورية الجديدة، أو تقليص دور الأجهزة الإدارية ذات العلاقة بالقطاع التعاونى لضمان سرعة تأسيس الجمعيات التعاونية وفتح المجال لحرية ومرونة العمل الاقتصادى التعاونى.
وأخيراً يجب التأكيد على أن منظمات المجتمع المدنى وفى مقدمتها الاتحاد العام للجمعيات الأهلية والذى يضم ٤٧ ألف جمعية و٢٥ مليون مستخدم تمثل قيمة مضافة حقيقية لمصر، فهذه الجمعيات يتميز العمل فيها بأنه يتم من وجدان متحرر وبوازع من ضمائر أعضائها لتعظيم دور الوظيفة الاجتماعية لرأس المال الأمر الذى نرى معه أن الاتحاد التعاونى بكافة قطاعاته الزراعية والإنتاجية والاستهلاكية والسمكية، وعلى الجانب الآخر الاتحاد العام للجمعيات الأهلية من الممكن أن يكونوا الركيزة الأساسية لإعادة الحركة الحياتية فى المجتمع وبث قيم التعاون والايثار وإرساء ثقافة العمل التطوعى.
وهنا يجب أن نشير إلى أنه حينما نتحدث عن العمل التطوعى فلابد أن نفصل بين العمل التطوعى من خلال مؤسسات وبين الإدارة المهنية لهذه المؤسسات، والتى يجب أن تكون بأسلوب علمى وبأعلى مستوى من الإدارة التى تحقق الهدف المطلوب منها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفع كفاءة المجتمع وتطويره.
ولكل هذا فإننى أثمن وأثنى على فكرة إنشاء المجلس الأعلى للتعاونيات ومنظمات العمل الأهلى ودورها الريادى فى مجال التنمية والتطوير وأعتقد أن الأفضل لمستقبل العمل التعاونى، أن يترأس هذا المجلس رئيس الجمهورية على غرار ما حدث فى المجلس الأعلى للاستثمار بحيث يضم هذا المجلس الاتحادات التعاونية بأنواعها ومنظمات المجتمع الأهلى ليكون فاعلاً ومؤثراً فى التنمية الشاملة التى يبتغيها الرئيس عبد الفتاح السيسى.