الثلاثاء 28 مايو 2024

الشاعر عباس الديب.. داعية من طراز غير مسبوق

مقالات20-12-2021 | 14:57

ما من علم من العلوم ولا فن من الفنون إلا ولدى مصر رواده وكبراؤه، والمستور منهم أكثر بكثير من المشهور، تجد ذلك فى مجال الطب فى مجال الهندسة فى مجال الزراعة.. الصناعة، حتى فى عالم الغناء والموسيقى، وأيضا فى مجال الإنشاد والمدائح والذى بزغ فيه أكثر من نجم انتشرت أعمالهم وقصائدهم فى بدو الأرض وحضرها، وكان منهم وعلى ذروة سنامهم الأستاذ عباس الديب هذا العبقرى الفذ الذى أهدى المكتبة الإسلامية مئات القصائد فى مدح النبى الأكرم ﷺ بل تجاوزت ما استطاع أولاده جمعه من نظمه ما يربو على أربعين ألف بيت ما بين شعر عمودى وزجل.

بيد أن عباس الديب لم يكن شاعراً فحسب بل كان يلهم مع الكلمة اللحن الشجى ويترنم به بصوته الطروب فتكتمل منظومة العمل الفنى بدءاً من الكلمة فاللحن فالإنشاد والغناء.

 

لقد كان عباس الديب داعية من طراز خاص كان يعلِّم الدين بصورة مختلفة وبكيفية مغايرة بعيدة على النقيض تماما من الأسلوب الجاف الصحراوى الذى نفّر البعض من الدين، لقد عبّر عن مبادئ الدين - للصغير والكبير - فى صورة أنشودة عذبة يسمعها العاصى فيتوب، والقاسى فيلين، والحزين فيفرح، والبائس فيتفاءل، والمكروب فيصبر، لقد كانت لأناشيده تأثير على السامع يأخذ بلبابه، وصدق رسول الله ﷺ "إن من البيان لسحرا".. وكان إنشاده تعليميا تربويا، ولا أنسى فى حجتى عام ١٩٩٦ م كيف كان شيخ الركب قبل أيام الحج يجتمع بنا ونحن بمكة يعلمنا مناسك الحج بتفصيلاته من خلال إنشاده أنشودة "على مكة وشد رحالك" و"أنا ضيفك يا رسول الله" لشاعرنا العبقري، ورأيت كيف كان كثيرا من حجيج أهل مصر ينشد له فى عرفات أنشودته المتخمة بالأحاسيس والتى يقول فيها:

مولاى أتيتك فى ندمى

والتوبة من دمعٍ ودمِ

فتولَّ عبيدك من عدمِ

فأنا مولاى من الخدمِ

مولاى وقد زلَّت قدمي

 

  كان عباس الديب صوفيا رقيقا وكان يعد واحدا من شيوخ التصوف المستنير وأستاذا فى سلك التربية الصوفية بأخلاقياتها وصفاءها، كان يأتيه الواحد من أحاد الناس فليس بينه وبين إصلاح نفسه وتهذيبها إلا أن يسمعه إنشاده الذى يصدحه بكل خلجاته وبأعصابه وبفتات كبده المحترق عشقا فى رسول الله، فلا يملك من أمامه سوى أن يتأثر ويعجبه مديحه فيترنم معه فلا تنتهى حلقته إلا وقد ضمت لمحبى رسول الله واحدا من المحبين وعاشقا من العاشقين، ويجد هذا المحظوظ - قبل أن يقوم من مقامه - نفسه مداحا لرسول الله مأخوذا فى محبته الذى هو من أركان إيمانه إذ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.. ثم هو بعد ذلك له ديوان اسمه بين أمى والقرآن جمع فيه كل ما يواجه الشباب من مشاكل ومتاهات فى الدين وكأن والدته تقوم بحلها له بطريقة سهلة ميسرة لا تخلوا من الدراما تأخذك بإمتاعها فلا تهدأ إلا بعد تمامه وضم دفتيه لأوراقه.

 وانتقل عباس الديب وورث حلقته مجموعة محبيه ممن رباهم الديب بطريقته المثلى يجتمعون على محبة الله ورسوله ليتغنوا بقصائده - والتى طبعها مؤخرا ولده الأستاذ وحيد عباس الديب لتكون بين يدى هواة ومحترفى هذا الفن- وحرص أبناء مدرسته أمثال الأستاذ عبد الحفيظ أبو زيد ومحمود كمال على إحيائها حتى ذاع صيتها، وتنقلت من مداح لآخر ومن قطر لقطر حتى طافت العالم الإسلامى بأسره فأينما تكون مجالس الذكر والمديح فى أى بلد لا تخلو من مديح هذا المداح المنفرد فتسمع بألحانه الشجية "حبيبى شدونا له بالأنين"، "مضناك يناجيك إلهي"، "أمن دموعك ذاب الصخر والحجر"، "هلت لياليك يا حبيبي"، "على باب سيدنا النبي"، ومئات من القصائد أو إن شئت قل من الفرائد، ما بين شعر الفصحى العمودى ببحوره المعروفة وما بين زجل بديع يتجدد ولا يتحدد.

  

  هذا لون من ألوان ريادة مصر خفى عن تتبعه وملاحظته، وتخطته العيون ويستحق أن يدرَّس، وتكتب فيه أبحاث ورسائل علمية لتحليل هذا المنهج الثرى الجديد الفريد للدعوة الهادئة العميقة لدراسة الدين للصغار.. وللكبار أيضا.

 

  رحم الله الأستاذ الشاعر الزجال الداعية الشيخ عباس الديب، وجعل أبيات مديحه فى الحبيب الأعظم تشفع له فى علو درجاته كما أمتعت مئات الآلاف فى الساحات الصوفية فى حب الله ورسوله.

رئيس محكمة استئناف الإسكندرية