هو ملك ليس كغيره من الملوك، يملك إطلالة مهيبة، تقف تماثيله الحجريّة شامخة، بعضها مكتوف الأيدى تتخذ الوضع الأوزيرى، وإن ظلّ تمثاله الجالس الذى فاق وزنه الألف طن يخطف الأنظار ويبعث الرهبة فى قلب كل مَن ينظر إليه، هو ملك منتصر هزم الأعداء باقتدار، وحكم مصر القديمة لفترة طويلة فاقت الستين عاما، واشتهر بين الملوك بأنه ملك البنائين، بل وقف فى مصاف الآلهة الأبدية داخل معبده الذى حمل اسمه، بات خالدا بين أهل طيبة عبر آلاف السنين بعدما قدّسوه وعاشوا حوله متآلفين مع الموت، وإن فارق الملك الحياة الدنيوية وعبر نحو حياة البعث، فلا يزال الملك رمسيس الثانى من وجهة نظرهم أعظم ملوك مصر القديمة والأكثر شهرة على الإطلاق، لذا فإن الاكتشافات العلمية التى نجحت البعثة المصرية الفرنسية فى التوصل إليها فتحت باب المعرفة غير المسبوقة حول الدور الدينى والمجتمعى الذى لعبه المعبد الجنائزى «الرامسيوم» فى حياة المصريين القدماء، وكيف فضلوا العيش والموت فى معية ملكهم المعظم عبر مختلف العصور.
هناك بالقرب من معبده المهيب نبتت تفاصيل الحياة المصرية الأصيلة، لم يكن الموت فقط المهيمن على فضاءات المكان، بل كانت الحياة أيضا، بداية من فلسفتها وعقيدتها وحتى تفاصيلها اليومية، تلك بعض من المعلومات التى نجحت البعثة المصرية - الفرنسية فى اكتشافها داخل منطقة دير المدينة التى يطلّ فوق هضبتها معبد الملك رمسيس الثانى «الرامسيوم» المشيد من الحجر الرملى والذى يعتبر نموذجا احتذى به عدد من ملوك مصر القديمة لبناء معابدهم من بعده.
34 عاما من الحفائر العلمية والترميم والعمل الأثرى المتواصل منذ عام 1991 حتى تمكنت البعثة المصرية الفرنسية من تحقيق اكتشافاتها الأثرية غير المسبوقة، والتى أثبتت بالدليل العلمى أن معبد الرامسيوم الجنائزى لم يكن مخصصا فقط للموت، لكن الحياة بكل تفاصيلها كانت تعجّ من حوله وتنبع من داخله، على الرغم من اكتشاف عدد من المقابر من حوله والتى ترجع إلى عدد من العصور ومنها عصر الانتقال الثالث، فإنها نجحت أيضا فى تتبع مظاهر الحياة لدولة مستقرة تعتمد على نظام إدارى تتكامل معه إدارة الدولة داخل مكاتب ومرافق ومخازن وورش ومدارس تعليمية.

«كشف أثرى استثنائى» وصف دقيق ينطبق على مجهودات البعثة الأثرية المصرية - الفرنسية المشتركة بين قطاع حفظ وتسجيل الآثار بالمجلس الأعلى للآثار والمركز القومى الفرنسى للأبحاث وجامعة السوربون، حيث أسفرت أعمالها العلمية داخل محيط معبد الرامسيوم بالبر الغربى عن عدة اكتشافات أثرية، فى مقدمتها العثور على أول «بيت للحياة» يتبع المعبد، وهو المدرسة التعليمية التى حرص المصرى القديم على إقامتها داخل المعابد الكبرى، هو بمثابة مؤسسة علمية تحتضن جميع الرسومات والمعلومات التى تخص كل مناهج الحياة، إلى جانب العثور على عدد من مخازن الزيوت والعسل والدهون، علاوة على ورش للنسيج والأعمال الحجريّة والمطابخ والمخابز مما يؤدى على الحياة النشيطة وسط المنطقة المحيطة بالمعبد الجنائزى المطلّ على «دير المدينة» بالقرنة.
والعجيب فى الأمر أن المبانى القديمة تحيط المعبد من كل جانب، منها مجموعة المبانى التى تطل على الجهة الشرقية للمعبد الجنائزى وتبدو كأنها مكاتب إدارية، علاوة على عدد من الأقبية التى تطل على الجهة الشمالية والتى أثبتت البعثة العلمية أن المصرى القديم استخدمها كمخازن لحفظ خزين الطعام مثل الزيوت والعسل والدهون والنبيذ، حيث عثرت على عدد كبير من الجرار التى تحمل ملصقات توضح المخزون داخلها.
وعند المنطقة الشمالية الشرقية نجد عددا كبيرا من المقابر منتشرة ترجع لعصر الانتقال الثالث تحوى حجرات وآبارا للدفن، وداخلها عثرت البعثة على توابيت موضوعة داخل بعضها البعض وحولها مجموعة من العظام البشرية المتناثرة، والأهم هو العثور على أكثر من 400 تمثال من الأوشابتى المنحوت من الفخار، وعلى الرغم من أن ما عثرت عليه البعثة العلمية لم يحوِ قطعا أثرية ملكية أو مقتنيات مذهبة، لكنه يسرد بعضًا من فصول تاريخ المعبد الجنائزى للملك رمسيس الثاني، ويكشف عن الدور الذى لعبه خلال فترة حكم الرعامسة بالدولة الحديثة.

«مؤسسة ملكية معنية بالطقوس الدينية».. هكذا وصفه د. محمد إسماعيل، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، حيث يرى أن الحفائر العلمية كشفت عن الدور الإدارى والاقتصادى الذى لعبه المعبد عبر القيام بتقديس الملك خلال حياته وفترة حكمه، حيث أكدت أن المعبد ليس مكانا للعبادة فقط بل يحوى نظاما هرميا متكاملا مكونا من موظفين مدنيين داخل المعبد، بل احتضن المعبد أيضا مركزا لإعادة توزيع المنتجات المخزونة أو المصنعة على سكان المنطقة، بحيث تصل إلى الحرفيين القاطنين منطقة دير المدينة المحيطة، وأكد «إسماعيل» أن الدراسات العلمية كشفت عن أن موقع المعبد كان يعجّ بالحياة قبل بنائه، وقد تم استخدامه مرة أخرى خلال فترات لاحقة، كما تحول إلى مقبرة كهنوتية ضخمة بعد تعرضه للنهب، ثم استخدمه عمال المحاجر خلال العصرين البطلمى والرومانى.
أعمال البعثة المصرية - الفرنسية لم تنحصر فى موقع واحد أو تناولت دراسة علمية بعينها، بل شملت عددا من النواحى العلمية كى تتوصل لطبيعة الدور المحورى والمؤثر الذى ظل المعبد الملكى يلعبه باقتدار عبر مختلف العصور، حيث أكد د. هشام الليثى، رئيس قطاع حفظ وتسجيل الآثار بالمجلس الأعلى للآثار ورئيس البعثة من الجانب المصرى، أن أعمال الحفائر العلمية إعادة اكتشاف مقبرة «سحتب أيب رع» مرة أخرى بعدما عثر عليها الإنجليزى «كوبيل» عام 1896، موضحا أنها مقبرة ترجع إلى عصر الدولة الوسطى وتتميز بوجود مناظر لجنازة لصاحب المقبرة على جدرانها، وأكد د. «الليثى» أن الدراسات العلمية سوف تستمر أملا فى مزيد من الاكتشافات، خاصة أن البعثة العلمية انتهت من ترميم الجهة الجنوبية بالكامل من قاعة الأعمدة وحتى منطقة قدس الأقداس، علاوة على الانتهاء من تجميع القطع الأثرية التى تمثل تمثال «تويا» والدة الملك رمسيس الثانى ونقلها إلى موقعها الأصلى جنوب تمثال الملك، كما قامت البعثة بترميم تمثال للملك رمسيس الثانى، وقامت بوضعه على قاعدته بعد ترميمها ودراسة حالة التمثال بالكامل.
«تعرفنا على التخطيط المعمارى للقصر الملكى وغرفة العرش وقاعة الاستقبال الملكية التابعة للمعبد والتى عادت مرة أخرى للحياة بعدما قامت البعثة بترميمها، لم يتبقَّ الكثير».. هكذا وصف د. كرسيتيان لوبلان، رئيس البعثة من الجانب الفرنسى أعمال بعثته العلمية، حيث إنها نجحت فى الانتهاء من أعمال ترميم القصر الملكى المجاور للفناء الأول للمعبد، مرددا بقوله: «تخطيطه الأصلى بات واضحا» بفضل أعمال البعثة حيث لم يتبقَّ سوى عدد قليل من قواعد الأعمدة من تخطيطه المعمارى القديم، كما نجحت البعثة فى الكشف عن جميع الجدران المصنوعة من الطوب اللبن والتى تبدو من تخطيطها كأنها قاعة استقبال أو غرفة العرش، حيث كان الملك يقوم بإجراء المقابلات أثناء وجوده داخل معبد الرامسيوم.
فى حين عثرت البعثة العلمية وسط منطقة باب الصرح الثانى على جزء من العتب الجرانيتى للباب والذى يمثل الملك رمسيس الثانى متألهًا أمام المعبود «آمون رع»، كما عثرت على بقايا الكورنيش الذى كان يقف عليه وهو فى الأصل إفريز من القرود، كما قامت البعثة برفع الرديم من طريق المواكب الشمالية والجنوبية، الأمر الذى أدى إلى اكتشاف طريق طويل تصطف على جانبيه تماثيل حيوانية تتجسد على هيئة «أنوبيس»، متكئا على مقصورة صغيرة تعود إلى عصر الانتقال الثالث.
وكانت البعثة المصرية - الفرنسية قد أعلنت منذ أيام عن نتائج أعمالها الأثرية والعلمية التى تقوم بها داخل المعبد الجنائزى الخاص بالملك رمسيس الثاني، وهو المعبد المكون من صرح أول ضخم تتزين واجهته الخارجية بأربع ساريات أعلام، وتحوى واجهاته الداخلية مناظر من معركة «قادش» الشهيرة التى هزم فيها الملك الحيثيين، فى حين يحوى الجانب الشمالى صفًا من الأعمدة الأوزيرية، أما الصرح الثانى للمعبد فلا تزال بقايا تمثال الملك المنحوت على الجرانيت الأسود والذى يجسد الملك رمسيس الثانى تقبع أمامه دون حراك، وإن كان أهم ما يتميز به المعبد هو صفوف الأساطين البردية والأعمدة الأوزيرية التى لا يزال عدد منها قائما، كما يحتضن المعبد عددا من المقصاير المخصصة للمعبودات المختلفة، وإن ظل تمثال الملك جالسا من أجمل وأعظم القطع الأثرية، حيث فاق ارتفاعه أكثر من 17 مترا ويزن حوالى ألف طن والذى قابعا بلا حراك، يبثّ الرهبة فى نفوس الزوار الفضوليين عبر مختلف العصور، حيث انبهر بعظمة تماثيل الملك علماء الحملة الفرنسية الذين رافقوا نابليون خلاله حملته على مصر ما بين 1798 و1801، وهو الوصف الذى دفع شامبليون إلى زيارة المعبد فى عام 1829 ليقف أمامه مذهولا، ويطلق عليه اسم «الرامسيوم» نسبة إلى الملك رمسيس الثانى.