الإثنين 29 ابريل 2024

سؤال التراث عند حسن حنفي

د. غيضان السيد علي

كنوزنا11-2-2022 | 20:38

د. غيضان السيد علي - كاتب وأكاديمي مصري

يبقى سؤال التراث سؤالًا محوريًا في المشاريع الفلسفية والفكرية العربية المعاصرة، حيث إن سؤال النهضة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بإشكالية التراث والموقف منها، وقد تعددت مواقف المفكرين العرب المعاصرين من التراث واختلفت من النقيض إلى النقيض، فمنهم من رأى أن الإجابة المُثلى عن سؤال التقدم والنهضة تكمن في العودة إلى التراث والاستفادة من كنوزه وذخائره بشكل أساسي، ومن هؤلاء: محمد عبده، ورشيد رضا، وعبدالله النديم، وعبدالقادر المغربي، وطاهر الجزائري، ومصطفى عبدالرازق، ومحمود شلتوت، ومحمد البهي، ومحمد عبدالله دراز وغيرهم؛  ومنهم من رأى أن الإجابة عن سؤال النهضة والتقدم يكمن في  قتل التراث والتخلص منه نهائيًا، من أمثال: سلامة موسى، وإسماعيل أدهم، وإسماعيل مظهر، وهشام جعيط وغيرهم؛ وبين هؤلاء وهؤلاء وقف فريق كبير من المفكرين العرب ينادون بقتل التراث نقدًا وفحصًا وتمحيصًا والاستفادة مما بقي منه حيًا، وهؤلاء يشكلون الفريق الأكبر من حيث العدد. 

أي هكذا بدا سؤال التراث ركنًا أصيلًا وأساسيًا في تلك المعالجات من خلال مسميات مختلفة منها: الأصالة والمعاصرة، الوافد والموروث، التراث والتجديد.

وتحت هذا المسمى الأخير (التراث والتجديد) عمد حسن حنفي(1935- 2021 م) إلى تقديم رؤيته الخاصة في موقفه من التراث وإجابته عن سؤال النهضة؛ إذ رفض مقدمًا مسمى(تجديد التراث) وارتضى مسمى(التراث والتجديد)، حيث يبدو التراث نقطة البدء، الوسيلة وليس الغاية، أما التجديد فهو إعادة تفسير التراث حسبما تقتضي متطلبات العصر وحاجاته. 

فإذا كان التراث الوسيلة، فإن الغاية تغيير الواقع إلى الأفضل عبر معالجة قضايا التراث التي أعاقت التقدم ووقفت كحجر عثرة في طريق النهضة. 

لكنَّ التراث وفقًا لحسن حنفي ليس ما قد يفهمه القارئ المتعجل من أنه يعني ما تركه الأولون من كتب ونظريات، وإنما هو المخزون النفسي للجماهير، ليبقى التجديد عند حسن حنفي هو إعادة التفسير حسب متطلبات العصر والواقع المعيش.

فانطلق في كل مؤلفاته التي تَكوَّن منها مشروعه الفكري والفلسفي إلى تفسير التراث لصالح الواقع، وهو ما يلاحظه القارئ بوضوح من العناوين الرئيسية التي تشكل محاور مشروعه: من العقيدة إلى الثورة فى علم الكلام، ومن النقل إلى الإبداع فى علوم الحكمة، ومن النص إلى الواقع فى علم أصول الفقه، ومن الفناء إلى البقاء فى علوم التصوف، ومن النقل إلى العقل فى العلوم النقلية الخمسة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه. 

ومن ثم يمكن أن نقول مقدمًا إنَّ حسن حنفي ينتمي إلى تيار الوسط الذي لا يرى الحل في التكالب على التراث ولا في نفض اليدين منه، وإنَّما في معالجته معالجة خاصة فهو لا يزال حيًا وفاعلا في وجدان الجماهير وحياتهم، وهو جزء من الواقع ومكوناته النفسية.

ما التراث؟

يرى حسن حنفي أن التراث كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. إذن فالتراث لا يزال حيًا في وجدان الجماهير، وعلى حد تعبير حنفي "المخزون النفسي عند الجماهير". ولذلك يستبعد حنفي من التراث كل ما لا يوجد حيًا مؤثرًا في حياة الجماهير من الشعوب الإسلامية، ويمكن أن يوجهها ويؤثر في تطلعاتها المستقبلية.

فليس التراث عنده الموجود في المكتبات  والمساجد والدور الخاصة من ذخائر كتبها الأقدمون والتي يعاد طبع بعضها حسب الهوى – فيما يرى حنفي- فإذا لجأ العصر إلى التصوف تعويضًا عن روح الهزيمة أو طلبًا للنصر فإنه يعاد نشر المؤلفات الصوفية. 

وإذا تشوّف العصر إلى المدينة الفاضلة وتطلع إلى المجتمع الجديد تعويضًا عن الفساد الأخلاقي والانحراف السياسي نُشرت المؤلفات عن فضائل الصحابة، وعن العشرة المبشرين بالجنة، وإذا شاعت الخرافة بين الناس، وساد الانفعال على العقل، واشتدت الحاجة، وزاد الضنك، نشرت المؤلفات عن المعاد وعن عالم العدل القادم الذي تملأ فيه الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. 

وإذا قيل إن السبب في الهزيمة البُعد عن الكتاب والسنة أعيد نشر الكتاب والسنة في طبعات مذهبة، منمقة مزركشة؛ لزيادة ثروات التجار، وليتبرك بها الناس في بيوتهم، تقيهم الشر وتمنعهم الحسد، وتجلب لهم الخير ويتبادلها رؤساء الدول هدايا فيما بينهم، وترسلها المؤتمرات والجمعيات الإسلامية إلى الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية لنشر الوعي الإسلامي، ونكون جميعًا كالحمار يحمل أسفارًا.

فإذا كان حنفي يستبعد هذا التراث المادي المتمثل فيما تركه الأولون من كتابات لا تؤثر في الوجدان العام للشعوب الإسلامية، فإنه لا ينكر إمكانية استخدامه أيديولوجيًا لتحقيق المكاسب المادية أو السياسية نظرًا لمكانة ما هو تراثي في وجدان الشعوب حتى لو كانوا لا يعلمون عنه شيئًا. 

وهنا يكشف حنفي عن حساسية التراث كموضوع مقدس لا ينبغي لمسه أو الاقتراب منه عند العامة، ولا يخفى على القارئ كيف قامت الدنيا ولم تقعد بعد تلك المحاورة التي دارت بين فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وانحياز العامة إلى عدم المساس بالتراث رغم انحياز العقلاء والخاصة إلى رأي الأستاذ الذي رأى ضرورة إعادة تقييم التراث وأن نأخذ منه ما هو عقلاني وما ينفعنا في بناء نهضتنا المأمولة، وترك ما هو خرافي وساذج أسطوري غير عقلاني. 

نخلص مما سبق أنه ليس هناك وجود للتراث -عند حنفي- مستقلًا عن الوجود الحي المعيش الذي يتغير ويتبدل، ويعبر عن روح العصر، ويسهم في تكوين الأجيال، ومرحلة التطور التاريخي.

فالتراث مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته، إذن فهو ليس مجموعة من العقائد النظرية الثابتة الجامدة أو الحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموع تحققات هذه النظرية في ظرف معين، وفي ظرف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكوّن تصوراتها للعالم.

 التراث وتاريخية النص:

لما كان التراث عند حسن حنفي ليس هو المخزون المادي في المكتبات، وليس كيانًا نظريًا مستقلا بذاته، وليس هو ما يوجد في المتاحف القديمة أو الذي ينقب عنه علماء الآثار، إنما هو التراث الحي المخزون في وجدان وسلوك الجماهير الموجه بأفكاره وتصوراته ومُثله لسلوك الجماهير في حياتها اليومية إمَّا بعاطفة التقديس في عصر لا يسلك الإنسان فيه إلا مداحًا، أو بالارتكان إلى ماض زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضني. 

لذلك كان لزامًا على حسن حنفي أن يقول بتفسير جديد للنص القرآني الذي يمثل جزءا كبيرا من التراث، فالتراث والتجديد في الحقيقة محاولة لإعادة بناء الحضارة بالرجوع إلى مصدرها في الوحي أو إعادة تفسير الوحي كما هو بالرجوع إلى الحضارة الإنسانية الحالية وتخليصها من الركود التاريخي القديم. 

فالغاية النهائية الوحي ذاته، وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلا عن طريق نظرية في التفسير تكون منطقًا للوحي.

فالتفسير هو النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر وصبها في الواقع لتحدد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة، ومن ثم كانت نظرة حسن حنفي إلى النص القرآني الذي راح يدرس ما جاء فيه وفقًا للأحداث التاريخية التي رافقت نزوله؛ إذ رأى أن نزول الوحي كان حسب متطلبات الواقع، أو كما يقول علماء الأصول: طبقًا لأسباب النزول، وتبعًا لإمكانيات تقبَّلِه. مقررًا أن الوحي كثيرًا ما كان يُعَدَّل حسب الواقع كما يقول بذلك علماء النسخ. 

ومن ثم رأى حنفي أنه من الخطأ الجسيم فصل النص عن واقعه والنظر إليه بوصفه مستقلًا بذاته يحتوي على أحكام مطلقة، ومن ثم رأى حنفي أن هناك علاقة بين النص والواقع، فالنص استجابة لنداء الواقع ومتطلباته ومقتضياته، والواقع يجد تفسيره في النص، إذا ما تم تأويل النص وفهمه تاريخيًا وواقعيًا.

التراث وأنسنة المقدس

الأنسنة نزعة غربية ظهرت مع الحداثة الغربية، وهي تلك النزعة التي تجعل الإنسان سيدًا للكون لا سيدًا في الكون، وأنسنة المقدس تعني نزع القداسة عن النص، والتعامل معه في ضوء ذلك، أي بقراءته قراءة نقدية تاريخية، وأنسنة المقدس هي الرؤية العامة التي تحكم تعامل حنفي مع التراث؛ حيث ساوى في التراث بين ما هو مقدس وما هو بشري حيث يقول: "والتراث ليس تراثًا دينيًا فحسب بل يتداخل فيه الديني والشعبي، المقدس والدنيوي، لا فرق في الاستخدام الشعبي بين الاستشهاد بالآية القرآنية والحديث النبوي وبين الاستشهاد بالمثل الشعبي وبسير الأبطال، كلاهما مصدر سلطة ومنبعًا لمعايير السلوك، وتتداخل معهما أقوال الآباء والأجداد، ونصائح المعلمين والمشايخ والرواد، الكل حجة سلطة وليس حجة عقل، يتداخل فيه الصحيح والموضوع، التاريخي والأسطوري، المروي والخيالي، الكل يكون مخزونًا نفسيًا في اللا شعور التاريخي للأمة وفي ذاكراتها الجماعية".

وهذه التسوية أثارت حفيظة الاتجاه المحافظ حيث رد فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب على صفحات مجلة الأزهر مرتئيًا أن مثل هذه التسوية تهدف إلى تحطيم متعمد للحواجز الفاصلة في نفوس الجماهير بين جانب مقدس وجانب لا يحظى بأية صورة من صور التقديس، وإن حظي باهتمام الجماهير ولهوها به ليل نهار، كما رأى أن صاحب (التراث والتجديد) برغم أنه لا يكف عن دعوى أحقيته في الحديث عن الجماهير والدفاع عنها، إلا أنه يتناسى أن الجماهير التي يتحدث عنها قد صمم فكرها  وشعورها ووجدانها ومخزونها النفسي على رفض هذا الخلط، وأنها لا تعرف فنًا دينيًا بالمعنى الذي صوره لنا صاحب(التراث والتجديد)، وإنما تعرف دينًا له قدسيته وحرمته في القلوب، وتعي الفرق- الذي يتخطاه صاحب التراث والتجديد- بين الدين كحقائق إلهية، وبين قصص شعبي لا ندري إن كان مصدره واقعًا، أو أساطير لا تمت إلى الواقع بأدنى صلة أو سبب، منتهيًا إلى أن مثل هذه التسوية بين المقدس والبشري لم تكن نتيجة لتحليل علمي يتسق فيه استنباط النتائج من مقدماتها، بقدر ما كان محاولة لخلخلة قدسية الدين في نفوس الجماهير، ليصبح معطى تاريخيًا قابلا – برمته- لإعادة التشكيل، لا كمعطى إلهي فيه الثابت الذي لا يتغير، والمتغير القابل للتجديد.

ومن هذا المنظور يعيد حنفي تفسير وتأويل النص القرآني معتمدًا على أن الواقع هو المصدر الأول والأخير لكل فكر، فلا يوجد هناك نص لا يمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به، فتصبح مهمة القارئ ألا يأخذ بما يقوله النص بل يتحرر من سلطة النص ليقرأ ما لا يقوله.

لذلك يرى حنفي ضرورة توظيف النصوص التراثية لخدمة الواقع؛ فيؤول قصص الأنبياء ليجعل منها نماذج للبطولة وقيادة الشعوب ومقاومة الظلم والطغيان (موسى وفرعون- محمد "صلى الله عليه" وسلم وقريش). 

وينتقد حنفي تراثنا القديم كله مبينًا مثالبه الذي تتمثل في غياب مفاهيم: الإنسان والحرية والعدالة، فيرى أن الإيمان بالقضاء والقدر والتوكل لم يسلمنا إلا إلى العجز واللامبالاة والسلبية والتواكل، ولم نأخذ من علم الكلام إلا قبول الإمام بالتعيين والخضوع له والضعف أمامه، وما علمتنا الفلسفة السياسية إلا أن الرئيس وحده هو الملهم والقائد والمعلم وأكمل البشر، كما أخذ حنفي على الفقهاء أنهم لم يكونوا سوى محترفي جدل فارغ دون اهتمام بفقه العدالة الاجتماعية أو التحرر من الظلم وانشغلوا بأمور تافهة من قبيل: حكم وصية كتبها رجل بين أنياب أسد، أو هل يجوز أكل بيضة دجاجة نكحها إنسان؟! كما رأى حسن حنفي أن التصوف دعوة إلى الخوف والجبن والجوع والصبر والتوكل والتسليم وهروب من عالم العقل، ومن ثم يؤكد حنفي على ضرورة ربط التراث بأهداف مشروع اليسار الإسلامي وقضاياه الأساسية: الحرية، التحرر، العدالة الاجتماعية، الهوية... إلخ .. حيث يبدو اليسار الإسلامي بمثابة أيديولوجيا ثورية تربط بين الدين والثورة، والإيمان والعدالة، والله والشعب، والعقائد والمطالب الاجتماعية، والوحي من ناحية، والحرية والإخاء والمساواة من ناحية أخرى.

وأهم ما نقف عنده هنا أن حسن حنفي لم ير في التراث إلا كل ما هو زائف يجب التخلص منه، ولم يبين لنا ما يجب أن يظل ويبقى وما الذي يجب أن يحال إلى متحف الأفكار والنظريات؟

 

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022

Dr.Randa
Dr.Radwa