الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

ثقافة

جابر عصفور.. نبوءة العميد.. وعصامية الحفيد

  • 11-2-2022 | 20:44

طباعة
  • محمد الشافعي

عنيد يرفع رايات التحدي.. ويأبى التراجع.. مجتهد يحلق دوماً بأجنحة النشاط والمثابرة.. عقلاني يؤمن بسلطان العقل.. مستنير يدافع عن التنوير والحداثة.. جعل من معارفه شجرة باسقة.. تضرب بجذورها فى عمق عمق التراث.. وتحلق أغصانها فى فضاءات الحداثة والتنوير.. محارب شجاع يبارز خصومه بأفكاره ورؤاه.. من دون إيلام أو تجريح لهؤلاء الخصوم .. مرح ينثر البهجة على دروب تلامذته ومحبيه

.. نموذج مبهر للمثقف العضوي.. الذى ملأ الدنيا علماً وثقافة.. امتلك دوماًميزان الذهب”.. ليوازن به ما بينمشروعه الخاصفى النقد والاشتباك مع قضايا الواقع السياسى والثقافى والاجتماعى.. وبين تجربته الكبيرة والناجحة فى العمل الثقافى العام.. إنه المثقف الموسوعى والناقد الفذ المستنير د. جابر عصفور.. الذى استطاع أن يحفر اسمه على جدران الخلود.. مع عظماء الفكر والثقافة والأدب.

ولد جابر عصفور بمدينة المحلة الكبرى فى 25 مارس 1944.. وكان والده قد اختار له اسم جابر قبل مولده بسنوات طويلة.. حيث تأخر الوالد فى الإنجاب.. فنذر إذا رزقه الله بولد أن يجعل اسمه جابر.. وذلك تيمناً باسم العارف بالله سيدى جابر.. صاحب المقام المشهور بالإسكندرية.. وبعد مجيء الطفل كان الأب يأخذه معه مرة أو مرتين كل عام لزيارة مقام سيدى جابر بالإسكندرية.. وكان الأب قد نشأ بمدينة الإسكندرية.. وعمل مع والده فى صياغة الذهب.. ثم عمل لفترة مترجماً مع الإنجليز فى بداية الحرب العالمية الثانية.. وتزوج الأب أحمد السيد عصفور من سيدة تعيش فى مدينة دمنهور.. ولكنه لم يرزق منها بأولاد.. فقرر ترك الإسكندرية وذهب إلى مدينة المحلة الكبرى.. وافتتح محل بقالة فى وسط المدينة بشارع سعد زغلول.. ورغم عدم انفصاله عن زوجته الأولى والتى تركها فى دمنهور.. تزوج من أرملة ولود لديها بعض الأبناء.. وسرعان ما أنجب منها بنتاً أسماها ليلى.. تيمنا باسم المطربة ليلى مراد.. ولكنه كان يحلم دوماً بإنجاب الولد.. فرزقه الله بتوأم جابر وسيد.. ولكن سيد توفى سريعاً.. وبقى جابر الذى كان قرة عين أبيه.. ولذلك كان الأب شديد الطيبة والتساهل مع ابنه.. بينما الأم قوية الإرادة والعزيمة.. وصرامة الأم جعلتها مثل الوتد.. تكره الهشاشة العاطفية.. وترفض المشاعر المجانية الفياضة.. وتأبى البكاء.. وكانت تعبر عن مشاعرها وحبها العميق للقريبين من قلبها عن طريق أفعالها وسلوكها العملى.

 

جمع الطفل جابر فى شخصيته بين طيبة ومرونة الأب.. وصرامة وشدة الأم.. والطريف أن جابر عصفور كانمتعدد الأمهات”.. فإلى جانب أمه التى أنجبته.. عاش البنوة مع ثلاث أمهات أخريات.. الأولى كانت زوجة أبيه السيدة بدرية.. والتى كان يذهب إليها الأب سراً إلى محل إقامتها فى دمنهور.. وعندما شب الابن جابر عن الطوق كان يأخذه معه.. وراح الطفل بعفوية ينادى تلك السيدةماما بدرية”.. وكان هذا النداء يحيل هذه السيدة الطيبة إلى كتلة من المشاعر والحنان.. فهي المحرومة من الإنجاب عندما تستمع إلى كلمة ماما تغدق على هذا الفتى من مشاعرها وهداياها ولا تمل من احتضانه.. وعندما توفى الأب والابن لا يزال فى دراسته الجامعية. ذهبت السيدة بدرية إلى المحلة الكبرى.. واحتضنت ابنها جابر.. وألحت عليه من بين دموعها ألا ينقطع عن زيارتها.. ووعدها بأنه سيفعل.. ولكن سرعان ما رحلت هذه السيدة الطيبة لتلحق بحبيبها فى الرفيق الأعلى.

 

أما الأم الثالثة لجابر عصفور.. فكانت جارتهم المسيحية السيدة دميانة.. التى كانت ترضعه فى غياب والدته.. وظلت تعامله طوال الوقت مثل ابنها.. إلى أن رحلت عن دنيانا فبكاها كأنها أمه .. وقد نشأ جابر عصفور رافضاً لكل أشكال التعصب الدينى.. بسبب ارتباطه بهذه السيدة وأسرتها.. والتى كان يعاملها مثل أمه تماماً.. وساعد على تنمية مشاعر التسامح الدينى بداخله.. التحاقه بمدرسة الأقباط فى المرحلة الابتدائية.. وكانت المدرسة يوم الجمعة تنهى اليوم الدراسى بعد الحصة الثالثة.. لكى يلحق الطلبة المسلمون بصلاة الجمعة.. فكان الفتى جابر يخرج من المدرسة إلى أقرب مسجد والذى يحمل اسمأبوالفضل الوزير”.. وإلى جوار هذا المسجد توجد كنيسة قديمة تعود إلى القرن الثالث الميلادى.. وكان بعض زملائه المسيحيين بالمدرسة يذهبون معه إلى المسجد.. كما كان يذهب معهم إلى الكنيسة.. كما زادت مساحة التسامح بداخل الفتى الصغير من خلال تعامله مع الشيخ عبدالسلام السمح المبتسم إمام مسجد ابن عطاء الله الصوفي.. وكان لكل هذا أكبر الأثر فى إبعاد جابر عصفور عن الوقوع فى فخ الإخوان.. عند التحاقه بكلية الآداب بجامعة القاهرة.. حيث كان قسم اللغة العربية.. يضم العديد من أعضاء الإخوان.. الذين كادوا أن ينجحوا فى ضمه إليهم ولكن مخزونه من التسامح الدينى جعله يتراجع سريعاً.. وقد كتب عن ذلك فى سيرته الذاتيةوانضم مدرس اللغة العربية فى المدرسة الإعدادية إلى كتيبة الداعمين للفتى جابر.. والذى قال بعد ذلك فى سيرته الذاتيةكان من حسن حظى أننى تتلمذت فى المرحلة الإعدادية على يد أستاذ لغة عربية دفعنا إلى حب الأدب بوجه عام.. والشعر بوجه خاص.. ولذلك تعرفت على الشعر فى الإعدادية.. وحفظته فى المرحلة الثانوية”.

ويبدو أن عشق اللغة العربية محفور على جينات جابر عصفور، حيث كان حلم والده.. ذلك الرجل البسيط أن يرى ابنه مثل عميد الأدب العربى د. طه حسين.. وفى مرحلة مبكرة من حياته التقط الفتى - المنذور للأدب واللغة العربية - كتاب الأيام للدكتور طه حسين من فوق أرفف مكتبة المدرسة.. وبعد أن قرأ السيرة الذاتية للعميد.. انبهر بروح التحدي.. وقدرة هذا العملاق على قهر الفقر والمرض.. وتحدي الظلام.. الذى لم يمنعه من أن ينهل من العلم والمعرفة فقرر الفتى الطموح أن يكون مثل طه حسين.. ولذلك كان الاختيار الأول والوحيد للفتى جابر عند الالتحاق بالجامعة.. قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة رغم أن مجموعه كان يؤهله لكليات القمة.. ولكنه اختار الآداب.. الكلية التى يعمل طه حسين أستاذاً بها.. وكان عميداً لها.. ولكن فرحة الفتى لم تكتمل، فعند التحاقه بالجامعة كان العميد قد قرر التدريس لطلبة الدراسات العليا فقط.. ولكن الغياب الفيزيائى للعميد.. لم يمنع حضوره الطاغى فى كل جنبات الكلية.. خاصة مع وجود تلميذته النجيبة د. سهير القلماوي.. بكل ما تمثله من التفتح الاجتماعى.. والموسوعية الثقافية.. والجسارة فى الحق.. والإيمان بقضية المرأة والدفاع عن حقوقها.. وقد احتضنت د. سهير القلماوى الفتى جابر لتصبح أمه الرابعة.. وقد عشق التلميذ أفكار وفلسفة أستاذته.. والتى كانت تتعامل مع تلامذتها وكأنهم كتبهاالمتحركة”.

وعند التحاقه بالجامعة سكن فى حجرة صغيرة على سطح إحدى العمارات.. ومنذ اللحظة الأولى لدخوله الجامعة.. قرر أن يتفوق لسببين الأول تحقيق حلمه وحلم والده فى أن يكون مثل طه حسين.. والسبب الثانى أن يحصل على المجانية.. ولكن الزعيم جمال عبدالناصر سرعان ما حقق أحلام كل الطامحين للتعليم من أبناء البسطاء والغلابة عندما جعل التعليم العالى مجانياً.. وكان جابر عصفور من المؤمنين بمبادئ ثورة يوليو.. وعلى قناعة بأن الثورة وزعيمها ستحقق كل أحلام الشعب المصرى.. واستطاع بتفوقه أن يلفت أنظار كل أساتذته د. شوقى ضيف.. د. عبدالعزيز الأهوانى.. إلخ.. وانتهاء دراسته بالجامعة مرض والده فجأة.. وتم نقله إلى مستشفى قصر العينى.. ليموت بعد أيام قليلة.. ليجد الشاب جابر عصفور نفسه وحيداً فى هذه المدينة القاسية.. والأقسى أنه لم يكن يملك تكاليف الحانوتى وتجهيز والده ونقله إلى مدافن الأسرة بالمحلة.. وفجأة يجد أمامه أستاذه د. عبدالعزيز الأهوانى.. الذى تكفل بكل المصروفات .

واصل الفتى دراسته بإرادة من فولاذ.. حتى يحقق حلم أبيه.. والأهم لكى يتخذ العلم سلاحاً يحميه.. خاصة بعد أن صار وحيداً بعد رحيل الأب.. فحصل على ليسانس قسم اللغة العربية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.. بل كان الأكثر تفوقاً بين كل طلاب اللغة العربية فى كل الجامعات.. وذلك فى عام 1965.. وكان الطبيعى أن يتم تعيينه معيداً بالكلية.. ولكن المفاجأة الصادمة والحزينة.. كانت فى تعيينه مدرساً فى إحدى المدارس الابتدائية.. فى قرية نائية من قرى محافظة الفيوم.. وحاول الفتى العنيد أن يحصل على حقه.. ولكن كل الأبواب أغلقت فى وجهه.. فدفعه الإحساس بالظلم والقهر إلى كتابة خطاب شديد اللهجة إلى الزعيم جمال عبدالناصر وذلك فى عام 1966.. وكان جابر عصفور يرى فى عبدالناصر بطله السياسى.. والإرادة الفعالة لتحقيق حلم د. طه حسين بطله الثقافى فى جعل التعليم مثل الماء والهواء.

وكتب عصفور فى خطابه إلى ناصرتتحدث كثيراً عن العدل.. بينما المجتمع الذى تحكمه لا عدل فيه.. فكيف لمتفوق نال المركز الأول على كل أقسام اللغة العربية بجامعات مصر لا يصبح معيداً”.. وكان جابر عصفور ضحية اختلافات أساتذة القسم.. كما أنه أرسل هذا الخطاب الغاضب.. بعد أن قتله الظلم والقهر فى مجاهل الفيوم.. حيث كان مفتش اللغة العربية من خريجى دار العلوم ويكره خريجي الآداب وبعد أن تسبب تفوقه فى عدم حصوله على أي عمل.. حيث كلما تقدم إلى وظيفة.. يكون السؤال المنطقى لماذا لم يعمل هذا المتفوق فى الجامعة.. لابد أنه إما شيوعى أو إخوانى.

 

قرأ عبدالناصر شكوى الشاب المتفوق وكتب عليها قراره إلى وزير التعليم العالىيتم تعيين الشاب بالجامعة.. وإفادتى بأسباب تأجيل تعيينه”.. وذهب جابر عصفور إلى الجامعة فى إحدى زياراته الاعتيادية ليسأل عن مصيره.. فوجد الجامعة كلها تسأل عنه.. واستقبله رئيس الجامعة على باب مكتبه.. ليتم تعيينه معيداً بقسم اللغة العربية بكلية الآداب.

وبلغت فرحة جابر عصفور ذروتها.. ليس بسبب حصوله على حقه.. ولكن لأنه أخيراً سيجلس فى حضرة شيخه وأستاذه د. طه حسين.. وسرعان ما خبت وانطفأت تلك الفرحة.. حين علم أن الأستاذ العميد قد توقف تماماً عن التدريس لطلبة الدراسات العليا.. واعتكف فى بيته تحت وطأة السن والمرض.. فلجأالفتى المريدإلى أستاذته وأمه الرابعة د. سهير القلماوي.. والتى كانت فرحة بتفوقه.. وتعامله مثل أمه.. وتقدر هوسه وشغفه بالدكتور طه حسين وكتبه.. فلم تخيب الأستاذة الأم رجاءه.. وأخذته معها إلى بيت العميدرامتان”.. وجلس المريد فى حضرة الشيخ.. تتنازعه العديد من المشاعر.. وسأله العميد عن أحب الشعراء له فرد أبا العلاء.. وعاود العميد سؤاله وهل تحفظ شعراً؟ فقال "كذب الظن لا إمام سوى العقل

مقيماً فى صبحه والمساء".. وقد أحسن الاختيار حيث كان العميد ممن يؤمنون بسيادة العقل.. التى تؤدى إلى رحابة الفكر.. متسلحة بروح التحدي..

 

وراح العميد يسأل وجابر يجيب.. ثم ابتسم العميد ابتسامة حانية.. وكأنها ابتسامة جد فرح بولادة حفيد جديد.. وقال للدكتورة سهير القلماوى.. تلميذك لديه ميل للفلسفة.. وهذا يفيد فى النقد.. لأن النقد من دون نظرية فلسفية يعدو كتابة سطحية.. وتلميذك هذا قد يكون له إنجاز فى النقد الأدبى.. وهكذا جاءت نبوءة العميد.. لتزرع فى وجدان الشاب المتفوق.. بذور التفوق فى عالم النقد الأدبى.. وكان عصفور قد اختار بعد تخرجه التخصص فى الأدب العربى الحديث.. وتحديداً فى النقد الأدبى الحديث.. وكان يرى فى العميد صاحب المشروع التحديثى الجذرى للثقافة العربية.. فهو أول مثقف عربى يشغل نفسه بمستقبل الثقافة فى أمته وطالب بإلغاء ازدواج التعليممدنى - دينى”.. كما طالب بتعلم اللغات اللاتينية.. وهو الناقد الذى جمع بين التراث والمعاصرة.

كما كان مبهوراً بتلك الإرادة الفولاذية لدى د. طه حسين.. والتى دفعته لتحقيق أكثر من معجزة.. حيث انتصر على العاهة والفقر.. ووصل إلى قمة الهرم الاجتماعى.. وكان سابقاً لعصره.. حيث كان أول من أنشأ المراكز الثقافية المصرية فى الخارج.. وبدأ بالمغرب وإسبانيا وإيطاليا.

 

ولكل ذلك قرر عصفور أن يسير على نهج شيخه د. طه حسين.. وأن يجعله مثله الأعلى فى الإبداع والتأثير.. وذلك بعد أن جذبته عوالمه ليعيش ويتعايش مع سيرته الذاتية.. بل قرر الشاب المتفوق أن يكون طه حسين جيله.. مستلهماً أدوات العميدالليبرالية - العقلانية”.. فسار على درب العميد الذى كان يجرب كل منهج ممكن فى التعامل مع الأدب العربي القديم والحديث.. ويسعى فى ذات الوقت إلى الإفادة من كل تصور نظرى.. أو إجراء تطبيقي يعينه على تأجيل الدراسة الأدبية.. فينتقل بين المناهج والنظريات.

 

 

وكان د. جابر عصفور من المثقفين الوطنيين الذين رفضوا كامب ديفيد.. ومعاهدة السلام مع العدو الصهيونى.. كما كان شديد الانتقاد للرئيس السادات.. لأنه قام بتمهيد الطريق أمام جماعات الإسلام السياسى.. وكان نموذجاً للربط بين الاستبداد السياسى والاستبداد باسم الدين.. ولذلك لم يكن غريباً أن يكون اسم جابر عصفور ضمن قائمة طويلة من السياسيين والمثقفين.. الذين إما اعتقلهم السادات فى سبتمبر 1981..  أو فصلهم من أعمالهم.. فذهب جابر عصفور إلى السويد ليعمل أستاذاً زائراً فى جامعة استوكهولم.. من سبتمبر 1981 إلى يونيو 1982.. وظل طوال الوقت رافضاً لأي نوع من التطبيع مع العدو الصهيونى.. وعاد إلى مصر ليصبح أستاذاً للنقد الأدبى فى آداب القاهرة عام 1983.. وكانت العودة للجامعة بحكم قضائى.. ثم عاود الترحال.. حيث سافر إلى الكويت ليعمل أستاذاً فى كلية الآداب جامعة الكويت من 1983 - 1988.. كما شغل فى ذات الكلية منصب العميد المساعد من 1986 - 1988.. وعاد إلى القاهرة ليعمل أستاذاً فى آداب القاهرة.. ثم رئيساً لقسم اللغة العربية فى 19 مارس 1990 وحتى بداية عام 1993.. حيث بدأ فى يناير 1993 مرحلة جديدة من حياته.. وهى مرحلةالعمل العام”.. بعد قرار وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى بتعيين جابر عصفور أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة.

وكان فاروق حسنى قد تولى الوزارة فى عام 1988.. ليواجه بحالة من الرفض بين أروقة المثقفين.. ولمواجهة هذا الرفض حرص فاروق حسنى على أن يحيط نفسه بعدد من كبار المثقفين.. مثل د. فوزى فهمى - د. سمير سرحان.. د. جابر عصفور - محمد سلماوى - محمد غنيم.. إلخ.. وكان فاروق حسنى قد قام بتعيين جابر عصفور رئيساً لتحرير مجلة فصول فى عام 1992.

وكشف المجلس الأعلى للثقافة عن مواهب إدارية وثقافية كبيرة لدى جابر عصفور.. حيث استطاع ضخ الحيوية فى شرايين الثقافة المصرية.. وعمل على استعادة القاهرة موقعها المحورى فى الثقافة العربية.. ذلك الموقع الذى كان مبهراً فى الخمسينيات والستينيات.. مع ذروة تألق القوة الناعمة المصرية.. وبدأ عصفور بتنظيم ملتقى القاهرة الأول للإبداع الروائى فى عام 1998.. ليعود المجلس الأعلى للثقافة بيتًا للمثقفين المصريين والعرب.. وسعى د. جابر عصفور لإقامة مقر جديد للمجلس الأعلى للثقافة.. بعد أن ضاق المقر القديم فى شارع حسن صبرى بحى الزمالك بأنشطة المجلس.. وبالفعل نجح فى إقامة المقر الحالى الموجود فى ساحة دار الأوبرا المصرية.. وحرص على وضع أكثر من 400 لوحة فنية لكبار فنانى مصر داخل أروقة المجلس.. ولم يكتف بتطوير المبنى فقط.. ولكنه عمل على تطوير وتغيير اللوائح.. فطور مشروع التفرغ للكتاب والمبدعين.. وغير لائحة جوائز الدولة فى الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.. وأقام العديد من المؤتمرات الكبيرة.. التى شارك فيها مبدعون من كل الوطن العربى.. ليتحول المجلس إلى المحرك الأساسى للثقافة المصرية الرسمية.. وليستعيد دور مصر الثقافى على المستوى العربى.. بعد تقزيم هذا الدور نتيجة كامب ديفيد.

 

ورغم هذا الجهد الكبير الذى بذله جابر عصفور.. فى العمل الأكاديمى والعمل العام.. إلا أنه لم ينس طوال الوقت أن رسالته الأهم هى النقد الأدبى.. فكان صاحب مشروع واضح المعالم فى مجال النقد الأدبى.. وقد أشار إلى مشروعه فى مقدمة كتابه قراءات فى النقد الأدبى،  وبشكل عام فإن مشروع جابر عصفور ثقافى تنويرى.. يجمع بين البلاغة والفصاحة.. فى أسلوب له سمات خاصة قال عنها عصفوروقد تعلمنا منذ بداية العهد بالدرس البلاغى والنقدى.. عبارةبوفونالشهيرة.. والتى تقول إن الأسلوب هو الرجل.. وهى عبارة تعنى فى صيغة الجمع ما تعنيه فى صيغة الأفراد.. فالأساليب هى الرجال.. أو هى الأشخاص فى تعدد صفاتهم.. وتنوع أحلامهم.. واختلاف طبائعهم.. وكما يوجد الشخص العبوس.. توجد أيضاً الكتابة العبوسة.. ويعنى ذلك أن تنوع الكتابة واختلاف تأثيرها لا يرجع إلى الكتابة وحدها.. بل إن الكاتب يمزجها بنفسه.. فتخرج كتابة على صورته”.

 

وقد استطاع جابر عصفور أن يخرج بالنقد من حيز الأدب.. إلى رحابة النظرية الثقافية.. ليتحول من مجرد كاتب إلى مفكر صاحب رسالة تنويرية.. يدعو إلى الدولة المدنية.. ويكافح كل أشكال الرجعية الدينية.. ومن كتبه فى هذا المجالنقد ثقافة التخلف - هوامش على دفتر التنوير.. التنوير والدولة المدنية.. تحرير العقل معركة الحداثة.. نحو ثقافة مغايرة.. دفاعاً عن العقلانية.. إلخ”.. واستطاع بهذه الرؤى أن يحفر لنفسه مساراً شديد الخصوصية فى النقد الأدبى.. فالناقد يعيد إنشاء الأعمال الأدبية فى مركب تفسيرى أو تأويلى.. لا يخلو من مقدرة إبداعية.. وهذا ما يفرق بين ناقد وآخر.. فناقد كتابته فاترة.. لأنه لم يمسه هذا اللهب الإبداعى.. ذلك اللهب الذى يجعل الناقد يرى أكثر من غيره.. كما كان جابر عصفور مؤمناً بأن النقد ليس تكرار النظريات.. أو إسقاطها على العمل الأدبى.. ولكن أن يكتشف الناقد فى الأعمال الأدبية من العلاقات.. التى لم يكشفها غيره.. والتى تجعل الكاتب نفسه يدرك ما لم يكن يدركه فى كتابته.

 

ويحتل جابر عصفور مكان الصدارة بين نقاد الشعر العربى.. وكان يرددالشعر هو فرحى المختلس”.. كما قال أمل دنقلأيها الفرح المختلس.. ورغم ذلك هو من جاهر بأننا نعيش زمن الرواية.. ودافع عن رؤيته قائلاًذلك ليس انتقاصاً من الشعر.. ولكنه إقرار واقع.. فالرواية ديوان العرب المحدثين كما قال د. على الراعى.. أو كما قال نجيب محفوظ الرواية هى شعر الدنيا الحديثة”.

 

وقد اتسم جابر عصفور بأنه الناقد الذى فتح عقله ووجدانه.. لكل الاتجاهات والمذاهب والمدارس.. مقتدياً بشيخه د. طه حسين - الذى تعلم منه أن الفهم وسيلة التملك - وأن التملك وسيلة التجاوز.. كما تعلم عصفور من أساتذته فضيلة الاختلاف.. فالاختلاف أساس التقدم.. والتنوع فى الاجتهاد أول خطوات الإضافة الصحيحة.. وانطلاقاً من فضيلة الاختلاف لم يجعل عصفور أفكاره وثناً يعبده.. ولم يجعل من أفكار مخالفيه وثناً يرجمه.. كما تعلم من أساتذته موسوعية التلقى والاستقبال.. فكان من الطبيعى أن يمتلك موسوعية الإنتاج.. كما امتلك عقلية المحلل وقلب المحب.. فجمع ما بين لذة النص ولذة النقد.. بعد أن استطاع نقل النقد الأدبى من الانطباعات الذاتية.. والتحيزات الأيديولوجية.. إلى مجال التحليل النقدى الحداثى.. واجتهاداته الأكاديمية.. مستنداً إلى القراءة الواعية لتراث البلاغة العربية الكلاسيكية.. مع استيعاب كامل للمفاهيم والرؤى الغربية.. ولذلك لم يستطع مخالفوه التشكيك فى دوره النقدى.. كأحد أبرز نقاد الأدب المصرى العربى.

 

ومن أهم سمات جابر عصفور انحيازه الكامل لإعمال العقل.. مهتدياً بفكر المعتزلة وابن رشد والفارابى.. فدافع عن حرية العقيدة والرأي والتعبير.. فكان من الطبيعى أن يصطدم مع دعاة الجمود والتطرف.. وأفرز هذا الصدام العديد من كتبه مثلمواجهة الإرهاب - ضد التعصب - نقد ثقافة التخلف.. محنة التنوير”.. وكانت معركته الكبرى ضد التطرف والإرهاب.. من خلال مئات المقالات فى الدفاع عن حرية الفكر والتعبير.. وأن يكون الاجتهاد الفعلى صاحب الدور الأكبر فى حياتنا.. وقد استثمر وجوده فى المجلس الأعلى للثقافة ليهتم برموز التنوير مثل رفاعة الطهطاوى وطه حسين.

 

وحرص د. جابر عصفور فى كل مراحل حياته على امتلاك رؤية مستقبلية.. وكتب عن ذلك فى مقدمة كتابهزمن جميل مضى”.. ذلك الكتاب الذى يسجل سيرته الذاتيةوأنا من الذين يسلطون أعينهم على المستقبل.. يحلمون بإمكاناته.. التى يمكن أن تنطوى على واقع خلاق.. أفضل من الحاضر والماضى على السواء.. ويوازى ذلك إيمانى بأن عقارب الزمن لا ترجع إلى الوراء.. والثقافة الخلاقة لا تسير وعيناها فى قفاها.. بل وعيناها مسلطة على الآتى الذى يظل فى حاجة إلى كشف.. ومن هذا المنطلق لم يكن ممن يستدعون الماضى ليكون بديلاً للحاضر.. ولكن يعيش الحاضر منطلقاً من إيجابيات وسلبيات الماضى.. وذلك لصناعة المستقبل الأجمل.. ومثل هذا المستقبل لن يتم إلا بالمقاومة بالإبداع.. وتطوير العمل الثقافى.. وتمكين كوادره من صناعة هذا المستقبل.

 

وقد سجل د. عصفور رؤيته عن المستقبل فى كتابهالرهان على المستقبل”.. مؤكداً على أن هذا الرهان لن يتحقق إلا بالقراءة النقدية للتراث.. والانفتاح على الفكر العالمى.. فى محاولة للتمسك بالجذور الوطنية.. وعدم الانجراف أمام التغريب أو الغزو الثقافى.. فقد حرص على دراسة التراث فى محاولة جادة لتأويله.. وتفكيكه وكشف عناصره التكوينية.. ليكون التراث فى جذوره العقلانية أرضاً خصبة.. لتأسيس رؤى التقدم.. لكى لا نكون أسرى لذلك الماضى.. أو أن نعمل على نفيه.. وقد أكد على ذلك فى قولهقراءة التراث تفاعل بين دائرتى الزمن التراثى.. والزمن المعاصر.. والمنطقة التى تختلط فيها الدائرتان - هى منطقة القراءة والتأويل.. التى تخلق علاقة جدلية تحفظ للتراث تاريخه.. وتحفظ لنا سلامة موقفنا فى الحاضر والمستقبل”.. وانطلاقاً من كل هذه الرؤى انحاز طوال الوقت للعقل النقدى.. الذى يجب أن ينهض على قمة المساءلة.. بوصفها المعيار الحاكم لتطور الوعى الإنسانى.. وتطور النظريات العلمية.. كما أهلته تلك الرؤى ليلعب دورالمفكر الحر”..  وهو دور أكبر من دورالناقد الأدبى”.. وبشكل عام كان يدعو إلى حتمية أن يحلق المثقف بجناحين.. الأول معرفة واقعه وتراثه معرفة عميقة.. والثانى معرفة ثقافة الآخر معرفة عميقة أيضاً.. والانفتاح على الآخر هو ما دفعه إلى السعى لإنشاء المركز القومى للترجمة.. انطلاقاً من بدايات الترجمة على يد رفاعة الطهطاوى.. ونهضة الترجمة من خلال مشروع الألف كتاب فى حقبة الستينيات.. وعندما نجح فى إنشاء المركز القومى للترجمة.. توسع فى معرفة الآخر.. من خلال الترجمة عن أكثر من ثلاثين لغة من بينهاالكورية - الكردية - البوسنية - الهولندية - الحبشية القديمة..القازاقية -.. إلخ”.. هذا إلى جانب اللغات المهمةالإنجليزية - الفرنسية - الصينية - الروسية - الإسبانية.. إلخ”.. وذلك قناعة منه بأن الثقافة هى الضياء الأبقى.. ليس هذا فقط بل كان يرى فى كل ظلام بقعة ضوء.. والمثقفين هم الضوء فى ظلمات المجتمع.. والثقافة هى مشاعل التنوير.. التى تطارد ظلمات الجمود.. وقد كان جمود الإخوان والماركسيين سبباً فى ابتعاد جابر عصفور عنهما.. ليس هذا فقط ولكن كراهيته للجمود جعلته يؤمن بالعدل والكرامة الإنسانية.. وفى نقده كان عادلاً.. لا ينظر إلى المبدع من خلال اتجاهه الفكرى.. ولكن من خلال إجادته الإبداعية.

 

وفى النهاية فمن الصعب بل من المستحيل الإلمام بموسوعية جابر عصفور فى دراسة محدودة الصفحات.. خاصة وأنه شخصياً سجل سيرته الذاتية فى كتابه زمن جميل مضى.. كما سجل سيرته الفكرية فى كتابه نظريات معاصرة.. ويظل أهم ملامح سيرة ومسيرة جابر عصفور.. أنه استطاع تأنيث كل مكان عمل فيه.. ليجعل منهمكانة”.. وذلك سيراً على نهج ابن عربى الذى قالالمكان إذا لم يؤنث لا يعول عليه”.. وهكذا كان جابر عصفور أمير النقد وسيده.. ذواقة الإبداع.. وخط الدفاع الأكبر عن المبدع.. وعن الثقافة التى كان يراها أمناً قومياً.. وربما ذلك ما كان يجعله مؤمناً بثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر.. الذى انتصر دوماً للقوة الناعمة والثقافة عمودها الفقرى.. وجعلها أحد جناحى نهضته العظيمة.. مع الجناح الآخر والمتمثل فى العدالة الاجتماعية.. وكان عصفور يؤكد دوماً على حتمية وجود هذين الجناحين.. حتى تحلق الأمة فى فضاء الإبداع والحرية.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة