الكلمة هي الزاد الذي انتقل تطورًا بالإنسانية عبر العصور المختلفة، وهي التي استَحقّت الأمر الإلهي في مُنزلِ كتابه الكريم، وبأولى آياته: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وهي سلاح الراحل المُفكّر العربي "د. جابر عصفور" إذْ استعانَ بها في المعترك الذي اختاره وجهةً تفضي لما يمكنه أن يُسهِم في ضمان التفكُّر فِعلاً ومنهجاً، وإعمالاً لما تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات. وكون التفكر يستند للرحابةِ فضاءًا، لم يكتفِ بالموروث ميداناً، بل انطلق نحو كلِّ وجهةٍ بإمكانها تحقيق ديمومة الأثر المعرفي أداءًا ومجالاً.
كالماء؛ إن جازَ التشبيه كان فقيدنا؛ بانسيابيته ومقدرته، ودوره في إحياء الميت من الحرف لِما هو خيرٌ للإنسان. هو والفعل الماضي مسلكان متوازيان لا يلتقيان، فكما حضوره قامةً وقيمة، تغدو نتاجاته أثراً حاضِراً بل ومستداماً، الأمر الذي يسلبنا نمطية الوفاء وحصره بتعدادِ المناقب أو عنونة صرحٍ هنا ومعلماً هناك بحروف اسمهِ تخليداً، فالكلمة منحته مناعةً قاوم بها رتابة الراهن وحصنته أمام الجمود واقعاً، كما سلَفِه من القامات العربية المصرية.
أدرك الدكتور "عصفور" أن أشرس المعارك تدور حول الوعي والعناصر المكونة له والمحددة لمساراته، هذا المحتوى الفكري الذي ينضوي عليه عقل الفرد، و الذي سبق له وأن صنع حضاراتٍ تركّزت في قلب العالم، واستُهدِفَ ممَنْ لم يفقهوا ثقافة التعايش والاختلاف بل التفوق، إلى الحد الذي دفعَ بهم (مستعمرين) لاستهداف المكون الأساس لمدنية المجتمعات وحداثة الدول، للوعي؛ مُرتَكز التنمية بمجالاتها المختلفة. بشقّ الأنفس خاض كما روّاد مساره المعركة، مواجهاً ما راكمته قوى الاستعمار من وقائع، وما أسقطته على الفرد في منطقتنا بغية تكوين شخصيته بما يضمن توجهاتها. فاستخدم التنوير منهجاً، واستند للعقلانية والتفكّر مُنطلقاً.
عديدةٌ هي الأدوار التي أداها الراحل، فهو الإنسان، ومواطن دولته العريقة، والمُعلّم، والمؤسِّس، لكنه وعبر تتبع مساره، نجد أن أداؤه لم ينحصر بمقتضيات النجاح، بل حرص على استدامة النتائج من خلال المراكمة على ما نهله من نتاجات أسلافه، بالإضافة لغرسه ما يمكنه أن يُثمر مستقبلاً، رغم الشُح الذي يصيب المواسم بين الفينة والأخرى. الأصعب وسط هذا تَمثّل في تلك العقبات التي أعاقت المُضي في بناء الذات. كما الـ (فِكر) الظلامي، ذاك التوصيف الذي لا يتصل بالفكر بُنْيَةً، بل هي قوالب جامدة متوارثة اتخذت من الفطرة الإنسانية والبُعد العقائدي ستاراً يواري خبثَ المتفوقين نقصاً، وعجز المنهزمين إرادةً أولئك الّذين مكّنوا الآخر (المُتربص) حَيثْ أدرك دور مِصر في النهضة الثقافية التي شهدتها المنطقة أواسط القرن الماضي، ومهدَتْ لِمدِّ القومية العربية، فانخرطَ المفكّر "عصفور" لمُحاصرة تلك المحاولات التي لا تزال تستهدف سماحة الإسلام الحنيف ووسطيته، وحماية ملامح عروبتنا، مُتّخَذاً من التَفكّر أداتَه لتحقيق ذلك ما أمْكّنهُ.
تدير مِصرُ الكنانة عديد المعارك، بجبهاتٍ ومجالات مختلفة، مستثمرةً أصالة إنسانها رغم ما يواجهه في معترك الحياة. ليأتِ مفكرنا الراحل كما أمثالِه مِنَ القيم الفكرية، جاهداً صون وطنيةَ المصريّ ما أوتِيَّه ذلك، ليسحب أقسام العقلِ مستهدفاً ما يُقابِل مِمَنْ عاثوا تشويهاً في وجهِها الرصين، رغم ضراوة المعركة في ميدان الفكر والثقافة، مُلتحماُ بطوابير ممتدة من خيرِ أجنادِ الأرض، مُشيْداً بأولئك الذين كشفوا اللثام (مشهداً) عن وجوه اللِئام واقِعاً، وأشاروا لِحقيقة ما تخوضه مصر الدولة، عبر العمل التلفزيوني "الاختيار" الذي صنّفه "عصفور" كأحد أهم الإنتاجات الفكرية، لِكونهِ أسهم جهداً في تعزيز مناعة الفرد. ليدفعنا في مواجهة التساؤل الكبير: هل بالإمكان بث الروح في تلك الجوائز التي حازها (فدائيُّ) الحرف، كي لا تسقط الراية، تلك التي ما انفك صائغوا مفرادتنا الراسخة هويةً ومكانة، يعلونها باتجاه السماء المتلبدة وعياً، مُبَدِّدةً عتمة محاولاتهم العابثة في أصالةِ مُكوِننا؟
وهل بالمقدور جمع شتات فِعلنا نحو منظومةٍ فكرية وثقافية تصون كرامة شعوبنا؟ كجهدِ الراحل الكبير "د. جابر عصفور" إبّان القطيعة التي تعرضت لها مِصر أعقاب توقيع اتفاقية السلام عام 1978، والذي أثمَر. حيثُ أمن أقطارنا، واستقرار شرقنا، لن يتأتَ ما لَم يلتحم رغيفنا وبارودنا بأصالةِ حرفنا.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022