الجمعة 26 ابريل 2024

ثورة الأسعار وثروة الأفكار

مقالات19-3-2022 | 17:46

استيقظت اليوم على خبر جاء على لسان إحدى المصريات المقيمات بألمانيا عن ارتفاع أسعار أكثر من 400 منتج بأحد أقدم وأرخص سلسلة محال البقالة اليهودية الأصل في ألمانيا، والتي يصل عددها إلى آلاف الفروع والمعروفة باسم ألدي Aldi، وهي تعتبر إلى جانب المحلات الأخرى الشبيهة بها كسلسة محلات ليدل Lidl وبيني Penny ونيتو Netto من أرخص سلاسل المحلات التي تبيع كل مستلزمات البقالة والمنازل بشكل عام إن لم تكن الأرخص على الإطلاق، حتى أن بعض الموزعين أو صغار التجار يذهبون لشراء احتياجاتهم من سلاسل المحلات تلك وفقًا للأقرب إليهم على مستوى المنطقة.

صرح المتحدث باسم الشركة نيابة عن Aldi Nord وAldi Sud أنه "عندما تتغير تكاليف الشراء بسبب الوضع الحالي للسوق، فإنه يتعين علينا أيضًا زيادة أسعار المبيعات"، كان هذا أحد أصدق وأقصر التصريحات المباشرة من البائع للمستهلك في أحد أكبر الدول الصناعية الأوروبية، دون رد فعل يذكر.

ولأنني قد شاءت الأقدار أن أعيش لفترات زمنية متقطعة بألمانيا على مدار عشرة سنوات، عاصرت خلالها فترة التحول من العملة الألمانية المارك إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو، فإنه يمكنني القول بأن الشعب الألماني أكثر الشعوب الأوروبية حرصاً في أوجه إنفاقهم، فهم شعب حريص يصل لمرتبة البُخل في كثير من الأحيان (بالطبع وفقاً لمفاهيمنا) مهما بلغ حد ودرجة الثراء، فقد كان جارنا في مدينة فرانكفورت يمتلك سيارتين فخمتين من ماركات مرسيدس وبي إم دبليو، وكنت أراه على مدار 3 سنوات يقوم بتنظيفهما يومياً بنفس الملابس، ثم أراه مرات أخرى وهو عائد إلى المنزل أو متجه خارجه بنفس الملابس، ذلك لأن الملابس وفقاً للعقلية الألمانية لا تأتي في المرتبة الأولى للأولويات، مثل شعوب أوروبية أخرى وأتصور أن الإيطاليين والفرنسيين والإنجليز قد يخالفوهم في ذلك، برغم تغير المفاهيم مع الأجيال الجديدة واتجاهها ناحية مزيد من الحرص رغماً عن كل مغريات الانفتاح والعولمة.

عودة إلى ارتفاع الأسعار في أحد أقدم وأرخص أسواق ألمانيا لابتياع البقالة الأساسية، أقول وأؤكد أنه لن تجد مواطناً واحداً سيقوم بالاستجداء أو ممارسة الابتزاز العاطفي على الآخرين في المنظومة الديموجرافية، أو أمام الإعلام لإهانة الحكومة أو إحراجها، لا من منطلق السلوكيات المتأدبة بقدر ما هو انعكاس لحجم الوعي المعروف عند الشعب الألماني، ومتابعته للأحداث العالمية التي أسفرت عن مجموعة تحديات تعدى أثرها حدود الإقليم الواحد، وهو ما يدفع بالمواطن الألماني في المعتاد إلى تطبيق فقه الاستغناء أو المواءمة المعروفة عنده، وذلك عن طريق مواءمة احتياجاته الفعلية بما يتناسب مع دخله ومستوى الأسعار، أو الاستبدال بسلع أرخص، أو الاستغناء من الأساس، وهو الأمر الذي قد ذكرته في مقالي السابق عن عبادة التعفف والاستغناء، أي الشراء بقدر الحاجة، والاستهلاك بقدر الدخل لا بقدر الرغبة، إما من باب الزهد بمفهوم الدين، أو من باب الترفع فوق الحاجة بمفهوم التحضر.

خلقنا الله طبقات منذ بدء الخليقة، وأراد عز وجل بذلك تطبيق كل مبادئ الاختلاف والتنوع على سبيل الرحمة، فحتى النفس البشرية بفطرتها تميل إلى اختلاف أصناف الأكل والشراب والملبس وحتى تعدد العلاقات واختلافها وتنوعها، وحتى بطاريات الطاقة لا تتجاذب أطرافها إن كانت متطابقة، فالأمر يستلزم جانباً موجباً والآخر سالباً حتى تُسْتَكْمَل دائرة الطاقة، ذلك أن التشابه والتكرار لا يخلق باباً للرحمة وتبادل الأدوار حتى يكمل كل منا الآخر بشكل ما وفي اتجاه ما.

هذا وإنه من باب المنطق فلم نخلق على سبيل ضمان رغد العيش، فمن منا قد وجد طريقه للحياة وهو يضمن مستقبل غده، الحياة بطبيعتها متغيرة ومختلفة ولا يمكن منحها كارت ضمان ساري المفعول لآخر العمر، العالم هو انعكاس لأفعال الأقوياء والضعفاء فينا، فالقوي يتحكم في مصير الضعيف، والضعيف قرر أن يترك نفسه فريسة سهلة وبالتبعية وجبة غير مشبعة للقوي المتجبر الذي لن تقف محاولاته إلا بالمواجهة بنفس أسلحة التسلح بالعلم لا استيراده، فالمعركة أصبحت لا "معركة غذاء" بقدر ما هي "معركة العلم" الذي يجلب الغذاء والأمن "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".

قد خلقني الله وأنشأني والداي على سياسة التعفف تلك، وعدم إلقاء اللوم على الآخر، فإذا كان واقعي لا يناسبني ولا أرضى عنه، فعلي أن أسعى وأجتهد لإحداث التغيير لنفسي ولعالمي المحيط، أما صيغ الولولة والنحيب والشكوى والململة فلا تليق إلا بالمتواكلين، المتخاذلين في حق أنفسهم قبل أن يكونوا متخاذلين في حق مجتمعاتهم وأبنائهم من بعدهم.

ثوروا على أنفسكم ومؤهلاتكم ومهاراتكم، تفوقوا على ضعفكم وانتصروا لأهدافكم لا أحلامكم.

Dr.Randa
Dr.Radwa