لم تكن مفاجئة أن ينال عمل درامى جيد هو "نقل عام" بطولة محمود حميدة وسوسن بدر ويتحدث عن الطبقة العاملة من خلال أسرة عامل لديه الكثير من الأبناء.
المسلسل كان بمثابة عودة لدراما الاهتمام بالعمال والتى تجاهلتها الدراما والسينما لفترة طويلة .. خاصة بعد رحيل كتاب كبار خرجوا من طبقة العمال وكتبوا عن طبقتهم بحب .. أمثال الأديب الكبير خيرى شلبى والذى عمل لفترة كعامل تراحيل.
فالرجل كان يعشق الكتابة عنهم لدرجة أن لقبه الكثيرون بـ"أديب المُهمشين"، لاهتمامه بالكتابة عن المجتمعات المهمشة داخل المجتمع الكبير.
" خيرى شلبي" أول من جعل الكُمسري، والقهوجي، والجزمجي، والنجار، والحداد، أبطالا للأعمال الأدبية والدرامية، كما حكى أيضًا عن سُكان المقابر والبلطجية.
عُرف "شلبي" بأنه عم "الحكّايين"، فهو أفضل من حكى ببساطة عن عُمق وشخصية المواطن البسيط، إذ عمل في فترة من فترات حياته عامل تراحيل عايشَهم وتأثّر بهم، وكان هو الشخص الوحيد الذي كان بحوزته "أقلام وكراريس" وهو ما صوّره في أحد رواياته "السنيورة" و"الأوباش."
كانت تجربة ثرية جدًا غيرت مجرى حياته، وفتحت أمامه آفاقا جديدة إذ أن العمال والأنفار معظمهم لا يقرأون ولا يكتبون، فكان هو من يقوم بكتابة الخطابات لهم والحكي لهم، ومن هذه اللحظة أدرك "شلبي" أن الحكي أداة قوية وسحرية للتواصل مع البشر والوصول إلى عقولهم وقلوبهم.
لم يكن عمنا خيرى شلبى متفردا فى بداياته كعامل .. عبقرى آخر فى الكتابة هو عمنا إبراهيم أصلان.. بدأ حياته بوسطجى ..فلم يحقق أصلان تعليما منتظما منذ الصغر، فقد التحق بالكتاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتى استقر فى مدرسة لتعليم فنون السجاد لكنه تركها إلى الدراسة بمدرسة صناعية، والتحق إبراهيم أصلان فى بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كبوسطجى ثم فى أحد المكاتب المخصصة للبريد وهى التجربة التى ألهمته مجموعته القصصية "وردية ليل".
ونال الكاتب المصرى الكبير إبراهيم أصلان شهرة وجمهورًا عريضًا من خلال رواياته، ومن خلال الأفلام التى بنيت على رواياته، والتى استطاع بها أن يلتحم بالمجتمع المصرى بكل مكوناته ويتحدث فيها عن العمال والمهمشين.
جمال الغيطانى ..الأديب الكبير هو أيضا عمل لفترة من حياته كعامل .. فقد تلقى تعليمه الابتدائى فى مدرسة عبد الرحمن كتخدا، وأكمله فى مدرسة الجمالية الابتدائية، وفى عام 1959 أنهى الإعدادية من مدرسة محمد على الإعدادية، ثم التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية.
استطاع الغيطانى فى عام 1963م أن يعمل كرسام فى المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجى، حيث استمر بالعمل مع المؤسسة إلى عام 1965، وتم اعتقاله فى أكتوبر 1966 على خلفيات سياسية، وأطلق سراحه فى مارس 1967، حيث عمل سكرتيرًا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفنانى خان الخليلى وذلك إلى عام 1969م.
وفى عام 1969، مرة أخرى استبدل الغيطانى عمله ليصبح مراسلًا حربيًا فى جبهات القتال وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم، وفى عام 1974 انتقل للعمل فى قسم التحقيقات الصحفية، وبعد أحد عشر عامًا فى 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيسًا للقسم الأدبى بأخبار اليوم، وقام بتأسيس جريدة أخبار الأدب فى عام 1993م، وشغل منصب رئيس التحرير.
بدايات هؤلاء الكتاب الكبار كعمال كان لها أبرز الأثر فى تقديم أعمال درامية تناقش حياة العامل .. وهو الأمر الذى اختفى فعليا من سنوات طويلة .
المفارقة أن السينما العالمية بدأت أصلا بمشاهد عن العمال ..وكان للعمال نصيب في أولى اللقطات التي صوَّرتها السينما، ويتفق أغلب المؤرخين على أن بداية فن السينما كما نعرفها الآن كانت فى يوم 28 ديسمبر 1895، عندما عرض الأخوان لوميير أول “مشهد تصويري متحرك” يظهر فيه خروج العمال من أحد مصانع مدينة ليون الفرنسية في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، للاستمتاع بفترة الاستراحة وتناول الطعام.
أما فى مصر وإذا ما استبعدنا فيلم سواق الأتوبيس لأنه يناقش قضية سياسية فى الأساس فإن الدراما والسينما المصرية تجاهلت فى آخر 20 سنة على الأقل تماما قضايا العمال وعلى العكس من بدايات السينما فى مصر والتى قدمت على سبيل المثال لا الحصر، (الورشة)، وقد عرض في 28 نوفمبر عام 1940، أي بعد 17 سنة على عرض أول فيلم مصري، وترتيبه رقم (117) في تاريخ إنتاج وعرض الأفلام في مصر وفقا لما ذكره المؤرخ والناقد السينمائي الكبير الأستاذ محمود قاسم في موسوعته المهمة (دليل الأفلام في القرن العشرين). الفيلم إخراج استيفان روستي، وبطولة عزيزة أمير ومحمود ذوالفقار وأنور وجدي، ورغم أن الفيلم مرّ على أحوال ورشة صغيرة، وليس مصنعا كبيرا، إلا أن له السبق في أن يرى الجمهور العامل على الشاشة للمرة الأولى مرتديًا الأفرول ويكدح ويعرق وهو يصلح السيارات المعطلة.
أما فيلم (لو كنت غني)، الذي أخرجه بركات، وعرض في 26 نوفمبر 1942، فيناقش بخفة ظل قضية الغنى والفقر، أو كما قال بطل الفيلم بشارة واكيم في حواره مع يحيى شاهين إن العالم منقسم إلى طبقتين: أغنياء وفقراء، وفي الفيلم أيضا يشكو عامل المطبعة عبدالفتاح القصري من غلاء المعيشة (اللحم ارتفع سعره من أربعة قروش للرطل، ووصل إلى ثمانية)، ويطالب صاحب المطبعة أن يزيد راتبه، لكنه يتلقى الرفض والمعاملة الخشنة.
اللافت والمثير أن كلمة (العامل) لم تتصدر اسم أي فيلم مصري سوى هذا الفيلم الذي أخرجه أحمد كامل مرسي وعرض في 11 فبراير 1943 باسم (العامل)، حيث قام بالبطولة كل من حسين صدقي وفاطمة رشدي ومديحة يسري وزكي طليمات، ومن أسف لا توجد أي نسخة من الفيلم على "يوتيوب" أو في أي موقع آخر، بحسب ما ذكره أيضا الناقد الكبير محمود قاسم في موسوعته عن ملخص الفيلم يؤكد أنه فيلم يدافع عن مصالح العمال وحقوقهم، فبطل الفيلم عامل مكافح يطالب بتوفير تأمين على حياة زملاءه من العمال وإصابتهم في العمل، ويحرض رفاقه العمال على الإضراب عن العمل باعتباره سلاحا مشروعًا ضد جشع أصحاب المصانع، وفي النهاية ينجح في مسعاه.
وفي 19 أكتوبر 1944 يقدم يوسف وهبي فيلم (ابن الحداد) من تأليفه وإخراجه وبطولته مع مديحة يسري وفؤاد شفيق وعلوية جميل، وكعادة الرائد المسرحي الكبير يحتشد الفيلم بعبارات ضخمة تمتدح العامل المصري ومهارته وصبره وتواضعه وتفوقه على الأجانب، من خلال يوسف وهبي ابن الحداد الذي سافر إلى أوروبا وتعلم في جامعاتها، وعاد إلى الحارة ليطور ورشة الحدادة الخاصة بأبيه، ويحولها إلى مصنع كبير، حيث شاهدنا العمال وهم منهمكون في تعلم تشغيل الآلات الجديدة (المستوردة من أوروبا)، وكيف يحنو عليهم ويرعاهم صاحب المصنع الطيب الذي هو يوسف وهبي نفسه.
ولعل فيلم (المرأة) هو الفيلم المصري الوحيد الذي صورت مناظره الخارجية (بمصانع الزجاج الأهلية/ محمد سيد ياسين بك) كما كتب في المقدمة، والفيلم عرض في 25 يوليو 1949، وأخرجه عبدالفتاح حسن، وتقمص الشخصيات الرئيسة كل من المطربة أحلام وكمال الشناوي ومحمود السباع وسميحة توفيق وماري منيب، ورغم أننا شهدنا بعض اللقطات داخل المصنع إلا أن قصة الفيلم تدور حول صراع شقيقين (واحد طيب، والآخر شرير) من أجل الاستحواذ على قلب فتاة، وكالعادة ينتصر الطيب ويفوز بها، وهكذا ضاعت فرصة لنرى كيف حال العمال ومشكلاتهم وطموحاتهم وآلامهم.
أما فيلم (الأسطى حسن) الذي أخرجه صلاح أبوسيف وعرض في 26 يونيو 1952، أي قبل ثورة يوليو بشهر تقريبا، فلم يختلف عن إدانة الأثرياء الذي يقضون حياتهم في تناول الخمر ولعب القمار، بينما الفقراء ومعهم عمال الورشة طيبون ومتكاتفون، وأنت رأيت كيف أن بطل الفيلم العامل فريد شوقي الذي كان ناقما على فقره كارها للحكمة القائلة (القناعة كنز لا يفنى) عاد بعد تجربة تعيسة مع المرأة (الثرية) نادما على هجره للحارة!
بالطبع ليس بمقدور السينما أن تتجاهل وجود شخصية العامل، لكنها تمكّنت عبر تاريخها الطويل أن تتجنَّب قدر الإمكان همومه ومشكلاته، ولم تسع بشكل جاد إلى تناول قضاياه أو المساهمة في المطالبة بحقوقه.