السبت 20 ابريل 2024

في فقه المِساحات.. البصيرة تنتصر

مقالات30-7-2022 | 09:19

منحني الله عز وجل نعماً متعددة، كما رزقني اختبارات صبر متعددة أيضاً، والحمد والشكر له على كامل النعم ما صغر منها وما كبر، فميزان الله حق وعدل وواجب النفاذ لا محالة، ومن تلك النعم هي نعمة البصر والبصيرة، فليس كل مبصر يبصر الحق، وليس كل كفيف منعدم البصيرة، بل على العكس فكثير من الأكْفَاء يمتلكون بصيرة تتخطى بمراحل رؤية المبصرين المحدودة، ومنهم الكثيرين من المبصرين حولي ممن تشاركت معهم بعض الظروف المعيشية أو الحياتية في الداخل والخارج ويتنكرون لكل نعم الداخل على حساب الخارج، فقط لأنه في الخارج بطبيعة نظرية "عقدة الخواجة". فطبيعة عمل والدي -رحمة الله عليه ورضوانه- جعلتنا نتنقل بين عدة دول على مدار سنوات طوال، منهم الشيوعي ومنهم الديموقراطي ومنهم الملكي، ومن هذا المنطلق منحتني تلك الخبرة المختلطة رؤى متسعة الأفق مهدت لي بنسبة كبيرة في العقدين الأخيرين من عمري، وجعلتني أجتهد لتحقيق ما دأب والدي على تعليمه لي في التمهل وتحليل ما بين السطور وعدم الانسياق خلف الآراء المتطرفة أو الحادة، حتى وإن كثر مردديها ومتبنيها، فطريق البصيرة عادة يقل سالكيه. فقد عاصرت الشيوعية في أعظم حالاتها في الاتحاد السوفييتي السابق خلال حقبة الثمانينات، وشاهدت بأم عيني الحالة البائسة التي كان يعيش عليها الشعب الروسي، ويحياها في طوابير وطوابير لا تنتهي في كل مناحي الحياة، مع انضباط كامل لا فوضى فيه ولا صوت، حتى أن العاملة الروسية بمنزلنا والتي كانت تعتبر من الصعيد الروسي الجنوبي (أغلب الظن ستكون دولة من الدول التي استقلت بعد الانهيار)، كانت تبدو عليها علامات الفقر إلى حد كبير، والمدرس الروسي لمادة الرياضيات الذي كان يأتي لي ولأخي، كان يقوم بتمرير إصبعه على ما تبقى من فتات في طبق التقديم، حتى أنه كان أحياناً يطلب المزيد من حلويات أمي. وفي بعض دول الخليح، شاهدت أيضاً بعض الأحياء شديدة الفقر، متعددة البنايات المتهالكة، سيئة الرائحة عن بعد، محدودة المساحة، مكتظة السكان، وكلهم بالطبع من الوافدين من دول آسيا ممن يسكنون بالعشرات في الشقة الواحدة، ويقومون بتأجير السرير الواحد وأحياناً المرتبة فقط لعدد من الساعات، حياة من أصعب ما يمكن، إن جاز توصيفها بالحياة من الأصل. وفي ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وانجلترا، وغيرهم من الدول الأوروبية، وعلى رأسهم الدول الاسكندنافية كالسويد والدنمارك والنرويج، تجد مساحات الشقق من أضيق ما يمكن وخاصة في العواصم السياسية المكتظة، فأكبرهم قد لا تتعدى مساحته 60 متراً فقط، إلى الدرجة التي قد يمكنك أن تتذكر معها المشهد التاريخي للفنان محمد صبحي، والفنانة سعاد نصر في مسرحية الهمجي داخل شقتهم التي لا تتعدى المترات، ويناولون بعضهما البعض كل الاستخدامات المنزلية أثناء الجلوس. فالشقق الواسعة بالمفهوم الأوروبي قد لا تتعدى المئة متر برغم وسع المساحة الجغرافية لكل دولة، إلا أنها تعتمد على الاستخدام الأمثل للمساحات الصغيرة بديلاً عن اللجوء لتأسيس شققاً بمساحات واسعة، وهو الأمر الذي جعل من شهرة سلسلة محلات أيكيا السويدية تتعدى الحدود، فقط لأنها تقدم أفكاراً ذكية لاستغلال المساحات بالشكل الأمثل، بما يعطي أكبر عدد ممكن من السكان الفرصة في السكن قرب العاصمة، مع الوضع في الاعتبار أنها ستمثل أعلى قيمة إيجارية، وكلما خرجت عن العمران وبعدت عن العاصمة كلما زادت فرصتك في مساحة أكبر وقيمة إيجارية أقل، هي مفاهيم عامة تشترك فيها القارة الأوروبية، ولا نشترك فيها نحن حتى من منطلق التأمل والتحليل. فنحن نتضرر من المساحات المطروحة للشقق سواء عن طريق الدولة أو عن طريق شركات خاصة (برغم وسعها مقارنة بمثيلاتها في دول الغرب المتحضر)، ونطالب بقربها من المدينة، ونشكو غلوها، وفي نفس الوقت نُحَرّم دعوات تنظيم الأسرة، وندعو للإنجاب بدون تنظيم بدعوى التوكل باعتبار أن "العيل بييجي برزقه"، وهو في حقيقية الأمر تواكل مُر لا توكل، وعلاوة على هذا نرغب في البقاء لأقرب مسافة من الأهل ومناطق العمل، ونشتكي زحام الطرق والمواصلات!!! هي خلطة رغبات ودعوات يتعجب لها العاقل والرزين، ولاسيما في ضوء ارتفاع أصوات المطالبين بالحقوق، وخفوت أصوات الداعين لتقديم الواجبات في المقابل. وبرغم كل هذا، فالاتجاه العام للدولة المصرية منذ عدة سنوات هو التمدد العمراني بتعمير الصحراء، وتعديل الموجود بالفعل بالتخطيط العمراني، بحيث يقابل الفعلي بالمستقبلي بقدر مشترك من جودة البنية التحتية، وبما يتسع للجميع بالقدر المعقول من المساحات الجغرافية، شريطة ألا تجور نسبة المواليد الجدد على كل ما هو مخطط له. وكما يحلم الجميع بمساحات مترامية الأطراف من العمران، أحلم بدوري بمساحات أكبر من القدرة العقلية على استيعاب الواقع وتحدياته، ورغبات المواطن وقدراته. فلنا واقع لا بد وأن نحمد الله عليه، ولنا مستقبل ينتظرنا لا بد وأن نعمل له.