بانَتْ سُعادُ فَقَلْبى اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ.
هذه الأبيات لشاعر الرسول ومداحه "كعب بن زهير"، استهل بها قصيدته الشهيرة البردة فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وكساه رسول الله بردته مكافأة له على هذه القصيدة وهذا سر تسميتها بـ"البردة".
وكما ترون الأبيات الأولى من القصيدة غزل صريح، كعادة شعراء العرب فى استهلال قصائدهم بالغزل، ولم ينكر النبى الذى صلى الله عليه وسلم على شاعره غزله بحبيبته سعاد، بل أنصت إلى القصيدة كاملة بما فيها أبيات الغزل، والعلماء يسمون هذا، بالسنة التقريرية، يعنى سكوت النبى صلى الله عليه وسلم على تغزل الشاعر بحبيبته سعاد إقرار ودليل إباحة.
وهذا واضح فيه طبعاً مشروعية الغناء العفيف الذى يخاطب الروح والقلب ولا يثير الغرائز إلى الحرام. وفى الوقت الذى رأى فيه بعض الفقهاء والعلماء القدامى تحريم الموسيقى والغناء والطرب بكل أشكاله وألوانه أمثال الطبرى وابن الصلاح وابن القيم وابن رجب الحنبلى وابن تيمية. ذهب أيضاً كثير من الأئمة والفقهاء القدامى إلى إباحة الموسيقى والغناء والطرب إذا كان ذلك بعيداً عن مظاهر الفساد والانحلال لأنهم لم يروا حديثاً صحيحاً صريحاً فى تحريم الغناء على الإطلاق.
وممن ذهب إلى هذا الرأى ابن حزم وابن القيسرانى والشوكانى وأبوحامد الغزالى وابن دقيق العيد والعز بن عبدالسلام وغيرهم....
واستدلو بالروايات الآتية:
تقول السيدة عائشة رضى الله عنها: دخلَ على أبو بكر، وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تُغنِّيان بِما تقاوَلَتْ به الأنصار يومبُعاث، قالت: وليست بِمُغنيتَيْن، فقال أبو بكر: أَبِمَزمور الشَّيطان فى بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟! وذلك فى يوم عيد، فقالرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يا أبا بَكْر، إنَّ لكلِّ قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا
وروى البخارى ومسلمٌ وأحمد عن عائشة أنَّها زفَّت امرأة من الأنصار، فقال النبِى "يا عائشة، ما كان معكم من لَهْو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو".
يعتبر المجيزون للموسيقى أن الإسلام أسهم فى تنمية الإحساس الجمالى لدى الإنسان، ويسعى الإسلام دائماً إلى الارتفاع بذوقه، والرقى بملكاته وطاقاته النفسية والروحية والعقلية، وارتقاء سلم السمو الفنى سواءً أكان غناءً أم شعراً أم تصويراً، لا يتعارض مع شريعة الإسلام.
يقول ابن حزم فى هذه المسألة: "إنَّ الغناء مُباح"، وبنَى كلامه على ضعف ما ورد من روايات تحرم الغناء مطلقا، ويرى ابن حزم أن استماع الموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه فى البساتين ولبس الثياب الملونة.
ويقول الإمام أبو حامد الغزالى فى بيان تحريم الغناء والموسيقى فى الملاهى وشرب الخمر: "فالغناء والموسيقى فى الملاهى محرم لتحريم الخمر؛ لأنّ الغناء فى الملاهى يدعو إلى شرب الخمر".
ونقد الإمام أبو حامد الغزالى جميع القائلين بتحريم الغناء من العلماء المسلمين، بقوله أن الشافعى لم يحرم الغناء أصلاً، ويقدم على ذلك دليلا وهو قول يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعى رحمه الله عن إباحة أهل المدينة السماع، فقال الشافعي: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلاّ ما كان منه فى الأوصاف. ويضيف الإمام الغزالي: "وأمّا الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح".
وورد عنه أيضاً "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج".
وعن الحديث الذى يستند اليه من يحرم الغناء والمعازف وهو " لَيَكُوْنَنَّ فى أُمَّتِـى أقوامٌ يَسْتَـحِلُّونَ الحر (أو الـخَزَّ) والحرير والـخَمْرَوالـمعازِفَ"
ذهب أغلب من روى الحديث أن الوعيد ليس على المعازف؛ يعنى أن المعازف المحرمة هى ما كانت فى مجالس الزنى والخمر.
ومن هنا نعلم دقة الإمام البخاري، فإنه قد استشهد بهذا الحديث فى "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه"، ولم يذكره البتة فى باب المعازف. لأن الشيء الذى اتفق عليه كل رواة الحديث بلا خلاف منهم، هو إنزال الوعيد على من استحل شرب الخمر بتسميتها بغير اسمها. فليس من المعقول أن يهمل البخارى إعادة الحديث فى باب آخر يخص المعازف.
قال القاضى المالكى أبو بكر بن العربى فى كتاب "الأحكام ": «لم يصح فى التحريم شيء»( يعنى تحريم الغناء) وقال ابن حزم في المحلى: «ولا يصح فى هذا الباب شيء أبداً. وكل ما فيه موضوع». وصرح عدد من حفاظ الحديث بأن كل حديث صريح جاء فى تحريم المعازف فهو موضوع.
الشيوخ المصريون والغناء
وقد برز فى القرن الماضى عدد من شيوخ القراءة والابتهال على الساحة المصرية والعالمية وأثروا فى جيل عريض من المسلمين حول العالم،ومعظم هؤلاء تعلمو الموسيقى والمقامات الموسيقية على يد موسيقيين أو جمعتهم جلسات مع مطربين مصريين فى هذا الزمن الجميل..
فعندما سُئل الشيخ الراحل، عبدالباسط عبدالصمد رحمه الله، عن أحبّ الأصوات إلى قلبه، فى حوار تليفزيونى أُجرى معه، قال: «أنا أحب كل صوت جميل، والصوت الجميل بزيادة، أسمعه من سيدة الغناء، كوكب الشرق، صوت أم كلثوم»، وأضاف أنه يستمع للموسيقى ولا يرى فى ذلك أى ضرر.
وفى عدد مجلة «أهل الفن»، رقم 78، سُئل الشيخ عبدالباسط عن المطرب الذى يُشجيه، فأجاب: «عبدالحليم»، وعندما سأله المحرر عن أغنيته المفضلة، قال «الحلو حياتي».
وفى حوار مع حفيدة الشيخ محمد رفعت، قالت إنّ جدها جمعته علاقة طيبة بالفنانين والمثقفين من علماء الأزهر ورجال الأزهر، وذلك لأنه جعل من منزله الذى عاش فيه بالبغالة خلف مسجد السيدة زينب المكون من ثلاثة أدوار، ما يسمى بالصالون الثقافى، وكان دائم التردد على الصالون الموسيقار محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وليلى مراد والشاعر أحمد رامى والفنان كامل الشناوى، وفقًا لحديث والدها.
النقشبندى وأم كلثوم
الشيخ سيد النقشبندى وفى حوار مع إذاعى، عندما سأله المذيع عن أحب المُطربين إلى قلبه، وألصقهم للمقامات الشرقية، قال: صوت أم كلثوم، وعندما طلب منه أن يغنى مقطعًا مُحببًا إلى قلبه، لم يتردد وبادره بمقطع «أبا الزهراء قد جاوزت مدحي» من قصيدة «سلوا قلبي» لأمير الشعراء التى غنتها أم كلثوم.
ويستكمِل النقشبندى حكاياته عن أم كلثوم، وقت أن كان صبيًا، قائلًا: «حضرتك عارف إنّ أم كلثوم بدأت تغنى القصائد سنة 42 و43، وكُنت بغنلها وقولت لها كده فى لقاء معاها فى سيدى أحمدالبدوي، أنا قولتلها إنى كُنت زمان بغنّى القصائد بتاعتك، وهى سُرّت كثيراً بهذا».
يقول الشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله فى حديث إذاعى، إنه كان يقابل السيدة أم كلثوم عادةً فى الإذاعة، وفى إحدى المرّات دعته لحضور بروفة لإحدى أغانيها، وسألته عن رأيه، ففوجئت بخبرته الموسيقيّة وتحليله لكل مقطع مما غنته، فسألته كيف اكتسب تلك الخبرة، وهل عزف أى آلةٍ من قبل؟ فأجاب بأنه اكتسب ذوقه الموسيقى وعلمه بالمقامات وخلافه سماعيًّا.
وخلاصة القول: إن الأصل فى الموسيقى والغناء الإباحة، ولا يكونا حراماً إلا إذا ارتبطا بالابتذال والتحريض على الفسوق والعصيان وكان هذا هو جوابى لمن سألنى هذا السؤال الذى جعلته عنواناً لهذا المقال.
والله أعلم